كل ما في الوجود متحرك .. حتى المادة الصلبة الصماء .. قطعة حديد، نحن بنفتكر أنها دي صماء في داخلها ما في حركة .. لكن في الحقيقة، العلم برهن على أنها ما ها صماء، وإنما هي مخلخلة وفيها فجوات في داخلها .. وذراتها في حركة مستمرة لا تنقطع .. داخل قطعة الحديد، الذرات متحركة في فراغ متخلخل بين الذرات .. ونحن في ظاهر الأمر لِنا أنُّ كتلة الحديد دي، كتلة صماء ..
الحروف الصوتية بتجيء من أنُّ كل متحرك مصوت .. فإذا كان أنت شفتها من ذرات المادة بالصورة دي، إلى أكبر الدراري في الأفق .. المجرات، والشموس، والكواكب، والسحب، وكل الأشياء البنشوفها هائلة هي داخلها ذرات والذرات دي متحركة .. وكل متحرك مصوت .. ثم الجرم كله بذراته متحرك .. ومتحرك ومصوت .. زي ما قلنا القاعدة، كل متحرك مصوت ..
هناك أصوات أكبر من أن تدركها آذاننا .. في أجرام متحركة بأصوات أعلى من أن تستطيع أذننا أن تسمعها .. وفي أجرام متحركة بأصوات أخفت وأخفى من أن تستطيع آذاننا أن تسمعها .. وما قيدناه نحن في الحروف الرقمية قطاع بسيط جدًا بين الأصوات العالية خالص الما بتنسمع والأصوات الواطية خالص الما بنتنسمع .. وفي القطاع دا ذاته في أصوات ما بتخضع للرسم بالحروف، متل مثلا «انجما» .. «انجاء» دي ما عندنا نحن قيد ليها، إلا أن نحتال ليها بصورة من الصور .. فإذن الحروف الصوتية شيء ما بنقاس إذا ما قيس بالحروف الرقمية .. ثم فوق للحروف الصوتية تجيء الحروف الفكرية .. وهذه تكاد لا تحصى .. تكاد تكون مطلقة .. هي ما بتكون مطلقة لأنها حروف فكرية والفكر ما مطلق ..
نحن قبيل تكلمنا عن قيد الفكر .. كيف أنه عندما يجيء عند الوترية بيقف .. في مرتبة أنه بيقف في محل، دا يجعل الحروف الفكرية ليست مطلقة لكنها أقرب شيء للمطلق .. هي من السعة بحيث تصاقب أو تحادد أو تراقد المطلق ..
الحروف الصوتية هي الحروف البتجري في الكون الخارج الإنسان .. والحروف الفكرية هي الحروف البتجري في الكون الداخل الإنسان .. هي حركة الخواطر .. والخواطر بتصحب الفكر في حركته بين الطرفين .. قلنا أنُّ العقل لمن يتحرك .. العقل هو قوة الإدراك الشفعي فينا .. وتكلمنا عن الإدراك الشفعي وتكلمنا عن الإدراك الوتري .. العقل دا لمن يتحرك بين الطرفين، المنهن بيقدر يصل إلى مدركاته، حركته دي هي خواطر، هي حروف فكرية ..
يرد الأمر بين الكون الخارجي والكون الداخلي .. العارف داك اللي قال: «وتزعم، يخاطب الإنسان .. وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر» .. كأنه بيقول للإنسان، أنت الصغير دا في جرمك، يا أيها الإنسان، الكون الكبير دا كله منطوي فيك .. ودا معلوم أنُّ كل ما في خارج الإنسان موجود في الإنسان .. والكون الخارجي أكبر من ما نتصوره .. نحن نرى أجرامه وشموسه ومجراته .. نراها بالعين المجردة ويخيل لِنا، في أول الأمر كما خُيل لأوائلنا، أنُّ دا كل الكون .. كلما اخترعنا مجهر من المجهرات يورينا أجرام جديدة ومجرات جديدة نُذهل في حقيقة عظمة الكون الخارجي، ثم كل مرة نحن نكتشف مجرات جديدة وأبعاد جديدة، حتى يقوم في بالنا أنُّ الكون دا غير متناهي، بوسائل ما ندركه نحن من أبعاده وسعاته .. الكون دا كله منضوي في الإنسان ..
