إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عودة إلى الحوار العجيب !! (٣)

د. عمر القراي


عودة إلى الحوار العجيب !! (3)


د. عمر القراى


المدنية والحضارة:


وعن سبب رفضه للنص الذي أوردته له ، من كتاب الرسالة الثانية ، يقول د. محمد وقيع الله ( لم يحسن صاحبه استخدام المصطلحات ف (التمدن) وهو المصطلح الذي استخدمه يعني الجانب المادي من التطور الإجتماعي وبالتالي فانه حصر بقوله هذا رسالة الإسلام وانجازه التاريخي في هذا الجانب المادي القاصر من جوانب الرقي الاجتماعي ولو استخدم محمود مصطلح التحضر لاصاب لأن التحضر يعني الجانب الثقافي والروحي ) ..
هذا ما قاله وقيع الله ، وهو عكس الحقيقة تماماً . فكلمة (المدنية ) ، و( التمدن) ، مأخوذة من العيش في المدينة . ولقد انتقلت الحياة البشرية ، إلى المدينة من الغابة ، عبر تطور وئيد .. ففي الغابة ، القوة تصنع الحق وتتقاضاه ، وليس هناك قانون ، وإنما القوي يأكل الضعيف .. أما في المدينة ، فان القانون يحمي الضعيف ، من بطش القوي ، وبفضله انماز الحق عن القوة .. والعيش في المدينة ، يقتضي مراعاة القانون ، والسلوك وفقه ، ثم رعاية الأخلاق ، التي تمثل الجانب الأرفع من القوانين .. وهذا يحتاج الى تربية ، وتثقيف ، لهذا فان (التمدن) قيمة روحية وثقافية . أما التحضر، فتعني العيش في الحضر، في مقابل البدو أو الريف .. والحضر أسهل عيشاً ، وألين حياة ،من البدو، وذلك لأن في الحضر تتوفر الوسائل المادية ، التي تزيد من يسر الحياة ، ولينها ، مما لا يتوفر في الريف ، ولهذا يهاجر سكان الريف الى الحضر . فالحضارة إذا، هي التقدم المادي ، والمدنية هي التقدم الروحي أو الاخلاقي . وحين اورد الاستاذ محمود عبارة (التمدن) ، فانه قد كان منسجماً تماماً مع فكره ، وذلك لأنه قد قال (المدنية غير الحضارة ... فالمدنية هي قمة الهرم الاجتماعي والحضارة قاعدته ... ويمكن تعريف المدنية بانها المقدرة على التمييز بين قيم الاشياء ، والتزام هذه القيم في السلوك اليومي ، فالرجل المتمدن لا تلتبس عليه الوسائل مع الغاية ، ولا هو يضحي بالغاية في سبيل الوسيلة . فهو ذو قيم وذو خلق ...,اما الحضارة فهي ارتفاق الحي بالوسائل التي تزيد من طلاوة الحياة ، ومن طراوتها .. فكأن الحضارة هي التقدم المادي ، فاذا كان الرجل يملك عربة فارهه ، ومنزلاً جميلاً ، واثاثاً أنيقاً ، فهو رجل متحضر ، فاذا كان قد حصل على هذه الوسائل بتفريط في حريته فهو ليس متمدناً ، وان كان متحضراً .. ) (الرسالة الثانية صفحة 20-22) .. فاذا وضح هذا يتضح خلل فهم وقيع الله فيما ذهب اليه ..

لم يستو الفهم:


إن مشكلة الحوار مع وقيع الله ، هي عدم امكانية محاكمته الى الفكر الإسلامي ، الذي ذكر انه ينتمي له ، وذلك لأنه لا يفهمه ، وما يفهمه منه لا يود التقيد به .. ومن ابلغ الامثلة على ذلك ، انه حين ادعى ان الاستاذ محمود يهدم الإسلام ، ويتحامل عليه ، وان أفكاره تقوم على تقويض اركان الإسلام ، ذكرت له، أن قوله هذا ، يناقض ما ذكره من ان الاستاذ مفكر كبير، وفكره عميق، فلم يقبل ذلك وقال ( نعم لقد قلت ذلك وهو صحيح فالانسان قد يكون مفكراً عميقاً وصاحب افكار كبيرة ويكون مع ذلك معادياً للاسلام. وهذا القول نفسه يمكنني ان اردده عن مستشرقين كبار قضوا حياتهم في الكيد للاسلام ومحاولة هدمه من أمثال ....)!!
يقص علينا تعالى، عن الكفار يوم القيامة ، بعد أن يظهر لهم خطأهم ، فيقول : ( قالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير* فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير)!! ولكن هؤلاء الكفار كانوا في الدنيا ، يسمعون ، ويعقلون ، ويدبرون كافة أمورهم ، ويكيدون للمسلمين ، أشد الكيد .. فلماذا وصفوا بعدم العقل ؟! السبب ان هناك عقلين : عقل معاش وعقل معاد !! وعقل المعاش ، هو الذي يدبر امور الدنيا ، ولكنه يغفل عن الآخرة .. وعقل المعاد، هو الذي يذكر الانسان بالآخرة ، ويحثه للعمل لما بعد الموت .. وانما يفهم الدين بعقل المعاد ، ولذلك فان صاحبه هو وحده، ذو الفكر العميق .. ولا عبرة عند الله ، بعقل المعاش ، أو العلم الذي يحصله ، وفي هذا يقول جل من قائل ( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) !! فنفى عنهم العلم ، ثم اثبت لهم علماً بظاهر الحياة الدنيا ، لم يمنعهم عن ان يغفلوا عن الآخرة .. وهذه الغفلة عن الآخرة ، هي التي جعلت الله يعتبرهم غير عالمين ، مهما كان حظهم ، من تحصيل العلم بأمور الدنيا ، ومقدرتهم على الكيد فيها .. ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، الشخص العاقل فقال ( العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) !! فهل المستشرقين ، الذين ذكرهم لنا وقيع الله هنا ، واتهمهم بالكيد للإسلام ، يعتبروا عاقلين حسب التعريف النبوي الكريم للعاقل ؟! فان لم يكونوا عقلاء ، حسب تعريف النبي صلى الله عليه وسلم ، فان وصفهم بعمق الفكر، لا يعدو ان يكون ضرباً من السطحية ، وقصر النظر ..
واذا كان وقيع الله ، يعتبر الأستاذ محمود متحاملاً على الإسلام ، فالمتحامل شخص غير محايد ، وعدم الحياد الفكري ، لا يمكن ان يوصف صاحبه بعمق الفكر.. واذا كان يظن ان الاستاذ محمود يهدم اركان الإسلام ، فهذا يعني انه لا يعمل لآخرته ، ومن ثم ، ينبغي أن لا يعتبره مفكراً ، ولا عميقاً ، لو كان وقيع الله يحتكم للمعايير الإسلامية ..

