إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٥)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
الأسرة .. والحب:
إن الأسرة، هى الوحدة الإجتماعية الأساسية، التى فيها يمارس الحب ويمتحن، ويمحص، لينمو، ويتسع، ليشمل القطاعات الأوسع التى ذكرناها آنفا .
والأسرة إنّما تبدأ بالعلاقة بين المرأة والرجل فى الزواج، وفى هذه العلاقة، المرأة هى الأصل.. وهذا الحب، المتعلق بالمرأة هو الذى يتبادر إلى أذهان معظم الناس، متى ما ذكرت كلمة الحب، وعليه قامت معظم الأعمال الأدبية والفنية، فى كل تاريخ البشر وإلى اليوم، وهذا فى حد ذاته دليل على أهمية هذا الحب، وعلى مدى إنشغال الناس به.. والمرأة، فى العلاقة بين المرأة والرجل، هى العنصر الأكثر أهمية، والأكثر خطورة، ونحن هنا لإستشعار هذه الأهمية وهذه الخطورة، نورد حديث الأستاذ محمود عن المرأة، فى إفتتاحية باب المرأة بجريدة الجمهورية، فقد جاء فيه:
(هذا باب المرأة .. وهو باب نحب أن يدخله الداخلون سجداً، وذلك لأنه يعالج شأناً هو أخطر شئون الأرض على الإطلاق، وهو المرأة .. والمرأة فى الأرض كالقلب فى الجسد. إذا صلحت، صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائره ..
إن المرأة فى حقيقة النظام الإجتماعى المتمدين أولى بالعناية من الرجل إن صح أن هنالك أولية بينهما.. ذلك لأنه يتأثر بها أكثر مما يؤثر فيها، وإن خيل له غروره غير ذلك .. وحين تعرف المرأة سبل المكارم، تنشئ على سمتها الرجل طفلا، وتحمله على جادتها زوجاً، وتغريه بها فى جميع مسالك الحياة وهو أجنبى عنها ..
إن حواء حين أغرت آدم ـ أغوته ثم لم يستعصم .. وهى لم تغره إلا وهى تبغى به الخير، ولكن جهلها كان وبالا عليه وعليها . وهو لم يستعصم عن غوايتها لأنها رسولة حياة تدعو إليها فى إلحاح متصل حتى لكأن كل جارحة من جسدها لساناً يلهج بالدعوة .. فآدم طالب حياة فى المكان الأول، وكل الناس طلاب حياة، فمن لم يستجب للحياة لايستجيب لشئ .
ولو أن حواء عرفت سبيل الحياة، لكانت دعوتها لآدم دعوة صالحة لا غواية فيها، ولاعصيان .. ولو تعلمت حواءاتنا لرشد آدمونا .. فإنك إن تعلم إمرأة تعلم أمة، وإن تعلم رجلا تعلم فردا ..) .. هذا هو وضع المرأة من المجتمع، وضع القلب من الجسد .. وهذا هو وضعها من الرجل، فهى داعية حياة، ولا يستطيع الرجل أن يستعصم عن دعوة الحياة، ولذلك المرأة عنده، مرغوبة، و محبوبة.. وهذا يجعل حبها يطغى على صور الحب الأخرى، لأنه حب يرتبط بصورة مباشرة بالدعوة للحياة والتعبير عنها .. والغربيون يسمون الحب بين المرأة والرجل، بالحب الجنسى EROTIC LOVE ، وفى الحق فإن الجنس يمثل بعداً أساسياً ، من أبعاد الحب، ولكنه فى الأساس حب إنسانى، والجنس صورة من صور التعبير عنه، وهذا يقودنا مرة أخرى للحديث عن الجنس والسلام .. فالجنس هو من اكثر صور التعبير عن الحياة أصالة ، وإلى ذلك يرجع تأثيره الكبير على حياة المجتمعات والأفراد حتى أن عالم من علماء التحليل النفسى، مثل فرويد - جعله مركزاً لتصوراته للحياة، وللسلوك البشرى، ورد إليه أسباب العدوان والحروب .. وقد سبق أن ذكرنا أن أول كبت فى المجتمع وقع على الشهوة الجنسية، وكانت أول خطيئة مرتبطة به .. ولقد أخطأت الحضارة الغربية، خطأ فادحا، عندما رفعت القيود عن السلوك الجنسى، تحت إسم الثورة الجنسية، أو تحرير الغرائز.. وهذا العمل هو المسئول عن تفكك الأسرة فى المجتمعات الغربية، وهو المسئول عن الكثير من التفكك، والتمزق والقلق، الذى استشرى فى المجتمعات الغربية .. فلم تحقق (الثورة الجنسية) ما كان يصبو إليه أصحابها من سعادة، بل على العكس من ذلك، تسببت فى الكثير جداً من التعاسة، وعدم الإستقرار فى السلوك الفردى، والجماعى .