ونحن قلنا أنُّ ربنا قال: «أنا خلقت الأكوان للإنسان، وخلقت الإنسان لي» .. وقلنا أنُّ الأكوان مطية الإنسان، والإنسان مطية الله .. ودا يجيء من حديث قدسي وراد في الباب دا ذاته، ويجيء من الحديث القدسي البيقول: «ما وسعني أرضي ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن» .. القرآن يجيء برضو، ليصل لآيات النفوس، ليصل للكون المنضوي في الإنسان عن طريق الكون المنشور في الآفاق، فيقول: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد!» .. معنى الكلام دا أنُّ ربنا بيعلمنا عن ذاته بطريقة خلقه .. يعني هو ظهر لِنا في المخلوقات لندركه بعقولنا، لنعرفه .. والبيظهر في المخلوقات هو أنُّ كل مخلوق لِهُ خالق ..
العقول بدائها أعطتنا، بالمعايشة والممارسة الما بتتخلف، أنُّ ما في صنعة انصنعت بدون صانع، بالمرة .. في تجربتنا الطويلة وتجربة أسلافنا وتاريخنا المكتوب وتاريخنا غير المكتوب، أصلاً ما حصل أنُّ حاجة صنعت نفسها .. فلمن بقى الكون ماثل قدامنا، والتجربة قائمة في أنُّ تربيزتنا القدامنا دي عملها النجار وكل حاجة تشير لِنا إلى صانعها، أصبحت العقول تقول أنُّ الكون دا عنده خالق .. زي ما كل حاجة عندها صانع، الكون عنده صانع .. ونحن قلنا أنُّ الأعرابي البسيط سالوه كيف عرف الله .. قال: «البعرة تدل على البعير» .. يعني إذا كان هو ماشي في الصحراء ورأى بعرة بعير ما بيبعد أبدًا من باله، بل يقوم في باله بصورة مجسدة أنُّ مر بعير بالمنطقة دي، أو أنُّ في بعير، قريب أو بعيد، ودي بعرته تدل عليه .. قال: «البعرة تدل على البعير» .. يعني الصنعة تدل على الصانع .. ربنا قال: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم» .. لما نحن ندرك الأشياء بإدراكات عقولنا بالصورة دي، دي تدلنا على قوة داخلية فينا بها أدركنا .. هي قوة الإدراك، فقوة الإدراك دي تتسع وتتريض وتعظم وتكبر حتى تمشي لتعرف الله ..
الناس المبتدئين يعرفوا الله بمخلوقاته .. الناس المستويين على المعرفة، يعرفوا المخلوقات بالله .. وفي الآية: «سنريهم آياتنا في الآفاق»، دي البداية .. «وفي أنفسهم»، دي مرحلة تقدم لقدام .. وبالصورة دي بين الخارج والداخل، بين الظاهر والباطن، لغاية ما نعرف الله، «حتى يتبين لهم أنه الحق» .. بعدين في صورة توبيخية تجيء في الآية: «أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد!» .. كأنه بيقول، مش حقو تعرفوا المخلوقات بالخالق بدل تعرفوا الخالق بالمخلوقات! «أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟» ..
