وإنما كلف النبي في مستوى ألا يدخر رزق اليوم لغد، وأنه لو ادخره ما بيزكيه لأنُّ مكانه، من المعرفة بالله؛ من الثقة بالله؛ من التوكل على الله؛ من توحيد الله، أرفع من مكانة الأمة بشيء كبير .. في حديث يروي حالة من الحالات دي: «قيل أنه النبي تقدم مرة ليؤم أصحابه، وعندما همّ بالصلاة ورفع يديه للتكبيرة وكاد أن يهوي بيديه في التكبيرة، أرسل يديه وهرول إلى الحجرة ثم رجع .. فظهر على وجوه الأصحاب شيء من الاستغراب .. فعندما عاد ورآهم على تلك الحال، قال: لعلكم راعكم ما فعلت؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فإني تذكرت أن في بيت آل محمد درهمًا، فخشيت أن ألقى الله وأنا كانز» .. هذا هو مستواه من التكليف ..
وتكليف الأمة، زي ما هو معروف في الزكاة ذات المقادير، وفي مجاراة ضعف الناس ووهم الناس .. لأنُّ الحكمة في التشريع هو ما عليه القرآن من: «لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها» .. وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» ..
وفي القرآن نجد أنُّ في آية الزكاة، قال: «خذ من أموالهم» .. ونجد في القرآن يقول: «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» .. «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» .. الإنسان، في أول الأمر، يشوف كأنُّ في تناقض .. الحقيقة، كثير من سور القرآن؛ من آيات القرآن، الإنسان الما مدركها يفتكر أنها فيها تناقض، لكنها هي، في الحقيقة، تنزل من معنى كبير إلى معنى صغير .. المعني الفي الحقيقة، المعنى الكبير هو أنُّ المال مال الله، «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» .. ويقول: «وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» .. هو ماله .. نحن خلفاء عليه ليرى كيف نصنع في هذه الخلافة .. لكن المعنى دا بيكون بعيد من إدراكنا .. لأنُّ ما جرى عليه العرف .. ما جرت عليه العادة .. ما تواضع عليه الناس .. أنُّ المال البتكسبه هو مالك .. فهو، ليجاري وهمهم ريثما ينقلهم من الوهم قال: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .. وصل عليهم .. إن صلاتك سكن لهم» ..
هناك في تعريف بسيط يتفق لِنا في أول تعليمنا، عندما كنا في المدارس الابتدائية، تعريف للنبوة وتعريف للرسالة .. التعريف يقول، أنُّ: «النبي رجل من البشر أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول رجل من البشر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه» .. التعريفين بسيطين وجميلين .. لكن يبدو لي أنُّ بيحصل فهم خطأ منهن، في أذهان الناس، ودا نحن وُجِهنا به ..
الفهم الخطأ هو أنُّ النبي عندما أمر بأن يبلغ الرسالة .. النبي عندما أصبح رسول .. بيقوم في وهمنا أنُّ أمر بأن يبلغ شريعة نبوته .. يعني كل ما أوحي ليه من ما أصبح بِهُ نبي، عندما يكون رسول بيؤمر أن يبلغه .. ولذلك في بعض الناس، إذا قلنا أنُّ النبي بلغ جزء من ما أمر بِهُ، اللي هو ما يناسب الرسالة، يقولوا، إذا حصل دا، يكون دا كتمان!! الحق غير كدا .. الحق أنُّ النبي ما أمر أن يبلغ كل ما علم هو، وإنما أمر أن يخاطب الناس على قدر عقولهم .. ودا ورد في حديثه: «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» ..
وفي حديث يرد، من أحاديث المعراج، وهو: «ليلة عرج بي رأيت ربي في صورة شاب أمرد، فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: أنت ربي أعلم! فوضع يده بين كتفي حتى شعرت ببردها بين ثديي، فعلمت علم الأولين والآخرين، وأعطيت ثلاثة علوم .. علمًا أمرت بتبليغه، وعلمًا خيرت في تبليغه، وعلمًا نهيت عن تبليغه، إذ علم أنه لا يطيقه غيري» .. فأما العلم الذي أمر بتبليغه، فهو علم الرسالة .. وهو شرح وتبيين للتشريع في مستوى طاقة الأمة وحاجتها .. ويشمل علم الرسالة، تبليغ القرآن المقروء كله، ولكن لا يشمل من تبينه إلا ما تطيقه عقول الناس .. وأما العلم الذي خير في تبليغه، فهو علم النبوة .. هو السنة التي تحدثنا عنها قبل قليل .. فعلم النبوة قد يحدث بطرف منه بعض أصحابه، أبوبكر، مثلاً، ما لا يحدث به عمر، حسب ما يرى من تفاوت الكفاءة والأهلية بين الرجلين ..