لقد كتب بيتر مارين PETER MARIN عن (الثورة الجنسية) مقالا بمجلة (علم النفس اليوم - PSYCHOLOGY TODAY) نورد عنه هنا بعض المقتطفات، عن نتائج هذه الثورة .. فعن أهداف تلك الثورة عند مفكريها يقول: (كثير من الناس ينظرون إلى فكرة التحرير ـ سواء أكانت جنسية أو سياسية أو إجتماعية ـ على أنها مرادفة للسعادة أو الإشباع . وفى سياق الحرية الجنسية سواء وجدناها فى مؤلفات فرويد، أو فى مؤلفات تلك الكوكبة العنيدة من المتمردين جنسياً كما يمثلها رجال ونساء مختلفون، تمام الإختلاف، مثل "مرجريت سايمر" و "هافلوك أليس" و "جون كاوبريادز" و "فلهلم رايخ" فإن كل ما قيل لتأييد الحرية الجنسية يتضمن أنها سوف تعمل على تحويل، وإستعادة، جوانب الحياة العاطفية، والعلاقية جميعاً، ولما كان غياب الحياة الجنسية الناجحة يؤخذ على أنه علة المرض، والألم، فقد ترتب على ذلك أن وجود مثل هذه الحياة سيجلب السعادة حتماُ فى أعقابه، والسعادة الإجتماعية فى نهاية المطاف)1 .. ولكن هل جلبت الحرية الجنسية السعادة فعلا؟ يقول بيتر مارين: (إن الحرية الجنسية التى استقرت خلال العقدين الأخيرين لم تواكبها زيادة فى السعادة التى افترض كثير من الناس أنها سوف تعقب تحرير الأعراف (جمع عرف) الجنسية) 2 ويقول: (إننى أعتقد أنه لامحيص من أن نعترف جميعاً ـ آياً كان إحجامنا عن هذا الإعتراف ـ بأن هناك شيئا من الحق مع أولئك (الرجعيين) ـ إبتداء من زملاء فرويد، الذين ذهبوا إلى أن التغيرات العريضة المتعمدة فى أنظمة محرماتنا وترخصاتنا الجنسية سترخى العنان ـ بيننا ـ لكثير من المتاعب ، بقدر ما أزالت منها .
فالحياة الجنسية التى كان ينبغى أن تبدأ بتعاطف شامل صادق، بين الرجال والنساء، وأن تعمقه، تبدو وكأنها أحدثت بيننا بدلا من ذلك طائفة مختلفة تمام الإختلاف من العواطف والسخط ، وخيبة الامل، والارتياب، والعداء، والاحساس بالخيانة، واحيانا بالإحتقار. وليست المسألة أن المرء لايستطيع أن يجد مشاعر طيبة فى نفوس كثير من الأشخاص أو بين العشاق، بل الأحرى أن عالم الجنس ككل يبدو ملوثاً إلى حد ما. والشعور العام إزاءه هو شعور بالحيرة، أو حتى الغضب، والغدر هو السائد فيه، أكثر من الإعتراف بالجميل ..)3 ويقول فى موضع آخر (ويبدو أن ما يعتقده معظمنا فى الوقت الحاضر هو أنه إذا أزيلت القيود التى تعوق السلوك، الإنسانى، فإن (الطبيعة) تؤكد نفسها على الفور، كما يملأ الماء مكاناً فارغاً، وننسى أننا نحمل معنا ـ فى أى نوع من أنوع الحرية ـ الماضى بغضه وقضيضه، وقيودنا الحضارية المؤيدة، وألوان ضعفنا، ومن ثم فإن الحرية ـ وهى هنا الحرية الجنسية ـ تضاعف من الاختيار ، ولكنها لا تضمن شيئاً، ولا تمنح شيئاً، وبقدر ماتتيح للتجربة أن تتنوع وتتسع، فإنها تعمل كذلك على تنويع الألم الذى يصاحب التجربة وعلى مضاعفته ..)4 .. ويقول: (ما أسمعه حولى فى كل مكان، شكايات وأوصافا لاحتياجات لا تلبى، وضروبا من خيبة الأمل ـ بأن أحدا قد غدر بهم أو خذلهم أو أنهم ليسوا كما ينبغى أن يكونوا، هذا هو التيار الذى يسرى خلال الكثير مما سمعته بوصفى معالجا نفسيا، أو مدرسا، أو صديقا، عندما يتحدث الرجال والنساء أحدهم عن الآخر، وكثير من هذه الشكاوى يتصف بالدقة، طبعا، لأننا نخذل بعضنا البعض الآخر بكل تأكيد ..) .. (لقد قطعنا شوطا طويلا فى طريق الثورة الجنسية وتركنا وراء ظهورنا أوهاما، وتوهمات كثيرة، ونحن نعرف الآن أكثر من ذى قبل عن صنوف الخيانة، والذنب، والبلبلة، التى نستطيع أن نتجاوزها، والتى لا نستطيع تجاوزها. بيد أن الشئ الذى لم نتعلمه ـ وهذا هو لب المشكلة ـ هو كيف نكون عطوفين أحدنا تجاه الآخر)5 ..
