إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
بعد نشري لورقة "التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها"[1]، جرت لي عدة نقاشات مع بعض الأخوة والأساتذة الكرام، تتعلق بحديثي عن موضوع الإيمان والعقيدة، وتمييزي بينهما، وقد كان لهذه النقطة نصيبا كبيرا أيضا من النقاش منذ تقديم الورقة في مناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه.. ولقد تبين لي من هذه النقاشات أني لم أوضح فهمي بالشكل الكافي، علاوة على أني ربما استخدمت المصطلحين استخداما مشوشا، جعل الكثير من الناس لا يفهمون مقصدي.. وعليه فسأحاول الآن إصلاح شيء من هذا العطب البياني، بشيء من التوضيح، وشيء من مراجعة الموقف وإعادة تمحيصه.. وهذه المقالة تطرح اليوم بعد تعديلات عديدة، وجوهرية، لمداخلة حملت نفس المحتوى تقريبا، في الصالون الكتابي (منبر الجمهوريين المغلق)، في فبراير 2005.. ولهذا فهذه الورقة، رغم استقلاليتها النسبية، تعتبر ملحقا وامتدادا لورقة (التسامح الديني)، تبني عليها، وتسعى إلى تكميلها، وهيهات..
في كتاب "تعلموا كيف تصلون"، يقول الأستاذ محمود محمد طه: "غني عن القول أن الإيمان، بصورة من الصور، قاعدة للعلم، وللعقيدة معاً.. ولكن العلم يتسامى بالإيمان إلى الإيقان، في حين أن العقيدة تقف، أو تكاد تقف، عند الإيمان.. وهذا حديث قد جرى تفصيله في كتابنا: ((الرسالة الثانية من الإسلام)) مما يغني عن تفصيله هنا".. أعتقد أن الأستاذ يميز بشكل واضح بين الإيمان والعقيدة في قوله هذا، ويجعل الإيمان حلقة الوصل التي تربط بين العلم والعقيدة والتي تعين على تخطي مرحلة العقيدة إلى مرحلة العلم (حيث أنه - أي الإيمان - موجود ومستمر في كليهما)..
في "رسائل ومقالات- الكتاب الثاني"، في الرسالة "إيمان المقلد.. هل به نجاة؟"، يقول الأستاذ: "كنا نقول في الإجابة على من يسأل عن مشكلة التنظيم الديني لبلد تختلف فيه الأديان: أن الإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه، فهو يقول: ((لاإكراه في الدين.. قد تبين الرشد من الغي)).. ثم هو إنما يبني تشريعه على القيم الإنسانية التي تصون حق الفرد، وحق الجماعة، والتي تلتقي فيها الأديان جميعا، وبذلك يستطيع الرجل المهذب السلوك، بصرف النظر عن دينه، ان يتجاوب مع هذه القيم الخلقية، لأنها إنما قامت لخدمة أغراض المجتمع المتمدين، وأغراض الفرد الحر.. وكنا نقول: أن الإسلام، حين احترم الأديان الأخرى جميعا، وجعل لأهلها حق القيام بشعائرها، بمراسيمها، في احترام وفي حرية، وضع حدا أدنى للسلوك، من تعداه أخذ بالقانون، ومن سلك في مستواه، أو فوقه، لم يسأل قانونا، عن أمر من أوامر الدين، أو أمور الدنيا، واعتبر، كل ما عدا هذا الحد الأدنى، أمرا شخصيا، خاصا بالفرد، له فيه حق الحرية، وحق الصون..
