إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة السادسة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الثاني

وفي حديث قدسي صدر لداوود في هذا الباب، هو غاية من الإيضاح .. يقول الحديث: «يا داوود إنك تريد وأريد، وإنما يكون ما أريد .. فإن سلمت لما أريد، كفيتك ما تريد .. وإن لم تسلم لما أريد، اتعبتك فيما تريد .. ثم لا يكون إلا ما أريد» .. واضح جدًا أنُّ الأمر بالصورة دي .. إنت إذا كان عائز إرادتك تنفذ، سلم الإرادة لي الله .. إن كنت لِهُ عبد راضي بهُ، يأمر الأشياء تطيعك .. إن أطعت الله، الله يطيعك .. ويكون تجيء العبارة القرآنية: «لهم ما يشاءون فيها، ولدينا مزيد» .. دا طريقه، طريق أن تكون عندك صفات الربوبية، هي أن تكون أنت ملتزم بصفات العبودية «الطاعة، والرضا، والتسليم» ..

التسليم هو اللي منه العبارة «الإسلام» .. الإسلام هو في الحقيقة التسليم الراضي المنقاد .. «اسلم» يعني استسلم، وانقاد، وارضى .. «استسلم»، اسلم إرادتك لِهُ واعلم أنه هو المريد وأنت إرادتك وهمية .. فإذا انتفى عنك الوهم بانتقالك في المنازل القلناها قبيل، من حق إلى حق أولى منه وإنت ماشي نحو الحقيقة .. تواجهك الصورة بحسم واضح وتذوقها ذوق وتستيقنها استيقان أنك إنت ما عندك إرادة، وإنما الإرادة للواحد .. وأنُّ إنت عليك أن تسلم إرادتك وترضى بإرادته .. «فإن سلمت لما أريد، كفيتك ما تريد .. وإن لم تسلم لما أريد، اتعبتك فيما تريد» .. ودا ما يكون عليه أغلب أحوالنا في متقلبنا ومثوانا .. «اتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد» ..

وهم الإرادة هو الوهم الأكبر، وهو الصنم الأعظم .. هو الصنم الأعظم .. كل عبادات أخرى لغير الله هي في الحقيقة انعكاسات لهذه الإرادة اللي بها يجيء أمر التسيير والتخيير .. وناس كتيرين توهموا أنُّ، وفرق، في الحقيقة، قائمة ومذاهب قائمة وتزعم أنُّ الإنسان مخير في بعض أعماله .. دي بتجد تأييدها في ظاهر نصوص القرآن .. الناس القالوا أنُّ الإنسان مسير في كل كبيرة وصغيرة وجدوا أسانيدهن من القرآن .. والناس القالوا أنُّ الإنسان مخير في بعض أعماله وجدوا أسانيدهن من القرآن .. والحجج قامت في مواجهة الحجج حتى لكأنّ الناس بيأخدوا من مذهبين مختلفين ومن كتابين مختلفين لا من كتاب واحد .. السر، كما قلنا، أنُّ القرآن يماشي الوهم ليسيِّر الإنسان رويدًا رويدًا ويسيرًا يسيرًا من الوهم إلى اليقين من غير أن يزعجه، من غير أن يشق عليه .. والعبارة النبوية في «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» هي الأمر الساري ..