وإذا تركنا بيتر مارين وذهبنا إلى قطب آخر من أقطاب التحليل النفسى فى الغرب (أريك إريكسون) فإننا نجد النتائج متشابهة فى الموقف من الثورة الجنسية والتحرر الجنسى، ففى حوار أجرته معه (أليزابيث هول) سألته: (أنت ترى مرحلة البلوغ الشابة بوصفها متمركزة حول الصراع بين "الحميمية" و "الانعزال" . هل تظن أن إفتتان الحضارة بالجنس الترفيهى الخالص يمكن أن يؤثر على قدرتنا الخاصة بعقد صلة حميمة واحدة؟) .. فأجاب: (أظن ذلك، فالموقف كما ترين قد حدث فى جزء منه بسبب سوء فهم التحليل النفسى: الفكرة القائلة بأنه لاينبغى عليك كبت أى شئ، وإنما يجب عليك إفراجها دائما، بحيث يصبح أهم شئ هو الترفيه التناسلى. وعندما نتحدث عن نمو (الحميمية) فإننا نركز على التبادل الناضج. أما مجرد الصلات الحميمة فإنها يمكن أن تشغل مرحلة من مراحل العمر، بل ان تشغل مراحل متكررة، ولكنها لا يمكن أن تكون الهدف النهائى للحياة الجنسية)2 ..
ونحن هنا لا نستطيع متابعة آثار الثورة الجنسية وإخفاقاتها ولا نحتاج لذلك .. ولكننا نحب أن نقرر أن الحب بين المرأة والرجل، على أهميته العظيمة، قد ابتذل فى حياتنا المعاصرة.. ونمط الحياة المادية الذى أدت إليه الحضارة الغربية المعاصرة أدى إلى ابتذال الحب، وإلى إنحلاله فى جميع صوره ومستوياته . وللإلمام بالمزيد من جوانب إنحلال الحب فى الحضارة الغربية نحيل القارئ إلى كتاب أريك فروم (فن الحب THE ART OF LOVING) فهو من أجود ما كتب فى هذا الصدد .
والأمر الذى يعنينا هنا هو إعادة الحب للحياة، وإشاعته، وتصحيح المفاهيم الخاطئة حوله، حتى يكون الدعامة الأساسية التى يقوم عليها السلام .
