بسم الله الرحمن الرحيم
«إنا أنزلناه في ليلة القدر .. وما أدراك ما ليلة القدر .. ليلة القدر خير من ألف شهر .. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر .. سلام هي حتى مطلع الفجر» .. صدق الله العظيم ..
بهذا نواصل حديثنا الثالث من سلسلة هذه الأحاديث .. وهي مواصلة للحديث عن المثاني .. كنا في حديثنا الثاني قررنا أنُّ معاني القرآن كلها مثاني .. وأنُّ في إدراك المثاني يقع السر في الفهم الجديد في دعوتنا نحن لبعث الإسلام ..
قلنا أنُّ القرآن كاف، وما في حاجة غادرها القرآن .. ما من شيء جديد يقع ومستأنف في الأمة، في تاريخ الأمة وفي عمل الأمة وفي دين الأمة، إلا أن يكون فهمًا جديدًا للقرآن .. والفهم الجديد وسيلته ومفتاحه طريق محمد، حياة النبي .. الفهم الجديد بيقع في التمييز في دقائق المعاني .. الشيء الواحد البنفتكره معناه شيء واحد، زي الإسلام، في الحقيقة معناه ما هو واحد، وأنُّ هناك إسلامان ..
تحدثنا عن الإسلامين .. وورد في حديثنا عن الإسلامين، حديثنا عن الأمتين .. هناك أيضًا أمتين، أمة المؤمنين وأمة المسلمين .. وقلنا أنُّ أمة المسلمين ما دخلت في التاريخ، جاءوا طلائعها .. ولكنها كأمة في تاريخ البشرية لم تحصل .. لم تحدث .. وهي في الحقيقة مراد الدين بالأصالة .. الإسلام مراده أمة المسلمين .. ولكنه في منازله النزلها من لدن آدم وإلى محمد، كان ينزل منازل نحو غايته الأخيرة، اللي هي أمة المسلمين .. آخر منزلة نزلها، على عهد نبينا، كانت منزلة أمة المؤمنين ..
نحن في الوكت الحاضر نُسمى المسلمين لكن من الإسلام الأول، مش من الإسلام الأخير، على التحقيق .. الإسلام الأول، اللي هو الانقياد الظاهري .. نحن بالانقياد الظاهري مسلمين .. الإنسان إذا كان آمن بالنبي في أول الأمر وهو خليق أن يؤمن بِهُ من يعرفه لأنه صادق وكان في الجاهلية يسمى «الأمين» .. فعندما جاءهم بدعوته آمنوا بِهُ الناس البيعرفوه .. وكانوا القرشيين يعرفوه وكانوا خليقين أن يؤمنوا بدعوته إلا من منعه الحسد .. فبادر أبوبكر بالإيمان لأنه كان أعرف الناس بِهُ وألصق الناس بِهُ .. صدقه في أول دعوته ..
الأمة على عهد البعث الأول هي أمة المؤمنين .. وكان قرآنها، بصورة خاصة، قرآن المدينة .. بطبيعة الحال بدأ إنزال القرآن في مكة بالسور المكية .. واستمر الإنزال تلاتة عشر سنة فلم يؤمنوا بالإسلام .. لم يؤمنوا بالدعوة الإسلامية اللي جاءتهم، وإنما كذبوا وعاندوا وكفروا وآذوا وفي آخر المطاف تآمروا على حياة النبي .. ولمن جاءه الإذن بالهجرة كان بيته محاط بِهُ في مؤامرة تستهدف القضاء على حياته ..
فلما تمت الهجرة بُدل القرآن بقرآن دون مستواه .. ودا ما سميناه نحن «قرآن الفروع» .. بيجيء الحديث عنه أيضًا .. لكن ما يمكن أن يقال عنه أنُّ قرآن الفروع نزل من مستوى قرآن الأصول .. قرآن المدينة نزول من قرآن مكة .. والاختلاف بين القرآنين ما هو اختلاف زمان النزول ولا هو اختلاف مكان النزول .. وإن كان زمان النزول ومكان النزول مختلف .. لكن الاختلاف بيناتم هو أنُّ قرآن الفروع قرآن وصاية في الوكت اللي فيه قرآن الأصول قرآن مسؤولية .. يعني في مكة ينزل القرآن: «أدع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» .. ويرد: «وقل الحق من ربكم .. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» .. وعندما تمت الهجرة بدأ النزول من مستوى آيات المسؤولية بالتدريج إلى أن نزل إلى مستوى آيات الوصاية ..
أول ما بُدأ بِهُ في تدريج النزول كان بعد أن كان المسلمون ممنوعين من القتال .. مأمورين بالصبر واحتمال الأذى في سبيل الدعوة جاء القرآن ليقول: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير» .. ثم مشى الأمر لقدام جاء: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا» .. ثم لقدام جاء: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .. فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين» .. ومشى الأمر ليستقر في: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .. وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد .. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم» .. ودي سُميت «آية السيف» .. وآية السيف أُعتبرت ناسخة لكل آيات الإسماح ..