والآن فإن الإجابة على سؤال السيد السر تأخذنا، كما قلت، أبعد من هذا، وتبين لنا بوضوح سماحة الإسلام، وجلالة تعليمه.. إقرأ هاتين الايتين: ((قل يا أهل الكتاب !! لستم على شيء حتى تقيموا التوراة، والإنجيل، وما أنزل إليكم من ربكم، وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا، وكفرا، فلا تاس على القوم الكافرين* إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئون، والنصارى، من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحا، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون..)) وما أرى ان هذا بحاجة إلى شرح شارح، وإنما هو واضح... فلو أنهم أقاموا التوراة، والإنجيل، لما شاقوا محمدا، ولزادهم ما أنزل إليه من ربه نورا على نور، لا طغيانا وكفرا.. وليس هلاك من هلك من هؤلاء يأتيهم عن مخالفتهم محمدا، وإنما لأن هذه المخالفة تنهض دليلا على مخالفة وراءها، هي خيانة أمانة التوراة، والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم.. ونتج عن خيانة أمانة التوراة، والإنجيل، مفارقة القيم الأخلاقية التي تصون حق الفرد، وحق الجماعة، والتي تلتقي فيها الأديان جميعا كما سلف القول بهذا، قبل قليل.. ولقد عبرت الآية الأخيرة عن هذه القيم أجمل تعبير، وذلك حين قالت: ((من آمن بالله، واليوم الاخر)) بهذا الإيمان صيانة حق الفرد، وصيانة حق الجماعة.. وبين حق الفرد، وحق الجماعة، من التواشج ما يفسر سر الربط دائما، في القرآن، بين الإيمان، والعمل الصالح، مفهوم بالضرورة، وموجود، ولا يكون عمل الفرد صالحا، لنفسه ولا لمجتمعه، إلا إذا انبعث من نية صالحة.. ولقد جاءت الإشارة للنية الصالحة في عبارة الإيمان، بالله واليوم الآخر، خير مجيء... وأدنى العمل الصالح كف الأذى عن الناس.. ولذلك قلنا: أن الإسلام وضع حدا أدنى للسلوك، من تعداه أخذ بالقانون، ومن سلك في مستواه، أو فوقه، لم يسأل ((منا)) عن أمر من أمور الدين، أو أمر من أمور الدنيا.. فأنت لا تنجو لمجرد أنك مسلم بالتقليد، وإنما تنجو إذا يسر لك إسلامك الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح.. والمسيحي لا يهلك لمجرد أنه غير مسلم، وإنما يهلك إذا نهض عدم الإيمان وعدم القيام بالعمل الصالح.. واليك آية أخرى في هذا: ((إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من آمن بالله، واليوم الاخر، وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون))..
وشعبة سؤالك الثانية تقول: ((ثم هل تعتقد أن هذا الدين الذي ناخذه تقليدا صحيح؟؟)) والجواب: إن التقليد في الدين يصح بداية ولا يصح نهاية.. وهو، على كل حال، إن حمل صاحبه على الإيمان بالله، واليوم الآخر، وعلى العمل الصالح، ((وأدناه، كما قلنا آنفا، أن تكف أذاك عن الناس)) فإن فيه خيرا، وإن كان خيره لا يقاس إلى عمل من أسلم عن درس، وفهم وإقتناع.. وحين قال النبي الكريم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، إنما أراد أن ليس فيما دون ذلك حظ لمسلم.. فإن إستطاع، مسلم بالتقليد، أن يكون كذلك فقد فاز – وما في دون ذلك مفازة... وشعبة سؤالك الثالثة تقول: ((والإيمان بالله، إن قام على أساس التقليد، هل هو صحيح أيضا؟؟))..
والإجابة عليها كلها كالإجابة على سابقتها، فإن هذا الايمان إن حمل على العمل الصالح، وأرشد إليه، فإنه خير، وله عند الله منزلته – والمنازل عند الله شتى..
فالعبرة في كل أولئك – في المسلم المقلد، وفي المسيحي المقلد، وفي الأصلاء منهما – العبرة بالثمار... فمن طرح منهم ثمرا صالحا فهو صالح، أو طرح ثمرا طالحا فهو طالح.. وعلى هذا وذاك، وجب الثواب، أو العقاب.. و(على قدر أهل العزم تأتي العزائم)".. انتهى النقل..