ففي حالة معينة من الاستواء في المعرفة، المخلوقات تكون حجاب عن الخالق، والخالق بِهُ تُعرف المخلوقات .. ويُعرف من انبثاقه في داخلنا، لأنُّ نحن ما بيننا وبينه إلا الحجب .. ما بيننا وبينه إلا الجهل، والمخاوف، والأوهام، والخرافات، والعادات الرديئة .. ولذلك يجيء يقول: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» .. ران يعني غطى .. وما منع الحقيقة الأزلية المركوزة في قلوبنا، اللي هي الله، أن تنعكس على عقولنا، إلا الجهالات الحائلة بيننا وبينه وكانت هي الحجب .. وهي هي المخلوقات .. أكبرها نفسنا ثم المخلوقات الأخرى .. فكأنُّ إذا كان نحن رفعنا الحجب من بيننا وبينه، ما بنحتاج لأن نستدل عليه بالكون الخارجي .. لكن ليس هناك سبيل إلى أن نرفع الحجب من بيننا وبينه إلا بتمرسنا بالفكر وبالرياضة دي البتجيئنا من معرفة الكون الخارجي والقياس والتردد بين الداخل والخارج لغاية ما تستقيم عقولنا بالرياضة وبالأدب وبالتهذيب لغاية ما تصبح محايدة .. لغاية ما تصبح غير متبعة لهواها، وإنما متبعة لأمر الله وراضية بالله وسايرة خلفه ومذعنه لِهُ ومنقادة ومسلمة .. لمن نصل للمسافات دي كلها ما بنستدل على الله بمخلوقاته، وإنما بنستدل على المخلوقات بالخالق، «أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟» ..
الكون الأكبر عند العارفين هو الإنسان، لمن هو قال: « وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر» .. هو أشار إلى الأكوان .. ومن وراء الأكوان أشار إلى المكون .. الأكبر من كل كبير هو الله .. الله فينا، وكيف نحن صغار إذن؟ كأنه بيقول لِهُ كدا .. عندهن أنُّ العالم الأكبر مش هو العالم الفي الآفاق، وإنما هو الإنسان .. والكبر هنا، بطبيعة الحال، ما كبر مسافة، وإنما هي القيمة .. الإنسان أعظم ما في الكون ..
هنا نأخذ مفهوم يقرب لينا معنى الحروف الفكرية .. الحروف الفكرية إذا قيست بالحروف الصوتية، القياس يعجز وينقطع .. كما أنُّ الحروف الرقمية إذا قيست بالحروف الصوتية، القياس يعجز وينقطع .. الحروف الرقمية محدودة .. الحروف الصوتية أكبر منها بما لا يقاس .. وهي أيضا محدودة .. لكن الفرقة بينها وبين الحروف الرقمية لا تقاس .. الحروف الفكرية تكاد تكون مطلقة .. زي ما قلنا عنها قبيل، هي ما ها مطلقة، لكن متاخمة لمنطقة المطلق .. وهي إذن أكبر من الحروف الصوتية بما لا يقاس ..
القرآن ما هو اللغة العربية .. القرآن هو ذات الله تنزلت في المنازل القريبة مننا لغاية ما انصبت في قوالب اللغة العربية، لعلنا نعقل نحن عن الله .. فالاستطراد بيسوقنا إلى أنُّ الناس البيفتكروا أنُّ اللغة العربية بتعطينا معاني القرآن وتستقصي معاني القرأن، هم في الحقيقة محجوبين حجاب كبير جدًا عن القرآن .. اللغة العربية تعطي ظاهر القرآن .. تعطي تفسير القرآن .. ودا ختم الغلاف، كما حصل نحن سميناه مرة .. القرآن عنده سبعة أختام .. ختم الغلاف يفض باللغة العربية .. والإنسان الممكن يفسر القرآن، يجب أن يكون متوفر على معرفة اللغة العربية معرفة دقيقة، ومعرفة اصطلاحات العرب، ومعرفة أيامهن، وتاريخهن، وحروبهن، وقصصهن، وكل وسائل التعبير البيعبروا عنها باللغة العربية، يكون مطلع عليها .. بالصورة دي يستطيع أن يفسر القرآن .. ثم هو بتفسيره ما فض، أو ما كاد يفض غير ختم الغلاف، غير القشرة من القرآن .. في داخل القشرة، سبع طبقات .. كل طبقة داخلها سبع طبقات، إلى ما لا يتناهى .. لأنه القرآن بدايته عندنا في اللغة العربية ونهايته عند الله .. لأنُّ هو ذات الله .. وقال، مرة تانية نقرأ ليكم: «حم .. والكتاب المبين .. إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون .. وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم» .. أنا أفتكر بينشافن الوضعين فيه .. «أنا جعلناه قرآنا عربيا» في الأرض، في بلاد العرب .. في وكت الإنزال القرآن نزل باللغة العربية بالصورة دي .. وهو، بطبيعة الحال، مقصود لعموم الأرض، لكنه نزل باللغة العربية في الأرض، على العرب عن النبي العربي، لعلنا نعقل .. لكنه هو في أم الكتاب في الذات، في ذات الله، لا يوصف .. لأنه هو الذات .. وحتى لمن قال، «لعلي حكيم»، لمجرد أن يعطينا العبارة .. لكن الإشارة وردت في «حم» .. و«حم» ما عندها معنى، لأنها حروف .. والحروف هي قيود للأصوات، فدا مجهول، حركة .. الحركة منطلقة من المحدود ماشية للمطلق ..