ومن ما بدأ نزول آيات الفروع واتجه العمل في الدعوة الإسلامية اتجاه جديد يناسب حكم الوكت وهو أنُّ الناس ظهر ظهور عملي قصورهن عن تحمل المسؤولية والنهوض بِها، ووجب أن يجعل عليهن وصي لأنهم قاصرين والوصي الرشيد أمر بأن يحملهن على مصلحتهن بالإكراه .. عندما جاء الأمر دا جاء الحديث النبوي في مستواه، فقال النبي: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا الشهر، ويحجوا البيت .. فإذا فعلوا عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها .. وأمرهم إلى الله» .. القرآن دا بقى قرآن وصاية ناسخ لقرآن المسؤولية .. قرآن المسؤولية .. قرآن مكة، في حق الأمة، أصبح معطل .. في حق شريعة الأمة أصبح معطل .. وهو قائم في حق النبي وحده .. لكنه في حق الأمة منسوخ ..
وجاء في أمر النسخ: «ما ننسخ من آية أو ننسئها نأت بخير منها أو مثلها» .. وفي برضو الأمر دا بيحتاج لتوضيح .. «بخير منها» الناس يظنوا أنُّ ما جاء في الفروع هو قرآن خير من القرآن اللي كان في الأصول .. الناس يظنوا من الكلام دا أنُّ قرآن المدينة خير من قرآن مكة .. ودا غير الحق .. بمعنى أنُّ ما هو خير في انه أسمق منه، أرفع منه .. إنما هو خير لمناسبة حكم الوكت .. خير للناس .. للطف الواقع فيه بِهُم .. «أو مثلها»، دي معناها أنُّ نعيدها مرة تانية ..
من الآية دي يُفهم أنُّ: بخير منها (مناسبة لحكم الوكت) أو مثلها (نعيد الآية نفسها المنسوخة مرة تانية للحكم) .. فدا، في الحقيقة، ما عليه عملنا الآن .. نحن الآن دعاة إلى أن نبعث الآيات اللي كانت منسوخة في القرن السابع لتكون هي صاحبة الوكت اليوم .. ودا معنى «أو مثلها» .. نأت بخير منها أو مثلها .. بخير منها، مناسبة لحكم الوكت، لأنُّ الآيات الكانت كبيرة ظهر ظهور عملي أنها فوق طاقة الناس .. وخير منها ما يناسب طاقة الناس .. فجاء نازل القرآن المدني في المستوى دا .. أو مثلها، أو نعيدها مرة تانية .. وتعود عندما يجيء حكم الوكت المتغير عن حكم الوكت الماضي ..
حكم الوكت الماضي أنُّ الناس كانوا في قصور وكانوا في جاهلية جهلاء خرجوا منها .. وكانوا يقطعوا الطريق، ويقطعوا الرحم، ويئدوا البنت خوف العار وخوف الجوع، ويعبدوا الحجر الأصم .. ولما دُعوا إلى عبادة الله الواحد الخالق والرازق الذي يرتفقون برزقه ويتقلبون في نعماه ويعبدون الحجر الأصم، لووا رؤوسهم وأبوا على الداعي أن يعبدوا الله .. فمثل الجاهلية دي نزل لِها القرآن البناسب حالها .. دا يجيء في «نأت بخير منها»، مناسبة لحكم الوكت ..
فإذا تغير حكم الوكت وأصبحنا نحن نعيش الآن في الجاهلية التانية .. وهي جاهلية لا يمكن أن تقارن بجاهلية القرن السابع .. هي أرفع منها لما لا يقاس .. أصبح حكم وكتنا يمكن أن يستأهل آيات الأصول اللي نسخت في القرن السابع وبذلك جاءت نفسها لتطبق من جديد .. ودا محتوى دعوتنا ..
نحن دعاة إلى أن ننسخ ما كان في القرن السابع محكم، ونبعث ما كان في القرن السابع منسوخ .. نحن في مضمار القران لا نخرج عنه، وكما قلت، لا نحتاج إلى الخروج عنه .. في القرن السابع نزل قرآن الأصول فكان أكبر من قامة المجتمع .. ظهر ظهور عملي أنُّ الناس لا يطيقونه .. نُسخ ونُزل منه لما يطيقونه فكان خير منه بالمعنى دا .. «نأت بخير منها أو مثلها»، خير منها بالمعنى دا .. أنها مناسبة لحكم الوكت .. فالقرآن المنسوخ نُسخ لأنه أكبر من طاقة الناس .. وأُدخر ليوم يتهيأ فيه المجتمع، بإذن الله وبفضل الله، ليحاول تطبيق آيات الأصول، آيات المسؤولية وآيات الإسماح وآيات السلام، فتعود هي تاني مرة فيجيء «أو مثلها» .. «نأت بخير منها أو مثلها» ..