وهناك، الحقيقة، وهم أيضًا كبير جدًا من أوهام العادة .. هي نفسها أوهام الإرادة لكن درجت بها العادة .. هي في أمر المال .. في أمر المال، المال مالنا .. لأنُّ نحن ألفنا أننا بنعمل وننصَب ونتعب ونجمع وندبر المال .. فأصبح المال مالنا .. ومعلوم قول أهل الردة .. عندما التحق النبي بالرفيق الأعلى وعدد من المسلمين ارتد وهُددوا بأنهم سيُقاتلوا، قالوا: إنا مسلمون! «إنا والله مسلمون وإنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونصلي، ونصوم، ونحج البيت، ولكنا لا نؤتي أموالنا .. إنها الجزية والله!» .. فالأمر المألوف اللي جرت بِهُ العادة، في الوكت الماضي وفي الوكت الحاضر وفي كل محل، هو أنُّ المال مالنا .. ويجيء القرآن يجاري لِنا الوهم دا لينقلنا قليلاً قليلاً إلى أن نعرف أنُّ المال مال الله من غير أن يزعجنا بمصادمة العادة .. زي ما قلنا، القرآن كتاب عقيدة .. وهو متجه لأن يعمق العقيدة .. ما بيوجد لهن تصادم مع البديهة المعاشة .. البديهة المعاشة أنُّ المال مال الناس، فيجيء يقول: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم .. إن صلاتك سكن لهم» .. مع أنُّ القرآن نفسه في مواضع أخرى يقول: «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» .. أو يقول: «وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» .. هنا الأمرين واردين .. يعني زي ما المذاهب المختلفة كانت كل مذهب معارض للمذهب الآخر ويؤيد مذهبه من القرآن، أهو يمكنك إنت أن تشوف أنُّ في موضع القرآن يقول، المال مال الله، وفي موضع يقول المال مالكم ..

وتورط بعض الناس، بخاصة المستشرقين، في ظن أن القرآن يتناقض .. أنّ القرآن يناقض بعضه .. والنظرة السطحية، من غير أن تتعمق، مسألة مسايرة القرآن لوهم العقول ووهم الحواس ووهم العادة، تدل على أنُّ القرآن فيه تناقض .. لكن الأمر ما فيه تناقض في الحقيقة إذا كان نحن تعمقنا الموضوع .. هنا يجيء مثلاً: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا» .. دا تقوم عليه تربية كبيرة بصورة موكدة عند الفقهاء، مثلاً .. كأنُّ نحن مأمورين بألا نصرف بغير حساب .. الحاجة المعروفة أنُّ النبي ما كان بيدخر .. ما بيدخر رزق اليوم لبكرة .. لكن إنت ممكنك تسمع الحجج عند الفقهاء يأمروك بأن ما تسرف في الصرف .. يعني، ادخر .. «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك»، دا كلام واضح .. أنك إنت ما يجب أن تكون بخيل بالمال وشحيح بالصورة اللي كأنُّ إيدك البتمد بها دي مربوطة إلى عنقك ولا تستطيع أن تبسطها بالعطاء .. لكن يجيء يقول: «ولا تبسطها كل البسط» .. الأمر دا إذا كان هو الأولى، يبقى كان النبي يأتمر بِهُ .. لكن النبي ما أتمر بِهُ .. السر فيه أنُّ هو مماشي لوهم الناس .. خوف الناس من الفقر .. القرآن ما يكلفهن شطط .. تكليف النبي عُلم، والنبي علمه .. وهو في مستوى توحيده .. وتوحيده يخليه يحول هم معيشته على المخزون عند الله، مش المخزون عنده هو .. لما الناس ما كانوا في المستوى دا، ما أمروا شططًا، وإنما ساير القرآن وهمهن وخوفهن من المستقبل، من بكرة لمن يصبحوا بدون رزق مخزون عندهن .. وسر الآية كله يجيء: «فتقعد ملومًا محسورًا» .. إذا كان إنت إذا أنفقت بتقعد ملومًا محسورًا لأنُّ مستوى توحيدك ما بيحيل أمورك على الله وما بتكون ثقتك كبيرة بالمخزون عند الله، يبقى إذن تخاطب إنت بهذه الآية: «ولا تبسطها كل البسط» .. لكن من المؤكد أنُّ لمن النبي ما كان بيقعد ملومًا محسورًا لمن ينفق كل ما عليه، أصبح التكليف في حقه كأنُّ بيقول لِهُ، «ابسطها كل البسط» .. ومن هنا تجيء: «ويسألونك ماذا ينفقون .. قل: العفو» ..

