النبي مأمور بأن يبين مقدار معين من القرآن يدخل في رسالته .. دا يمتنع أن يكون فيه كتمان .. القرآن المقروء كله دا يدخل في الرسالة .. التبيان ما يدخل منه في الرسالة إلا ما تطيقه عقول الناس وما يحل مشكلتهن .. ودا معنى، «لتبين للناس ما نزل إليهم» .. كأنُّ مش لتبين للناس كل القرآن، لأنُّ دا بالتوحيد يمتنع .. يبقى اللغة، يستقيم معاها، أنُّ نقول: لتبين للناس الذي نزل إليهم من المستوى العالي إلى المستوى الواطي، من الأصول إلى الفروع .. ونحن ضربنا بِدا أمثال، في أحاديثنا ديلك، أنُّ الأصول نُسخت بالفروع .. فإذن، الآية المنسوخة ما نُزلت للناس في مستواهن .. ولذلك النبي ما كُلف بأن يبلغها، يبلغ تبيانها، يبلغ بيانها .. نحن حتى ممكن نضرب مثل بِدي: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» .. لما نزلت الآية دي، قالوا: «أينا لم يظلم يا رسول الله؟! قال: ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا بقول العبد الصالح لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم؟» .. إنما هو الشرك .. الشرك هم يفهموه في مستوى أن يتخذوا الأصنام، لأنهم كانوا على شرك، بيعبدوا الحجر .. فلمن جاءهم التوحيد، نبذوا الأصنام، ولم يعودوا يعبدو الأصنام مرة تانية .. فلمن جاءهم التفسير في مستوى ما يفهموا، عقلوا .. دا ما هو مأمور بِهُ النبي أن يبينه .. لكن هو قال في حق نفسه، لمن قرأ: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون»، قال: «قيل لي: أنت منهم». فواضح مستوى ما فهم النبي من الآية فيما يخصه هو في خاصة نفسه، ومستوى ما يجب عليه أن يشرح بِهُ الآية لمستوى الناس، في حيز الرسالة، أو ليبينه للناس ..
فلمن قال لِهُ: «وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم»، المثل اللي جبناه في الصورة دي يبين لِكم .. الذكر فيه المعنى السامق الكبير اللي بِهُ النبي من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، والمعنى المتنزل للقاعدة الغليظة اللي بها الناس، برضو، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، في مستوى الظلم اللي هو عبادة الوثن الحسي الغليظ .. لكن تتفاوت المسائل في مراحل الشرك الخفي اللي ما بينتهي إطلاقًا .. الشرك الخفي النبي قال عنه عبارة: «هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصلداء .. أو الصماء» .. فالشرك الخفي لا ينتهي .. «إن الشرك لظلم عظيم»، الكلمة دي تعني المعاني الدقيقة دي كلها، من الغلظة في عبادة الوثن الحسي، اللي كانوا هم عليها، إلى أن تجيء التفاوتات في المعاني اللي بتمشي ولا تنتهي إطلاقًا .. لأنُّ الوجود السرمدي، وجود العبد والرب .. فما دام في وجودين، ما دام في وجود عبد بإزاء وجود الرب، مهما دق هذا الوجود، هو نوع من الشرك قائم ويخفى ويدق ويلطف، ولكنه لا ينتهي إطلاقًا .. لأنُّ نهايته أن يكون العبد الرب، وهيهات!
فالمسألة إذن، مسالة القرآن، يجب أن تؤخذ من التوحيد ومن اللغة .. ما حد يجيء يقول أنُّ اللغة ما لِها اعتبار، ونحن ما نهتم لِها؛ ولا حد يقول لِنا، غير اللغة ما في حاجة، ودي هسع الورطة النحن فيها .. في الوكت الحاضر الناس بفتكروا أنُّ غير اللغة ما في حاجة .. حتى صرفوا الناس عن العمل .. لكن اللغة قد تكون عدو، قد تكون حجاب .. قد تكون صارفة عن المعاني بصورة مضرة بالفهم، ومضرة بالتوحيد نفسه .. فالقاعدة الذهبية إذن، يمكن للإنسان يقول، هي أنّ القرآن تؤخذ معانية من الله .. ودا ما عنيناه بالممارسة، أنُّ اللغة العربية أواني تحمل لِنا معاني هي ما نضعها نحن فيها بفضل ممارستنا .. الممارسة المقصودة، في المكان الأول، هي ممارسة العبادة ..
لأنُّ اللغة بتنقل معاني، معناها تنقل علوم .. والعلوم أرفعها ما يؤخذ من الله، وما سمي بالعلم اللدني .. ودا وسيلته العبادة عندنا نحن المسلمين في تقليد النبي بوعي .. لأنُّ النبي حياته جُعلت مفتاح القرآن .. الممارسة دي تختلف في مستوياتها، من المعرفة بالله إلى المعرفة بأمور الدنيا .. وإن كانت المعرفة بأمور الدنيا عند الله ليست بعلم .. ليست هي بالعلم النافع .. هناك يقول: «وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» .. فسماها علم وسحب منها معنى العلم .. كأنه خصص العلم بالله، «لكن أكثر الناس لا يعلمون .. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون» .. والعلم كله من الله ..