هذا الاقتباس الطويل من كتاب الأستاذ مقصود، وذلك ليس لأنه يؤسس لموضوع التسامح والتعايش الديني فقط، بشكل عملي وموجز، ولكن لأنه يؤسس أيضا للاعتبار الأساسي لهذه المقالة، وهو أن المعيار المتوفر للتسامح الديني يكمن في الإيمان، وليس في العقيدة.. علاوة على أنه يضرب مثلا قويا في معنى كيف يكون حوار الأديان، من التزام باحترام الآخر وحقه في المساحة الفكرية والممارسية، في إطار الدستور والديموقراطية، رغم الاختلاف الذي قد يكون كبيرا من الناحية المعرفية والمنهاجية، دون أن يمنع ذلك من الوضوح في النقد، والاستعداد التام لقبول النقد أيضا، في مناخ يعف عن سخائم النفوس، ويعمد للمناظرة الفكرية السليمة، تجسيدا للعبارة الجامعة "فالعبرة في كل أولئك – في المسلم المقلد، وفي المسيحي المقلد، وفي الأصلاء منهما – العبرة بالثمار.. فمن طرح منهم ثمرا صالحا فهو صالح، أو طرح ثمرا طالحا فهو طالح"..
(2)
في البداية، سأحاول وضع صورة أقرب للفرق بين مصطلحي الإيمان والعقيدة عندي، حتى يتسنى للقارئ أن يبدأ معي من أرضية قريبة من الفهم.. يقول تعالى: ((إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من آمن بالله، واليوم الاخر، وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون)).. ما أعنيه بالإيمان هنا، هو تلك المنطقة المشتركة بين أهل "العقائد" المذكورين في الآية، فالنصارى واليهود والصابئين المذكورين في الآية يشتركون معا في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.. ولكن عقائدهم تختلف.. بتبسيط أكثر، الإيمان أقرب لنقطة التقاء الأديان من العقيدة، أي أن العقيدة تدخل في تفاصيل الفهم القائم على الخطوط العريضة، والخطوط العريضة هي "الإيمان والعمل الصالح" كما ذكر الأستاذ.. الإيمان يعني الجانب الألطف من العقيدة، بهذا القياس، أي أنه المنطقة المشتركة من العقيدة بين الأديان، فالفرق بين الإيمان والعقيدة فرق في المقدار، كما ورد في ورقة "التسامح الديني"، حيث ورد:"الإيمان معنى.. والعقيدة صورة، أو تجلي واحد لهذا المعنى.. كما يستطيع المرء أن يقول نفس الكلام بأكثر من لغة، فكلامه، من ناحية الصوت المسموع، والكلمة المكتوبة، مختلف جدا، ولكنه من ناحية الاستيعاب أو القصد، هو هو دون تغيير.. إن العقيدة، بهذا الفهم، هي ترجمة للمعنى، متقيدة بقيود اللغة والدلالة المجتمعية للشعوب التي تنزل فيها تلك العقيدة.. أي أن العقيدة مقيدة بقيود زمانية ومكانية، لا تملك الانحلال منها، في حين تسامى الإيمان عن تلك القيود، لكونه متعلقا بالمعنى الذي لا تحجره الظروف الزمانية والمكانية، ولكونه متناميا، في اضطراد، يطلب العلم المحقق الذي لا شك فيه"..
ومن ناحية أخرى، فالعقيدة المتراكمة تبطئ حركة الفكر، لأنها تثقله.. لأن الفكر كلما تحرر من القيود كلما كان فكرا "حرا".. ولا نعني بالتحرر من القيود هنا تجاوز الأدب، مثلا، فالأدب من الأدوات الضرورية لرياضة الفكر في درب سيره بأناة نحو حريته ومعارفه، كما لا نعني به "عدم العلمية"، كأن ننكر ما لا نعرفه فقط لأننا لا نعرفه، أو أن نجزم به، في حين نفتقد ذلك اليقين الجازم.. أفضل ما يمكن أن أستعمله في هذا المقام هو الحديث المأثور للأستاذ: "ولسنا ندعو، أول ما ندعو، إلى شئ أكثر ولا أقل من إعمال الفكر الحر فيما نأتي وماندع من أمورنا ـ الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد، ويسأل عن قيمة كل شئ، وفي قيمة كل شئ.. فليس شئ عنده بمفلت عن البحث، وليس شئ عنده بمفلت عن التشكيك.. فلا يظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر.. ولا يظنن أحد أن النهضة الاقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر.. ولا يظنن أحد أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة ممتعة بغير الفكر الحر".. وفي هذا المعنى قوله أيضا: "اسمعوا، لا تقدسوا القرآن إلا بالقدر الذى يوصلكم إلى معانيه، ولا تقدسوا محمداً إلا بالقدر الذى يحفزكم إلى اتباعه.. واعلموا أن أكرم مخلوق عند الله العقل، فمن عطله بدعوى بتقديس كائن من يكون فقد سعى إلى الله بغير نور".. ذلك لأن التقديس الزائد يعطل الفكر، فالذي يقدس القرآن بشكل زائد سيحمله تقديسه الشديد على طرد الشك بعنف كلما حصل، وبدون عامل الشك لن يكون هناك تدبر، في مستويات عدة (وللشك نفسه مستويات عدة)، ولن يكون هناك بالتالي وصول لمعاني القرآن، فالقرآن في الأساس يجب أن يحفز على السؤال، وحتى التشكيك، في كثير من أوجهه، لكي يعمل الفكر، فالتسليم التام بدعوى التقديس لا فكر فيه، وكذلك الحال بالنسبة للتقديس الزائد لشخص النبي الكريم..