العفو دا يبتدئ من الزكاة ذات المقادير .. العفو هو اللي ممكن تجود بِهُ نفسك بدون أن تجد مشقة في الجود .. ما تبذله إنت من مالك بدون أن يكون في مشقة على نفسك .. دا العفو، وهو قاعدته أو حده الأدنى الزكاة ذات المقادير .. لكن النبي تسامى بِهُ، فيما يخصه هو في خاصة نفسه، إلى أن يكون «العفو» ما زاد عن الحاجة الحاضرة، حاجة اللحظة الحاضرة .. لأنُّ إذا كان هوعاش اللحظة المقبلة رزقها عند الله .. والتوحيد يأمره بأن يكون هو أوثق بما عند الله منه بما في مخزنه .. والحقيقة، مجرد «لا إله إلا الله» توجب أنُّ الإنسان يحول كل همه على الله، ورزقه على الله .. وإذن، في قمة الأمر جاء أن «العفو» عند النبي هو ما زاد عن لحظته الحاضرة، و«العفو» عند الأمة هو ما جاءت بِهُ الزكاة ذات المقادير في مقاديرها المعروفة في الأعيان المعروفة .. نحن بنسوق الحديث دا لنوري أنُّ القرآن، وبخاصة في الكلمات العربية وفي ظاهر النص، بيتنزل مع الأوهام، أوهام الحواس ودللنا عليها، وأوهام العقول في مسألة الإرادة ..

أوهام الحواس ودللنا عليها بمماشاة ظاهر القرآن لما تعطيه العين من أنُّ الأرض مسطحة .. وقلنا: «الأرض فرشناها»، و«الذي جعل لكم الأرض مهدا» .. وأوهام العقول دللنا عليها بمجاراة وهم الإرادة البنزعمها نحن لأنفسنا .. أننا عندنا إرادة مستقلة نسَّيطر عليها ودللنا عليها بـ«لمن شاء منكم أن يستقيم .. وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين» .. وأوهام العقول برضو، أوهام العادة، في مسألة المال، ودللنا عليها بمجاراة القرآن لِها في هذا الوهم، في عبارته أنُّ المال مال الناس: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم» .. مع أنه في موضع آخر يقول: «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» .. ودللنا برضو على أمر في مجاراة الوهم في الناحية دي لِهُ أثر كبير جدًا في سلوك الناس، هو أنُّ الناس يعتقدوا أنُّ الله أمرنا ألا نصرف بغير حساب .. كأنه أمرنا أن نصرف بعض مالنا .. نعم، هو أمرنا أن نصرف بعض مالنا، ولكن دا مجاراة لوهمنا نحن .. مجاراة لوهمنا في أننا بنعتقد أنُّ لو صرفنا بنتعرض للفقر .. نفوسنا شحيحة بالمال، فهو بيدرجنا حسب طاقتنا .. والدليل أنُّ لمن ورد الخطاب في القرآن: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا»، الخطاب دا ما متوجه للنبي .. دا تكلمنا عنه أنُّ النبي كان بيصرف بغير حساب .. لكن نحن لو يقال لِنا اصرفوا بالصورة اللي بها النبي بيصرف، لو كانت دي شريعتنا، كانت قطعتنا .. كانت بقت في عنت ومشقة علينا، وكان بقت في صعوبة أن نسير نحن في مراق الدين .. كان في صعوبة أن ندخل في الدين، في الحقيقة، في المكان الأول .. لأنُّ، «وأحضرت الأنفس الشح» .. «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» .. فالأمر يحتاج إلى تدريج ..

شاهد الموضوع دا كله النحن بنتكلم عنه أنُّ ظواهر النص، إذا ما استعين عليها بالتوحيد، مش هي يعني بتعطي المعاني، بل، الحقيقة، بتحجب عن المعاني وتحجب عن التوحيد وتكون معطِّلة ومضرة .. والأمر دا كله بنسوقه نحن، زي ما بدإناه قبيلك، أنُّ ظاهر القرآن ما بيعطي معاني القرآن .. والقول بأنُّ اللغة العربية ما بتحمل معاني القرآن ما حقّو يأخد مننا وكت طويل كدا، لكن الناس درجوا على أنُّ يألفوا الأمر دا .. حتى ناس بينكروا علينا أن نقول نحن أنُّ القرآن ما بيفهم باللغة العربية وحدها .. والحقيقة أنُّ القرآن نهاياته هي في الذات .. يعني القرآن هو ذات الله .. لأنُّ القرآن هو كلام الله، والله ما متكلم باللغة العربية، إلا في تنزلاته لنعقل عنه نحن .. ولكنه، في ذاته، الله بيتكلم بالذات .. والقرآن كلام الله هو ذات الله في التناهي .. والتناهي دا ماشي ليحمِّل اللغة العربية ما تستطيع أن تحمل الكلمة .. ثم ينتهي من الكلمة إلى الإشارة، زي ما هو وارد في النص: «الم .. ذلك الكتاب .. لا ريب فيه هدى للمتقين» .. فالإشارة بـ«ذلك» لـ«الم»، وقلنا عنها في أشرطتنا الماضية ..

