إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
كتب الشاعر درويش :
لملمت جُرحك يا أبي
برموش أشعاري
فبكت عيون الناس
من حُزني ... ومن ناري
وغمست خُبزي في التُراب
....................
(2)
نيف وعشرون عاماً ولم يزل ربيع خُزاماك يرقُص مُزدهي فرحاً وفكرك نبع لشرب الراحلين إلى مقامَكَ يهتدوا . كيف هو العُلا وأي المقامات جلست ؟ .
كُلنا لم نعرفك حق عرفانك إلا عند رحيلك الساطع ، وحين توهج نجمك في ضُحى الجمعة العظيمة ، مرقتَ مروق السهم من بين أبناء جيلك. رميتَ القدح المُعلَّى وخير الطبقة التي أثرت من كدح الفقراء و من خير الزرع و الضرع .هُم تعلموا وتيسرت لهم سُبل العيش الكريم وقليل منهم نذر حياته لرد الجميل.
جئت أنتَ سيدي من بطن أمٍ ولدتكَ والمستعمر يدُق أوتاده سنوات من بعد كرري واستباحة أم درمان .
على الزهر الذي أينع في ذكراك تكوَّر الندى وتجمع السحاب يُظللنا من شمس الضُحى وهي تعتدل إلى الظهيرة .
رحيلك البهي وأنتَ تلألأ إشارة أن موعد التغيير قد حان أوانه ولم نعرِف كيف نستثمره .أغمضت الشمس أجفانها ، نذير عافية كصراخ الأمهات عند الطلق وإلى موالد الأنوار أطفالاً إلى المُستقبل . أيها البهي الذي ينظرنا من العُلا :
كنتَ تعُد العُدة لتكملة النذر الذي نذرته أن تهب تلاميذك والقراء جميعاً مفاتيح
كيف يرتقي المرء من أرضه وتُطل السماء بأنوارها عليه ثم تُزهر حقول الحياة .
(3)
اعتاد العُباد على المحبس ، ففيه يتخفف المرء من أحمال الحياة ويبدأ التعميد الجديد. في العُسرة الأولى أواخر العقد الرابع من القرن الماضي أيام المُستعمر كان محمود محمد طه من السباقين ، ومن بعد فك أسره رابض في رُفاعة وجلس جلوس العُباد بلا قسر . كان إيمانه هو القوي وتدفقت نُذر الخير فِكَراً . من هناك تفتح الذهن المُتقد واستبطن التاريخ القديم ونهل من أعذب الموارد التي ينهل منها المتصوفة أحباءه في الطريق . جلس للصفاء وحفر بأظافره وتقواه حتى تفتحت له الآفاق وهو جالس على بُساط الأرض . لباسه من لباس العامة ومجلسه للعلماء مكان للترويح ، فروحه السَمحة بوابه للنفوس العطشى لتغرف من مسلك الإنسان عندما يكون مُتصالحاً مع نفسه .
(4)
لم يغب الرجل عن رؤى الذين من حوله ، وكان وسطاً يرى العقيدة روحاً تُرفرف تُعيد للإنسان حيويته ومحبته للآخر . أوجز رؤاه عن الاشتراكية والرأسمالية وللبدائل التي تحترم الفرد وتحترم الحرية . تحدث عن علوم النفس البشرية ، وعن فكرته غير المسبوقة في تأويل النصوص تمهيداً للفهم العميق للرسالة المُتسامحة التي احتجبتْ من ثقل عظمتها عن عقول الذين عاصروا حياة النبوة ونسختها الشريعة وهي تُناسب أهل الزمن الماضي إلى أن جاء بنظرته الثاقبة واكتشف العقيدة الدائمة وروحها بالتأويل، فكانت الرسالة الثانية .
(5)
عندما يجلس العُباد عند الشروق أو المغيب ، تتبدى فتنة الشمس . تخرُج موجات تحت الحمراء ، تُقوي الأجساد والأرواح . جلس هو جلوس الصبر في خلوته ساكناً مُتأملاً , دواخله يصطخِبُ موجها وإلى شواطئ النفس تستريح بل تولد من جديد . نهل هو من زاد المتصوفَة : حيواتهم الضاربة في عمق التاريخ وهي تقول له :
اركب رواحلنا إن كنتَ ظمآنا .
نهلت سيدي من الينابيع الصافية وخير الزاد التقوى . صبرت على الدُنيا وهي تُغريك بلباسها المُترَف . على أبسطة الأرض حيث تدُب الكائنات ،جلستَ ببطء تطلب رزقها وأنتَ المُتأمِل.
عل وجهكَ كلما نظرنا يفترّ بَسمَك : عابدٌ أسعدته الدُنيا وغسلت نفسهُ من كل تاريخ الإنسانية الأسود وعدتَ طفلاً ملائكي الملمح والمشرب والمسكن والمسلك .ضرب ذهنك المُتقد الآفاق بأجنحة فراشٍ خُرافي ينتظر ذا مرّة ليستوي على الأفق الأعلى يلمحه بطرف ذاكرة النبوة حين تفيض على المُحبين . سرت تطلُب الرُقي وكان النبي سائراً وعلى خطوه مشيت .
على كفتي قمرٍ وشمس ، حمل وجدانك مسلك المتصوفة بعقولهم النيِّرة ، وأعملت طريقك غير المسبوق في اكتشاف الرسالة الثانية . آن للفتح المعرفي أن يغرف من علمٍ لدُني أشرق عليكَ واحتبستَ الحُلم الحقيقة بين أضلُعِكَ ورقيت سُلمكَ العلا ثمراً من خيرات مولاك الواهب الخير بقدر النوايا والعمل .
سلام عليك في العلا ، وسلام على الجنان الباذخة وهي تزدهي بتجوالك بين بساتينها برزق المولى من بحور عطائه التي لا أول لها ولا آخر .