وظاهر القرآن، أيضًا، قد يسوق في اتجاه الوهم دا، في أنُّ النبي مأمور بأن يبلغ كل ما علم .. لكن، الحقيقة، تعمق بسيط يعطي غير النظرة دي .. ظاهر القرآن، مثلاً، آية مثل: «يا أَيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إِلَيك من ربك وإِن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالَته واللَّه يعصمك من الناس إِن اللَّه لا يهدي الْقَوم الكافرين» .. آية، مثل هذه الآية قد يأخذ منها الإنسان أنُّ الرسول مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه .. والنص ظاهر .. مثلاً، البيضاوي يقول: «ظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل، ولعل المراد به تبليغ ما تتعلق به مصالح العباد .. وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه» .. بعدين يقول: «فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه» .. فالبيضاوي عنده أنُّ، ظاهر النص بيوجب التبليغ كله .. لكن هو علمه دلاه على أنُّ الأمر غير ذلك .. لأنُّ «بعض الأسرار الإلهية يحرم إفشاؤه»، حسب تعبير البيضاوي .. ويقول: «ظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل» ..
والحقيقة، الظاهر دا، لِهُ وضعه في الباطن، برضو، لأنُّ كل ما أنزل من القرآن المقروء يدخل في الرسالة ويجب تبليغه .. وعدم تبليغ أي جزء منه يعتبر كتمان، ودا، الرسول معصوم عنه .. الرسول معصوم عن الكتمان .. لكن نحن ما بنعرف الكتمان هو حدوده شنو .. فالنقطة الأنا عائزها تكون واضحة هي أنُّ القرآن المقروء بين دفتي المصحف كما موجود الآن، هو ما أنزل على النبي وما أمر بتبليغه ولم يكتم منه شيء .. لكن تفسير القرآن وتبيينه لا يدخل في موضوع الرسالة، وإنما يدخل في موضوع الرسالة منه ما تطيقه عقول الناس ..
دا يمشي في اتجاه أن يتبين لِنا بصورة واضحة أنُّ علوم النبي كبيرة جدًا وأنها لا تدخل في أمر الرسالة بالتبليغ .. ولا يدخل منها في أمر الرسالة بالتبليغ إلا جزء يسير جدًا .. ثم أنُّ علم النبي، على عظمته وعلى سعته، بالنسبة لعلم القرآن لا شيء .. لأنُّ علم القرآن هو علم الله المطلق .. القرآن هو ذات الله القديمة، ولا يعرف ذات الله إلا الله .. ولا يعرف القرآن إلا الله .. والنبي قد عُلِّم منه شيء كثير جدًا بالنسبة لعلم البشر، ولكنه بالنسبة لعلم الله لا شيء .. والحقيقة وارد فيه حديث، قال: «لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، ولعلمتم العلم الذي لا جهل بعده .. وما علم ذلك أحد .. قالوا: ولا أنت؟! قال: ولا أنا .. قالوا: ما كنا نظن الأنبياء تقصر عن شيء!! قال: إن الله أجل وأخطر من أن يحيط بما عنده أحد» .. فالأمر هو بهذه الصورة .. وكأنُّ تبيين القرآن النبي لا يطيقه، وما عند النبي الأمة لا تطيقه .. والفرقة بين الأمة وبين النبي .. بين ما يطيق النبي من الفهم ومن التكليف وما تطيق الأمة من الفهم ومن التكليف، هو الفرق بين السنة والشريعة ..
العلم التالت اللي ورد في حديث المعراج، هو علم الولاية .. دا العلم اللي قال نهي عن تبليغه، وقال، «لأن الله قد علم أنه لا يطيقه غيري» .. وفي علم الولاية ومقام الولاية ورد حديثه .. في قوله: «لي ساعة مع الله لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل» .. ودا واضح، بطبيعة الحال، أنُّ «عندما وقف جبريل عند سدرة المنتهى، وقال له النبي الكريم: تقدم، أهذا مقام يترك فيه الخليل خليله؟! قال: هذا مقامي .. ولو تقدمت خطوة لاحترقت» .. فسار النبي في أنوار الذات إلى أن تم الشهود الذاتي، وكان جبريل غائب عنه لأنه لا يطيقه، وورد فيه الأمر في القرآن بـ ، «إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى» .. وورد فيه الحديث الذي قال فيه نبينا: رأيت ربي .. «ليلة عرج بي رأيت ربي» ..
وسبقت الإشارة إلية والحديث اللي ورد فيه من العلوم التلاتة .. فالعلم التالت هو علم الولاية، ونبينا مثلث المقامات، هو نبي، وهو رسول، وهو ولي .. ولايته أكبر من نبوته .. نبوته عندما استحصدت وقويت أرسل، بالمقدرة التي اكتسبها من النبوة، ليكون رسول ليستطيع أن يخاطب الناس على قدر عقولهم ..
