إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٢)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


الانسان وهو في طريق رجعاه الى موطنه الذي اغترب منه، يمر بمراحل اساسية.. وقد جاء عن هذه المراحل في كتاب رسالة الصلاة: "وللإنسان في هذه النشأة الطويلة أربع مراحل متصلة الحلقات، ولا يفصل بينها إلا حلقات من السلسلة، أكبر من سابقاتها، تمثل قفزة في سير التطور.. وتمثل هذه القفزة بدورها حصيلة الفضائل العضوية التي استجمعت من خلال المرحلة السابقة.. وهذا التقسيم إلى أربع مراحل إنما هو لتبسيط البحث فقط ، وإلا فإن في داخل كل مرحلة، مراحل يخطئها العد".. وعن هذه المراحل جاء: "تحدثنا عن المرحلة الأولى، فقلنا: أن بدايتها في الأزل، حيث برز الانسان في الجسد، في المادة غير العضوية - تلك التي نسميها، اصطلاحا، ميتة - ونهايتها عند دخول المادة العضوية في المسرح ..
وتحدثنا عن المرحلة الثانية، وقلنا: أن بدايتها عند ظهور المادة العضوية - تلك التي نسميها، اصطلاحا، حية - ونهايتها عند ظهور العقل .. ويتضح لنا، من هذا، أن الشبه كبير بين المرحلتين: الأولى، والثانية، فهما معا مرحلة الجسد الصرف، على اختلاف مستوياته، من ذرة بخار الماء، وإلى أعلى الحيوانات الثديية، ما خلا الانسان..
واما المرحلة الثالثة فهي تتميز عن المرحلة الثانية ببروز العقل من الجسد، وهو عنصر جديد وخطير . وأما المرحلة الرابعة فهي تتميز من المرحلة الثالثة بدخول الحاسة السادسة، والحاسة السابعة، في المسرح، وتلك درجة جديدة، من درجات الترقي، تصبح بها الحياة البشرية شيئا جديدا، مختلفا عما ألفنا من قبل.. ولذلك فإنا نستطيع أن نقول: أن لدينا ثلاث مراحل لنشأة الانسان: مرحلة الجسد الصرف، ومرحلة الجسد والعقل المتنازعين، وأخيرا مرحلة الجسد والعقل المتسقين.. ولقد تطورت، إلى الآن، الحياة على هذا الكوكب في مضمار المرحلتين: الأولى والثانية: فهي قد كان تطورها الأول تطورا عضويا صرفا، ثم لما بدأ بروز العقل، بفضل الله، ثم بفضل التطور العضوي الصرف، أخذت في تطورها الثاني، وهو تطور عضوي - عقلي.. وهذا الطور هو الذي نعيشه نحن الآن، وإني لأرجو أن نكون إنما نعيش في أخريات أيامه.. وسيجيء يوم، قريبا، يصبح التطور فيه عقليا صرفاً، في مقابلة البداية بالتطور العضوي الصرف، ذلك الذي كانت به بداية الحياة.. وأصحابنا الصوفية يقولون: النهاية تشبه البداية، ولا تشبهها.. والمؤرخون يقولون: التاريخ يعيد نفسه، ولكنه لا يعيدها بنفس الصورة .. وأحكم القائلين يقول (كما بدأنا أول خلق نعيده، وعداً علينا، إنا كنا فاعلين) وهو تبارك، وتعالى، لا يعيده بنفس الصورة لأنه من أسرار الألوهية، أنها لا تقف،ولا ترجع، ولا تكرر نفسها.. فلم يبق إلا ما قلنا.
وهذه المراحل الثلاث: مرحلة التطور العضوي الصرف، ومرحلة التطور العضوي - العقلي، ومرحلة التطور العقلي الصرف..يمكن التعبير عنه، بلغة الدين، بأنها تقابل العوالم الثلاثة: عالم الملك، وعالم البرزخ، وعالم الملكوت.. فأما عالم الملك فهو عالم الأجساد، وأما عالم الملكوت فهو عالم العقول، وأما عالم البرزخ فهو عالم المنزلة بين المنزلتين - عالم مرحلي- وهذا هو عالم الانسان الحاضر، الذي نعيش نحن الآن في أخريات أطواره كما سلفت الى ذلك الإشارة..
ولقد خلق الله كل شئ بالذات، ثم خلق بالواسطة، وهي الأسماء والصفات والأفعال.. وقد اقتضت حكمته أن يبرز خلقه إلى حيز الوجود بثلاث حركات: حركة العلم بالإحاطة، وحركة الإرادة بالتخصيص، وحركة القدرة بالإبراز إلى عالم المحسوس.. وهو في عالم البرزخ قد خلق بثلاثة أسماء (العالم المريد القادر) وهو، في عالم الملكوت، وهو يلي عالم البرزخ من أعلى، قد خلق بثلاثة أسماء (الله الرحمن الرحيم) وهو، في عالم الملك، وهو يلي عالم البرزخ من أسفل، قد خلق بثلاثة أسماء (الخالق البارئ المصور)"- رسالة الصلاة- وقد هدى الله تعالى الحياة في جميع هذه العوالم، يقول تعالى: (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) يعني هدى الله التطور في مراقيه.. فأما التطور العضوي الصرف، فهداه بالدين العام، وأما التطور العضوي - العقلي، فهداه بالدين الخاص – (مرحلة العقيدة) وأما التطور العقلي الصرف، فهداه بالدين الخاص (مرحلة العلم).. وجاء دين الإسلام، في القرآن، وعلى يدي، نبينا محمد عليه افضل الصلاة واتم التسليم، مشتملا على مرحلة (العقيدة) ومرحلة (العلم).. مرحلة (الايمان) ومرحلة (الإسلام).. وعلى مرحلة الايمان من الإسلام، جاءت (أمة المؤمنين)، والتي نعيش نحن اليوم، في اخرياتها.. وقمتها الاصحاب.. وعلى مرحلة (العلم) تجئ أمة (المسلمين)، وهي التي يتم الدخول فيها، بالبعث الإسلامي الجديد، الذي يبشر به الاستاذ محمود محمد طه... والدخول في مرحلة العلم (مراحل الايقان)، لا يكون الا بعد الدخول عبر مراحل الايمان- ونحن لنا الى ذلك عودة
والذي يعنينا بصورة خاصة، ونحن نتحدث عن عن الانسان، المرحلة الثالثة من النشأة، والتي تميزت بدخول العقل، ومرحلة العقل المكلف بالذات.. وذلك للأهمية الكبيرة للعقل.. والعقل هو الروح الإلهي الذي نفخه الله في البنية البشرية، فأصبحت بفضله مشدودة الى الله، بعد أن كانت قبلا، مشدودة الى الأرض بحكم الجبلة.. وعن نفخ الروح الإلهي في البشر قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا، من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين) .. عبارة (فإذا سويته) تشير الى استعداد المكان لنفخ الروح الإلهي فيه.. وهذا استغرق زمنا طويلا جدا، هو الزمن الذي استغرقته حركة التطور، من أسفل سافلين، وحتى زمن بروز العقل .. والنفخ لم ينته، وهو لن ينتهي، فهو سرمدي.
والنفخ، في القلب.. والقلب هو ذات الحي.. وهو الحي الذي أعطى الجسد والدماغ الحياة، ولذلك التركيز في القرآن كله على القلب، ولا يجئ ذكر العقل- الدماغ والجسد- إلا في المكان الثاني. ولقد كان النفخ بوسيلة (الخوف).. فبسبب الخوف برزت الحياة، وتطورت في المراقي الى يومنا هذا، ولكن الحياة لن تكمل إلا إذا تخلصت من الخوف البدائي العنصري.. فبعد أن كان الخوف السبب الأساسي، في تطور الحياة، أصبح الآن العقبة الأساسية أمام كمالها!! وبذلك أصبح العدو الأول للحياة!! ولاسبيل الى التخلص من الخوف، بما يعين على دخول المرحلة الرابعة من مراحل نشأة الانسان، إلا بالإسلام، في مستواه العلمي
لقد تحدثنا عن الحاسة السادسة، والحاسة السابعة.. أما الحاسة السادسة فهي الدماغ.. ووظيفتها الادراك المحيط، والموحد (بكسر الحاء) لمعطيات الحواس الأخرى- اليد، والأذن، والعين، واللسان، والأنف- في اللمس، والسمع، والبصر، والذوق، والشم.. فإذا قويت يكون ادراكها لكل شئ عظيم الشمول، فلكأنها، تمسه، وتسمعه، وتراه، وتذوقه، وتشمه، في آن واحد..
أما الحاسة السابعة فهي القلب.. ووظيفتها الحياة.. وهذه الحاسة هي الأصل، وجميع الحواس رسلها، وطلائعها، الى منهل الحياة الكاملة.. وعن طريق تجويد العمل، في منهاج السنة، يتم تحقيق هاتين الحاستين، بالرجوع الى سلامة الفطرة، وهي العقل الصافي، والقلب السليم.. وهذا هو الإسلام في مرحلته العلمية.. ولهذا الإسلام بداية، ولكن ليست له نهاية، فالتطور في مجاله سرمدي
الانسان مشروع، له بداية وليست له نهاية، فالسير في مجاله سير سرمدي.. وكذلك الإسلام، هو مشروع، له بداية وليست له نهاية، والسير في مجاله سير سرمدي.. والإسلام والانسان، مرتبطان، بصورة دائمة، تجعل من المستحيل الفصل بينهما.. هذا، منذ الأزل، والى السرمد.. وفي هذا الارتباط الانسان هو الغاية، والإسلام وسيلته.. وكل الذي تغير، وكل الذي يتغير، هو تدرج التحقيق بالنسبة لانسانية الانسان، وبالنسبة لدرجات الإسلام.. ولذلك فإن حديثنا كله سيكون منصبا على الانسان وعلى الإسلام.


خالد الحاج عبد المحمود - رفاعة