هذا الحد الأدنى من التقديس، سميناه مع "الإيمان"، وما زاد عنه فسميناه "عقيدة".. فالعقيدة ليست مطلبا في حد ذاتها، ولكن لكي تكون متكأ نتخلى عنه في مآل أمرنا، شيئا فشيئا، في سيرنا الدؤوب نحو المعرفة.. والتقديس الزائد في حد ذاته منطقة دعوى، عند التدقيق، لأنه تصنع للإجلال أكثر من اللازم، والإجلال الحقيقي إنما يكون بالعلم، لأنه لا يكون حقيقيا إلا إذا كان مدعوما بالفكر، والفكر لا يجل أمرا أو شخصا إلا بعد العلم به، أو بطرف كاف منه، أما دون ذلك فهو يكون في حالة شك مستمر، وهذه الحالة من الشك ليست منقصة في ذاتها، فهي مطلب ضروري لتحريك عجلة الفكر، بين الشك والإيمان، فالفكر يشترط توفر الثنائية ليستطيع التمييز، وبهذه الآلية يرتقي الفكر في مساره، ويدق، وبه ترتقي وتدق أيضا مستويات الشك والإيمان.. ومن أجل هذا المعنى أيضا قال الأستاذ محمود، ما معناه "أنا مقدس عند الجمهوريين.. أنا لا أريد أن أكون مقدسا، وإنما محترم".. وهذا من باب تربيته الحكيمة لهم، لأن تقديس تلاميذه له سيعطل فكرهم لدرجة كبيرة، و تعطيل فكرهم هذا سيحجبهم في واقع الأمر عن رؤية "الأستاذ المحترم"، والذي هو أكمل وأعظم من "الأستاذ المقدس"، لأنه - أي الأستاذ المحترم - أقرب للصورة الإنسانية، صاحبة التجربة الإنسانية "الأرضية"، والتي عن طريقها تجسدت القيم العليا في جرم بشري، محسوس وملموس، عبر صورة عملية، محسوسة وملموسة، من اعتماد المنهاج الديني، وهذا التجسيد الأرضي هو نقطة التقاء الأرض بالسماء (أو القيم العليا بأرض الواقع)، وهو أكبر عبرة منهما معا، لأن تجسيد القيم العليا أهم وأجل من هذه القيم العليا نفسها، لأنها تصبح بدونه - أي بدون التجسيد - مجرد وصايا أخلاقية معلقة في الهواء، ولا تمت لواقع الناس بصلة، كما أن هذا التجسيد، وبنفس القياس، يجعل للواقع دليلا ملموسا لإمكانية التطور نحو الأسمى من المعاني الإنسانية.. وهذا الحديث لا ينطبق على الأستاذ محمود فقط، بل هو معني بكل داعية ومفكر حر، جسد أو يجسد مقاصده الفكرية، ويطرح بها ثمرا نافعا لخير الإنسان، في الحس والمعنى.. ولهذا فإن حديث الأستاذ هذا مقصود لذاته، لا تواضعا فقط.. والأستاذ يدعو تلاميذه في الأساس إلى ترك كل ما هو زائد من التقديس، حتى في جناب القرآن وجناب النبي الكريم، فكيف يغفل عن تحذيرهم من تقديسه هو؟