لماذا تعارض فكرة لا تعرفها ؟؟:


يقول وقيع الله (ثم اني لا اعدم سبباً آخراً اكشف به تناقض هذا النص وتهافته ، فبينما يشهر صاحبه رفضه الصريح الدائم للقرآن المدني فانه هنا قد سها سهوة جبارة كبرى هذا حيث استشهد على دعواه بقرآن مدني بل هو باتفاق علماء المسلمين من بعض آخر ما نزل من الذكر الحكيم ) !! هذا ما قاله وقيع الله ، فهو قد فهم من قراءته للفكر الجمهوري، أن هذا الفكر يرفض كل القرآن المدني ، وهكذا ظن جهلاً، أن الاستشهاد بالقرآن المدني "سهوة جبارة كبرى" !! فما ظن وقيع الله ، إذا أخبرناه أن آية الزكاة الكبرى ، التي يدعو لها الأستاذ محمود ، وهي قوله تعالى ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) آية مدنية ، وآية المساواة بين الرجال والنساء ، التي يطرحها الجمهوريون ، كبديل عن القوامة ، وهي قوله تعالى ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ) آية مدنية ، وان آيات الحدود والقصاص ، التي قال الأستاذ محمود بإبقائها دون تطوير آيات مدنية ؟! فإذا كانت هذه المعلومة ، تشكل صدمة لوقيع الله ، لأنها جديدة عليه ، فلماذا يعارض وقيع الله فكرة لا يعرفها؟! لقد شرحت كل كتب الفكرة الجمهورية هذه القاعدة الأساسية ، وهي أن القرآن قد نزل على مستويين : قرآن الأصول وقرآن الفروع .. ولقد بدأ النزول بقرآن الأصول ، في مكة ، لمدة ثلاثة عشر عاماً ، قامت فيها الدعوة على أساس الإسماح ، وحرية العقيدة ، وعدم القتال ، والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين.. وهذه القيم الإنسانية الرفيعة وردت في القرآن المكي ، وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ، نسخ هذا المستوى الرفيع ، بالقرآن الفرعي ، الذي تنزل من الأصول، ليناسب مستوى الناس ، في ذلك الزمان ، حيث فرض الوصاية بديلاً عن الحرية ، والجهاد بديلاً عن الدعوة بالتي هي أحسن ، وعدم المساواة بين المسلمين وغير المسلمين بديلاً عن المساواة .. ولكن هذا الأمر، لم يحدث في يوم وليلة ، وإنما تدرج حتى اكتمل خلال عشر سنوات .. فالآيات التي نزلت في أول العهد ، بالمدينة ، خاطبت الناس بما كان عليه حالهم في مكة ، فجاءت تحمل روح القرآن المكي .. ولهذا افتتحت سورة النساء بقوله تعالى " يا أيها الناس " مع أن ذلك من علامات القرآن المكي .. ولقد ورد في كتب الجمهوريين ، أن الفرق بين القرآن المكي والمدني ، ليس هو اختلاف مكان أو زمان النزول ، وإنما اختلاف مستوى المخاطبين ، واعتبارهم من حيث المسؤولية التي تعطي الحرية ، أو القصور الذي يوجب الوصاية .. وسبب التداخل بين القرآن المكي والمدني ، هو التداخل بين الإسلام والإيمان ، ذلك أن التدرج في المراقي ، من الإيمان نحو الإسلام ، لا ينفصل السالك في مضماره ، فصلاً تاماً ، وإنما ترقي يختلف صاحبه ، في كل مرحله، اختلاف مقدار لا اختلاف نوع ، عن المرحلة التي تليه..

المصدر: الصحافة 29/11/2006