والحقيقة، دي ما حقها يكون فيها إشكال، لأنُّ في الحياة المعاشة نحن بنمارسها وبنشوفها .. نحن بنضرب مثل .. مثلاً للموضوع دا لتوضيحه .. أننا نحن نعد المعلم في كلية التربية في جامعة الخرطوم، مثلاً .. بعد المرحلة الثانوية يدخل في مرحلة جامعية ينفق فيها أربع سنين من التحصيل .. بعدما يخرج بدرجته البيخرج بها من كلية التربية بيصير معلم ثانوي عالي .. بيعلم الأولاد، الجائين من الثانوي العام لسنة أولى ثانوي عالي، المقررات المفروضة عليهن .. لا يمكن أن ننتظر نحن من المعلم الذي أعديناه نحن في المرحلة الجامعية في كلية التربية .. أربع سنين بعد الثانوي العالي .. أن يحدث التلميذ بتاع الثانوي العالي، في سنة أولى، بكل ما علم .. فإذا فعل دا .. مؤكد بيكون معلم فاشل .. فنحن يمكن أن نشوف الشبه بين إعداد النبوة ووظيفة الرسالة زي إعدادنا للمعلم ووظيفة أنه يشتغل معلم للطلبة في الثانوي العالي، في سنة أولى ثانوي عالي .. المفروض فيه أنه بإعدادنا لِهُ هذا الإعداد العالي أن تكون عنده المقدرة على تفهيم هذا الطالب الناشئ الصغير .. فالأنبياء أعدوا في مدارس النبوة ليكونوا رسل ليبسطوا للناس الحقائق وليكلموهم على قدر عقولهم .. ودا الحديث اللي أوردناه قبل كدا: «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» .. فالمثل دا يمكن أن يوضح للناس أنُّ في فرق كبير جدًا بين تكليف النبي .. بين سنة النبي .. وبين شريعة الرسول .. شريعته هي تنزل من نبوته .. «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم»، معناها أن نشرع لِهُم فيما يطيقون ..
والسنة وارد تعريفها عند الفقهاء .. عند من يسمون الآن «علماء الدين» .. وارد تعريفها بأنها هي عمل النبي وقوله وإقراره .. ودا تعريف خطأ، وآن الأوان لأن يتصحح .. وفي الحقيقة، أساس دعوتنا هي تصحيح المفاهيم الكانت مفهومة خطأ قديم .. أها دا من التعاريف للسنة البتحتاج لتصحيح .. بتحتاج لدقة فهم ..
كون السنة هي عمل النبي وهي قوله وهي إقراره، دا خطأ .. الصحيح أنُّ السنة هي عمل النبي في خاصة نفسه .. هي حالة قلب النبي من ربه .. ودي بتنعكس في عمله؛ في سيرته؛ في أخلاقه، ودا ما قالت عنه السيدة عائشة: «كانت أخلاقة القرآن» .. بتنعكس في بعض أقواله، مش كل أقواله .. بعض أقواله البتنم على حالة قلبه من المعرفة بالله بتلحق بالسنة، مِثل: «إن الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه» .. هذا حديث نبوة .. هذا حديث سنة .. هذا حديث ينم عن حالة قلب النبي من المعرفة بالله .. في حديث آخر، واضح جدًا أنه ما هو في المستوى دا .. ويمكن أن يصنف بأنه حديث رسالة .. مثلاً حديث المقابر المشهور: «كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر، ألا فزوروها» .. أو حديث آخر، مثلاً: «كنت قد نهيتكم عن الأضاحي، ألا فادخروا» .. يعني، كنت قد نهيتكم أن تدخروا لحم الأضاحي، وإنما تنفقونه لوكته .. فلما زالت الضرورة اللي أوجبت أنه يوصي بأنُّ لحم الأضاحي يفرق على الناس في وكته ويقسم، قال: «ألا فادخروا» .. الحديثين ديل .. حديث المقابر وحديث الأضاحي .. يمكن أن يكونن نموذج للأحاديث التي هي ليست من السنة وإنما هي من الشريعة ..
فبعض أحاديث النبي شريعة، وبعض أحاديثه سنة .. السنة، في الأصل، هي حالة قلبه من الله .. حالة معرفته .. هي حاله .. السنة هي حال النبي .. وبعض أقواله البتنم على حاله تدرج هذا المدرج .. بعض أقواله البتنم على أنه بيعلم الأمة ويدرجها ويشرع لِها في مستواها، دي شريعة .. أما إقراره فجميعه شريعة .. إقراره كأن رأى أحد أصحابه عمل عملاً فلم ينهه عنه، هذا يعتبر شريعة ولا يمكن أن يكون سنة .. الأمر دا أنا طولت فيه الحديث ليكون واضح عندنا أنُّ، السنة شيء غير الشريعة .. السنة أعلى من الشريعة .. السنة شريعة وزيادة .. السنة هي تكليف النبي، والشريعة تكليف الأمة .. وبين السنة والشريعة، ما بين النبي وعامة الرجل من أمته ..