الله يعلم كل العلوم .. يعلم آيات الآفاق، ويعلم آيات النفوس .. يعلم الأكوان ويعلم المكوِّن: «سنريهم آياتنا في الآفق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد!» .. وعندما قال: «علم بالقلم» قال: «علم الإنسان ما لم يعلم» .. لم يقل علم المؤمن ولا علم المسلم .. فمطلق من تعلم ومطلق علم من أي نوع كان، إنما هو من الله .. والممارسة في المستويات المختلفة، تعطينا مستويات مختلفة من علوم القرآن .. ففي العلوم الدنيوية والممارسات الدنيوية نحن نصل إلى مستوى من الفهم .. وفي ممارستنا للدراسات والاطلاع على ثقافة عصرنا نحن برضو نصل إلى مستوى من العلوم ..
فإذا كان طبقنا ممارستنا الفردية من صناعة واكتساب للمهارة في أي عمل من الأعمال اليدوية؛ ضفنا ليها الاطلاع الأكاديمي النظري على تراث العصر؛ ضفنا ليها العبادة المجودة، نحن بالصورة دي نكاد أن نفهم من القرآن شيء كبير جدًا .. ودا في الحقيقة ما قلناه في حديث من أحاديثنا، من أنُّ تفسير المفسرين ليس هو القرآن، وإنما هو فهم المفسر عن القرآن .. وفهم المفسر رهين بأشياء كثيرة، منها تحصيله الفردي في عمره وممارسته؛ ومنها اطلاعه على ثقافة عصره؛ ومنها وأهمها ممارسته للعبادة، عبادته ..
نحن في ثقافة العصر بتظهر لِنا الصورة بشكل واسع، لأنُّ المدى طويل .. فمثلاً، عصر أكتر المفكرين كانت ثقافته قاصرة، خصوصًا في علم الفلك، قاصرة على ما يعطيه النظر .. والقرآن بيتمشى مع ما يعطيه النظر .. فمما يعطيه النظر أنُّ الأرض مسطحة، مثلاً .. الإنسان يعاين، مدى بصره، يرى أنُّ الأرض مسطحة .. ودا برضو يجيء في نظرك للأفق، وللفضاء الخارجي في الليلة المقمرة، تشوف النجوم وكأنها العنب، أو البلالي الصغيرة .. العلم دا يأثر على تفسيرالمفسرين للقرآن .. يجيء القرآن يقول: «والسماء بنيناها بأيد، وإنا لموسعون .. والأرض فرشناها فنعم الماهدون .. ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون .. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين» .. تلقى المفسرين يمشوا مع كلمات القرآن وممارستهن هم في ثقافة عصرهن ..
ثقافة عصر الإنزال، ممارسة الناس في عصر إنزال القرآن، كانت بتقوم على وسائل الملاحظة البسيطة، العين المجردة .. وجاء القرآن، في ظاهر نصه، يتمشى مع ثقافة العصر، لئلا يصادم البديهة المعاشة .. وهي في الحقيقة، وسائل المعرفة المنفتحة للعقل البشري على الكون الخارجي، هي الحواس .. هي العين، وهي الأذن، وبقية الحواس .. وما نأخده نحن من علم، عن الكون، مدخلنا عليه الحاسة المجردة .. الحاسة، العين مثلاً، تعطي أنُّ الأرض مسطحة .. لأنُّ الإنسان، مدى البصر، يشوف الأرض مفروشة، الأرض مسطحة .. ظاهر النص في القرآن جاء ليمشي مع الثقافة المعاصرة، وجاءت الآيات التي ذكرناها قبل حين: «والسماء بنيناها بأيد، وإنا لموسعون. والأرض فرشناها، فنعم الماهدون .. ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون .. ففروا إلى الله، إني لكم منه نذير مبين» .. وقلنا، «الأرض فرشناها»، تعطي معنى أنُّ الأرض مسطحة، وهو المعنى الذي أعطته الحاسة للناس في أول أمرهم .. ويجيء برضو القرآن يمشي: «عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون .. كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون .. ألم نجعل الأرض مهادا» .. هنا «أرضًا مهادا» معناها كالمهد، مفروشة وموطأة، مسطحة .. ويقول: «والله جعل لكم الأرض بساطا» .. «والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا» .. فواضح أنُّ ظاهر النص يعطي ما أعطته الحاسة، وهي أنُّ الأرض مسطحة ..