نعود إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، وإلى الأسرة .. قلنا أن أساس الأسرة هو علاقة الزواج بين المرأة والرجل، والمرأة والرجل معا يشكلان الوحدة الإجتماعية .. "الوحدة الإجتماعية ليست، الفرد، من رجل وإمرأة ، وإنما هى الزوج من رجل وإمرأة .. فإنه لا مفاوز الحياة ، ولا مراحل السلوك، تقطع بغير التعاون، والتساند، والحب المتبادل، بين شطرى هذه الوحدة" .. وقد جعل الله تعالى، هذه الوحدة (الزوجين) تقوم على الحب بصورة طبيعية، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ـ سورة الروم آية 21 ـ .. (وجعل بينكم مودة ورحمة) هذا من طبيعة العلاقة الزوجية .. ولكى تؤدى العلاقة الزوجية ما هو مرجو منها، من إسعاد الزوجين، ومن خلق الأسرة الصالح ، لابد أن تقوم هذه العلاقة منذ البداية، على الحب، وعلى القيم - وهذا أمر يمكن مراجعة تفاصيله فى كتاب (تطوير شريعة الأحوال الشخصية) - وكمال هذه العلاقة إنّما يأتى من كمال طرفيها، ونقصها إنّما يجئ من نقص طرفيها .. (فنحن عندما نعاشر زوجاتنا الفضليات المعاشرة الجنسية، النظيفة، الإنسانية، الرفيعة، إنّما يعاشر نقصنا نقصهن وهذا هو السبب فى قلة السعادة الزوجية الحاضرة، حتى أن كل الزيجات ، بعد الأيام القلائل الأولى التى تسمى بالتعبير العصرى "شهر العسل" لاتكاد تقوم إلا على المجاملة، والإحتمال، والعرض، لا الحب .. والعامة عندنا تقول: "الزواج أوله رغبه وآخره عرض" .. وقد يظن بعض الناس أن ما يقتل الحب بين الزوجين إنّما هو مشاكل الحياة المادية، ومسئولية الكسب ، والإعاله ، وتدبير المعاش للأسرة .. والحق أن هذه نتيجة، وليس سببا، وإنما السبب هو التنافر الذى ينشأ عندما يلتقى نقص الرجال، بنقص النساء.. وما هذا النقص إلا الانقسام الداخلى والتشويش الداخلى، الناشئ من قصورنا المباشر .. ذلك القصور الذى سببه التقاء الأنوثة والذكورة فى أبوينا، فجاءت المرأة خليطاً من الأنوثة والذكورة، ولكن حظ الأنوثة فيها أكبر.. وجاء الرجل خليطا من الذكورة والأنوثه، ولكن حظ الذكورة فيه أكبر من حظ الأنوثه.. فلا الأنثى أنثى كاملة.. ولا الذكر ذكر كامل.. وإنما قيمة التوحيد ـ كلمة "لا إله إلا الله" لنا أن تحقق لنا هذه التصفية والتنقية، فتتم وحدتنا فى بنيتنا بأن يجئ الرجل كامل الرجولة .. وتجئ المرأة كاملة الأنوثة ـ فإذا جاء هذا الطور من أطوار نمونا فإن السعادة تتحقق بالزواج بصورة هى "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" .. وهذا الطور ينتظرنا وسبيلنا إليه هو القرآن .. على أن يقوم تشريعنا الجماعى، والفردى، على أصوله، لا على فروعة ..) .. وهذا ما نبشر به فى أمر الزواج كقاعدة لتحقيق المحبة فى المجتمع .. ومن أجل هذا جاءت وصية الأستاذ محمود للرجال: (تسلطوا على النساء !! ولكن لا يكن تسلطكم عليهن عن طريق الوصاية ، ولاعن طريق القوة ، ولاعن طريق الاستعلاء - استعلاء الذى ينظر من أعلى إلى أدنى - ولكن تسلطوا عليهن عن طريق الحب.. أحبوهن، وتعلقوا بالمكارم، والشمائل، والرجولة، التى تجعلكم محبوبين لديهن .. فإن المرأة إذا أحبت بذلت حياتها فداء لمن تحب ..)
وعن طريق الزواج، المؤسس على القيم، يتم محض عاطفة الأمومة والأبوة، عند الزوجين، وتنميتها، وهى عاطفة إنسانية رفيعة، وهى رغم أنها عاطفة طبيعية، إلا أن عمقها، وإتساعها، يكون حسب كمال الزوجين .. ومن الطرف الآخر ، تنشأ عاطفة الحب، عند الأطفال، تجاه الوالدين، وتجاه بعضهم البعض، وهى تتأثر كثيراً بما عليه الوالدين من كمال، ومن حب، خصوصاً الأم.. ولقد سبق لنا أن تحدثنا عن دور الأم فى تنشئة الأطفال .. فالطفل يكاد يرضع الحب مع لبن أمه، والعكس صحيح .. ولكل ذلك قلنا أن الأسرة هى المدرسة الأولى، والأساسية، فى إقامة علائق الحب فى المجتمع، وفى تنميتها.. ومن هنا يجئ الإهتمام الكبير جداً، عند الأستاذ محمود بأمر المرأة وبأمر الأسرة، وهو إهتمام لا يسعنا هنا أن نفصل فيه.