بعد ما انتهت العبارة إلى الإشارة، الإشارة متجهة كأنها بتقول: «مقصودكن أمامكن، مقصودكن أمامكن» .. ونحن باللغة العربية بنفهم معطيات العقول .. والعقول المروضة، يا هو دا أصلها .. أصلها اللغة، الحقيقة، أثر من آثار العقول، وهي أداة العقل ليعبِّر بها .. وهي استُنبِطت من أجل المعيشة اليومية، ومن حاجة المعيشة اليومية .. ونشأت من الأصوات اللي بنشترك فيها نحن مع الأحياء والأشياء، من أصوات الحيوان .. ودا كلام كنا قلناه .. فإذا كان تطورت العبارة إلى أعلى ما يمكن أن تصل لِهُ، هي أعلى ما يمكن أن تصل لِهُ العقول .. والعقول لا حظ لها في الإحاطة بالذات .. لا حظ لها في معرفة الذات بمعنى معرفة الإستقصاء .. العقول تدل على أنُّ الذات موجودة وموصوفة بالصفات المنزهة عن إدراك العقول .. بل، الحقيقة، العقول تدل على أنُّ .. العقول والنقول تمشي في الاتجاه دا .. العقل دائما بيتوكأ على النقل .. النقل يودِّينا إلى أنُّ العبارة ليس لها هناك نصيب .. يعني ذات الله ولا تُوصف، ولا تُعرف، ولا تُسمى .. وهي متنزهة عن الأوصاف .. و «سبحان ربك رب العزة عما يصفون؛ وسلام على المرسلين؛ والحمد لله رب العالمين»، دا النقل المنزه الله عن الصفة .. بعدين قال: «وسلام على المرسلين» لأنّ المرسلين أكبر من وصف الله .. المرسلين أعلم من وصف الله ..

ثم أنّ المرسلين لم يصفوا الله إلا بصفاته لنفسه .. لأنُّ المرسلين عندما وصفوه .. مثلاً، إذا كان جاءنا في القرآن أسماء الله الحسنى التسعة وتسعين إسم، دي ما وصف النبي لي الله وإنما وصف الله لذاته أنزله على نبينا .. فـ«سلام على المرسلين»، معناه هم أكمل من وصفه .. وتجيء العبارة في أنُّ هو وصفه لنفسه مقيد بإدراكنا نحن برضو .. كأنُّ هو بيصف نفسه بصفات نحن بنشاركه فيها .. مثلاً: الحي، والعالم، والمريد، والقادر، والسميع، والبصير، والمتكلم .. دي السبع صفات النفسية .. هي صفات الله الواردة لِنا في القرآن .. وهي صفاتنا نحن .. نحن مشاركينه في الصفات .. الأسماء الحسنى كلها هي في حقنا نحن .. هي في الحقيقة في حقنا نحن في الأصل وفي حقه هو بالحوالة على الأمر دا، لأنه هو أعلى منها وأكبر .. على أننا نحن ما بنعرفه إلا بمعرفتنا لصفاتنا نحن .. نحن أحياء .. فلمَّن يقول «الحي»، يقوم في بالنا تصور للحياة .. لمَّن يقول «العالم»، نحن علماء، يقوم في بالنا تصور للعلم .. لمَّن يقول «المريد»، نحن مريدون، يقوم في بالنا تصور للإرادة، وهكذا بقية الصفات .. فنحن ما كنا يمكن أن نعرفه لولا أننا بنشبهه .. ومن أجل الشبه جاءت الصفات في الشبه، صفاته وصفاتنا متشابهات .. نحن نشبهه ..