اللغة العربية هي في الحقيقة نشأت من الممارسات اليومية، في الحياة المعيشية الجسدية .. اللغة ما وضعت للمعاني .. لكن تطورت في أثناء تطور الحياة من صور غليظة إلى صور أصبحت لطيفة تستوعب المعاني، والإشارات، ورقائق الخواطر البتجيش في النفس البشرية .. ويجب أن يكون واضح أنها هي عاجزة كل العجز عن أن تنقل لِنا معاني القرآن .. في الحقيقة، حتى يعني أي كلمة من الكلمات ما بنملأ نحن معناها إلا بممارسة معينة نستطيع بِها أن نفهم الكلمة بتعني شنو .. نحن مثلا بنضرب مثل بكلمة «جمل» .. كلمة جمل، في بادية الكبابيش وفي شوارع الخرطوم، تنقل معنى مختلف كل الاختلاف للسامع .. يعني طفل في امتداد الخرطوم قد يكون كلمة جمل لا تنقل لِهُ أي معنى .. وقد يكون تنقل لِهُ صورة واحدة، من جمل شايل الحطب وحائم .. قد يكون دا ذاته ما شافه في امتداد الخرطوم، يجوز في محلة تانية شافه .. لكن، على أي حال، طفل في الخرطوم يجوز يكون شاف جمل الحطب .. مجرد ما يسمع كلمة جمل، ينبعث في ذهنه صورة واحدة هي الجمل البيتهادى وشايل الحطب .. طفل زيه في بادية الكبابيش لمن يسمع كلمة جمل، تنقل لِهُ الكلمة صور كتيرة، وألوان كتيرة، وأحجام كتيرة للجمال .. لأنه هو في ممارسته بيعيش في وسط فيه الجمال كثيرة .. ودا في ممارسته بيعيش في وسط قل أن يشوف فيه جمل .. فاللغة بالصورة دي ..
اللغة نحن نملأها بالممارسة .. والمعاني البتنبعث في أذهاننا لما نسمع الكلمة، تجيء من ممارستنا .. هنا يجب أن يكون واضح أنُّ معاني القرآن بتجيء بالممارسة في العبادة .. والكلمات العربية تبقى إشارات لهذه المعاني، اللي انبعثت فينا من الممارسة ومن العبادة في أذهاننا .. أكتر من أنُّ اللغة ما بتدي معاني القرآن، اللغة حجاب عن القرآن ..
والناس اللي نحن خصوصًا في الأيام ديل بنراهن مهتمين كتير باللغة العربية، إذا كان عرفوا القيمة دي، عرفوا أنُّ اللغة العربية بالنسبة للقرآن ما هي شيء، وهي قد تكون حجاب، يمكن يوفروا كتير على أنفسهن من الجهد البيبذلوه ويوفروا على الناس من المادة المقروءة والمادة المسموعة، ويوقفوا انصراف الناس عن حقيقة ما هو مطلوب منهن، اللي هو أن يأخذوا معاني القرآن من التوحيد، من الممارسة دي .. اللغة العربية عندها قيمة الإشارة إلى المعاني .. لكن المعاني تنصب في قوالب اللغة من الممارسة في العبادة وفي التوحيد .. القرآن يؤخذ معناه من الله ..
بهذا نصل إلى ختام حديثنا الرابع .. حديثنا الخامس سيتوفر على القرآن واللغة، إن شاء الله ..