ومعلوم أنُّ القرآن كتاب عقيدة، كتاب دعوة إلى التوحيد، وكتاب معارف، معارف لدنية، معارف عن ذات الله وعن اسماء الله وصفاته وأسرار أفعاله .. وهو كتاب تسليك .. فيبتدئ إذن من البداية .. يبتدئ بان يقر البديهة المعاشة والبديهة التي تعطيها الحاسة اللي هي أول وسيلة من وسائل المراقبة، وسائل جمع المعلومات، وإن كان هناك وهم فيها .. يمكنك أن تقول أنُّ القرآن يماشي وهم الحواس لينقلنا منها على مكث وعلى لبث إلى أن نصل إلى تنقية معلوماتنا من خداع البصر، ووهم الحواس .. ومن الحكمة الكبيرة جدًا أنُّ بيمشي في الاتجاه دا، لأسباب كتيرة منها أنُّ هو كتاب عقيدة .. والعقيدة، في حد ذاتها، لمن جاءت دعوة للتوحيد، في حد ذاتها مشكلة على الناس .. فإذن ما هو من الحكمة أنه يجيء يقفز بِهم ليصادم البديهة المعاشة وما تعطيه الحاسة، فيقول أنُّ الأرض كروية .. وإن كان، بطبيعة الحال، قالها في مواضع تانية بالنص، لكن ما ركز عليها .. والناس أخدوا علومهن من القرآن في موافقة مع ثقافة عصرهن، فقالوا أنُّ الأرض مسطحة ..
وإلى يومنا الحاضر، الناس البيعتمدو على التفاسير، تفاسير السلف للقرآن، بيقولو أنُّ الأرض مسطحة وبيرفضو أنُّ الأرض كروية .. دا برضو يجيء في اتجاه حجاب اللغة عن معاني القرآن .. إذا كان الإنسان راح يصر على أنُّ هو يأخد معانيه من ظاهر النص فقط، قد يكون لِهُ حق في أن يعتقد أنُّ الأرض مسطحة ويستمر في اعتقاده دا، ويدافع عنه وينافح عنه، ويستشهد عليه بالنصوص .. ودا واقع اليوم .. لكن، على أي حال، الأمر مشى في ثقافة عصرنا الحاضر إلى أنُّ الأرض كروية .. وفي نصوص في القرآن بتدعِّم الرأي دا .. لكن الناس اللي اقتنعوا علميًا بأنُّ الأرض كروية هم في غالب الأمر ما من يسمون أنفسهم بعلماء الدين ..
الشاهد أنُّ الممارسة، في المدى البعيد، الممارسة بتظهر ضرورتها بصورة كبيرة في فهم القرآن نفسه .. الممارسة، زي ما قلنا، منها تحصيلك إنت الفردي؛ منها ثقافة عصرك؛ منها عبادتك .. فإذا إنت تخلفت في أي ناحية من النواحي دي ما بتكون مؤهل لأن تفهم القرآن في المستوى اللائق بوكتك ..
هناك يمشي مع الاتجاه دا، تفسير ينسب إلى حبر الأمة، عبد الله بن عباس، في: «وإذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت» .. فقال: «ذهب نورها ولفلفت وسقطت في البحر» .. كلام في هذا المعنى .. ودا برضو يجيء في مستوى ثقافة عصره .. لأنُّ إذا كانت وسيلة المراقبة وجمع المعلومات العلمية في الوكت الماضي كانت هي العين المجردة، بيظهر للعين، عندما تحدق في الفضاء الخارجي في الليلة الليلاء، الليلة المقمرة بالذات، أنُّ النجوم صغيرة كأنها العنب أو كأنها البلالي .. ويمكن جدًا أن يقبل العقل، بل الحقيقة لا يقبل العقل في الوكت داك غير أنها يمكن ملايين منها أن تسقط في نهر النيل .. فإذا قال ابن عباس في وكته أنُّ لفلفت وذهب نورها وسقطت في البحر، فهو محق .. وليس هناك أي شائبة من اللوم تعلق بهذا الفهم .. لكن جاء في وكتنا نحن الحاضر، الوكت اللي عرفت فيه أنُّ الأرض مكورة، وعرف فيها من آيات الآفاق ما لم يخطر ببال الناس في عهد إنزال القرآن، جاء علمنا أنُّ النجوم البنراها صغيرة في الأفق وفي الفضاء بالصورة التعطيها العين، هذه شموس .. منها ما هو أكبر من شمسنا، وشمسنا أكبر من أرضنا بشيء كتير .. فلا يمكن عقلا، في ثقافة عصرنا، أن نقول، أو حتى أن نقبل أن ننقل تفسير ابن عباس من موضعه الوضع فيه وعصره اللي قيل فيه لأن يكون هو تفسيرنا في عصرنا الحاضر .. وما ذاك إلا لأنُّ ثقافة عصرنا خلفت تلك الثقافة وكشفت ضعفها .. فتفسير ابن عباس يحترم في موضعه .. وهو صورة من تاريخ التطور، تطور الفكر الديني، في المراحل المختلفة .. ويقدر ويشكر عليه ابن عباس، ولكن نلام نحن إذا كنا نقلنا هذا التفسير إلى عهدنا الحاضر ..