اليوم نحن نعتقد أنُّ المجتمع تهيأ لآيات الأصول بفضل الله عليه وبالقامة الكبيرة في الفكر وفي الإنجاز، وفي حالة كثرة الناس، والرخاء، والتقدم العلمي، وتطور الآلة وسبل المواصلات، مما جعل الكوكب دا صغير تسكنه إنسانية متجاورة حاجاتها متشابكة ومصالحها كبيرة وتحتاج إلى أن تحل مشاكلها على هدى الدين وليس لها من الدين غير آيات الأصول التي كانت منسوخة في القرن السابع .. فنحن دعاة إلى بعث هذه الآيات لأن الوكت قد جاء لأن يكون حل مشاكل الناس على هداها .. بها تتم وحدة الكوكب الفكرية بعد أن تمت وحدته الجغرافية ..
بعد أن تجاورت الأجساد .. أجسام الناس تجاورت .. بقت منازلهم قريبة من بعض .. الفي أقصى الأرض والفي أدنى الأرض بيشعروا بحاجة بعض ويشعروا ببؤس بعض ويشعروا بالكرب اللبينصب على بعض ويتعاطفوا .. القرب دا اقتضى أن يكون في قرب فكري .. اقتضى أن يكون في وحدة فكرية زي ما هناك وحدة جغرافية .. الوحدة الفكرية دي هي البيكون بها الإسلام هو دين الناس جميعا .. ويتحقق موعود ربنا في أنُّ: «إن الدين عند الله الإسلام» .. ويتحقق وعيد ربنا بـ: «ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» .. ويتحقق إتمام نعمة ربنا علينا في إنزال: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» .. وقد نعود للكلام عن الآية دي لأنُّ كتير من الناس عندهم فيها لبس وبيفتكروا أنُّ كل شيء من أمر الدين تم وليس هناك أمر مستأنف .. وما في خطأ ولا جهل أكبر من هذا الخطأ ومن هذا الجهل ..
شاهدنا أنُّ الأمر فيه أمتين، أمة المؤمنين وأمة المسلمين .. أمة المؤمنين هي ما قام عملها وتكليفها، في نواحي كتيرة من شريعتها، على فروع القرآن .. وأمة المسلمين لم تأت بعد .. وقرآنها هو قرآن الأصول .. وكان النبي وحده طليعتها .. النبي كان طليعة الأمة المسلمة، وكان يعايش الأمة المؤمنة .. وورد في حديثه ما يدل على هذا النحو من الفهم الذي أوردناه .. حديثه مشهور، ويسمى «حديث الإخوان»، قال: «وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد .. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي .. وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد .. أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي .. وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد .. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي .. قالوا: من إخوانك؟ قال: قوم يجيئون في آخر الزمان للعامل منهم أجر سبعين منكم .. قالوا: منا أم منهم؟! قال: بل منكم .. قالوا: لماذا؟! قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا»..
هنا في دقيقة من الدقائق وسر من الأسرار في العدول بالحديث للإجابة على، «لماذا؟» .. قال عنها، الإجابة عليها: «لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا» .. الحديث دا مأخوذ من قول الله تعالى: «يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض .. الملك القدوس العزيز الحكيم .. هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم .. وهو العزيز الحكيم .. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .. والله ذو الفضل العظيم» .. من القرآن هنا جاء الحديث .. «وآخرين منهم لما يلحقوا بهم» جاء منها «إخواني الذين لما يأتوا بعد» .. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم .. وهو العزيز الحكيم .. قال: «وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد» .. وفي مقابلة الإجابة على السؤال البترد في القرآن: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم»، قال: «لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا» .. وفي محتوى الإجابتين، الإجابة الفي الحديث والإجابة الفي القرآن، يكمن السر في تحديث الناس على قدر عقولهم .. أما القرآن فقد أجاب بـ: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .. والله ذو الفضل العظيم» .. وأما الحديث فقد أجاب: «لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا» ..
وهناك أحاديث كثيرة في اتجاه «حديث الإخوان»، منها نورد .. نورد بعضها: «عن عمر عن النبي قال: إن من عباد الله أناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، ويغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى .. قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها .. فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور .. لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس .. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» .. و«عن عمر بن عبسى عن رسول الله، قال: عن يمين الرحمن تعالى، وكلتا يديه يمين، رجال ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغشي بياض وجوههم نظر الناظرين .. يغبطهم النبيون والشهداء بمقعدهم وقربهم من الله تعالى .. هم جماع من نوازع القبائل .. يجتمعون على ذكر الله، فينتقون أطايب الكلام كما ينتقي آكل التمر أطايبه» .. وفي رواية «عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله، قال: يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا وأعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء .. يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله .. هم ناس من أمناء الناس ونوازع القبائل .. لم تصل بينهم أرحام متقاربة .. تحابوا في الله وتصافوا .. يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها .. فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا .. يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون .. وهم أولياء الله .. ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ..