بسم الله الرحمن الرحيم
«إنا أنزلناه في ليلة القدر .. ومآ أدراك ما ليلة القدر! ليلة القدر خير من ألف شهر .. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر .. سلام هي حتى مطلع الفجر» .. صدق الله العظيم
هذه السورة المجيدة، بينا، نحن الجمهوريين، وبينها علاقة كبيرة .. علاقة محبة عظيمة .. قد نعود إلى تفصيلها في زمن لاحق .. ولكنا، في هذا المقام، نكتفي بأن نتبرك بها لافتتاح سلسلة من الأحاديث نقصد بها أن نبين «الدعوة الإسلامية الجديدة» .. الدعوة المتوجهة إلى بعث الإسلام من جديد .. نحن اليوم في مدينة المهدية .. اليوم السبت، السابع والعشرين من شهر أغسطس عام ١٩٧٧، يوافق الثالث عشر من شهر رمضان المعظم عام ١٣٩٧ ..
بعث الإسلام بيعني وبيفترض مسبقًا أن الإسلام قد مات .. نحن ما عندنا أدنى شك بأنُّ الإسلام، في صدور الرجال والنساء، قد مات .. والإسلام اليوم لا يوجد إلا في المصحف .. الناس يمارسوا في عباداتهن قشور من العبادة خالية من اللبة .. ولذلك، فعبادتهن من صيامهن؛ ومن صلاتهن؛ ومن حجهن؛ جميع أعمالهن في العبادة غير مؤثرة على أخلاقهم .. الناس يتعاملوا بأخلاق غير إسلامية .. في السوق، وفي الشارع، وفي المدرسة، وفي البيت .. والإسلام يجب أن يكون في الصدور، وأن يؤثر في العقول وفي القلوب .. يكون منعكس في الأقوال وفي الأعمال .. علم وخلق ..
الإسلام، النذارة بأنه بيندثر وبيخرج من قلوب الرجال والنساء، والناس بيكون ما عندهن وزن ولا عندهن قيمة في اعتبار الله .. النذارة بالكلام دا واردة .. ولحسن التوفيق الإلهي، البشارة، أيضًا، واردة .. النذارة واردة في أحاديث منها: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه! قالوا: أاليهود والنصارى؟! قال، فمن؟!» .. يعني، تعني بالناس «من كان قبلنا» اليهود والنصارى؟! قال، منو غيرهن؟! وفي برضو حديث آخر، بيتردد كثير في كتاباتنا، وهو: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كتداعي الأكلة على القصعة .. قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، لا يبالي الله بكم» ..
في أمر النصارى، فإن شريعتهن تكاد تكون وصايا أخلاقية .. ما بتعتنق جميع مناشط حياتهن .. ما بتنظم كل حياتهن .. فهم بيمشوا، مثلاً، للصلاة في الكنيسة أيام الآحاد وبيصلّوا، لكنهم بيتعاملوا في السوق كل واحد هو وشطارته، حتى كأنُّ الله ما عنده دخل في السوق، إنما دخله في أماكن العبادة، في الكنيسة ..
نحن المسلمين ديننا بيعتنق كل صغيرة وكبيرة من نشاطنا .. كل حركة أو سكنة مننا يجب أن تكون دين ومرضية لأمر الدين .. يجب أن يكون كل عملنا عبادة .. كل عملنا مرصود في شريعتنا .. ما في عمل بنعمله خارج شريعتنا هو يعتبر مننا في صحة، إنما هي حالة مرض .. حالة بعد من الدين .. حالة لا دين ..
نحن الآن، الشبه الأصبح بينا وبين النصارى، مثلاً، أننا بنصلي لي الله في المسجد .. بنمش لي الله في المسجد .. ونصلي صلاة ظاهرها جيد لكنها خربانة في باطنها، بدليل أننا عندما نخرج من المسجد، ما بنفتكر أنُّ لله عنده دخل في السوق .. بنتعامل بالربا؛ نتعامل بالغش؛ ونتعامل بالخداع وبالتدليس؛ وكل أنواع اللادين تظهر في تعاملنا في السوق .. أها دا شبه ورد .. وصدق النبي العظيم في نبوءته في الحديث .. الحديث التاني، برضو، «غثاء كغثاء السيل» .. الغثاء هو الدفيس البتجيء شايلاه موية السيل قدامها .. والتشبيه بينا وبينه، في أخريات الأيام، أننا ما عندنا وزن .. الدفيس، القش البتجيء شايلاه الموية، خفيف ما عنده وزن .. ودي إشارة إلى أنُّ قلوبنا خالية من «لا إله إلا الله»، لأنُّ معلوم أن مثقال حبة .. مثقال ذرة .. من «لا إله إلا الله» أثقل في الميزان من جبل أحد ..
فحديثا النذارة وردن وظاهرات جدًا .. ونحن اليوم، في الحقيقة، المسلمين ما عندنا وزن، ولا عندنا أثر في عالمنا .. بل نحن، ومنذ حين بعيد في تاريخنا، مستضعفين، ومستعمرين، ومستذلين ومساقين لغير إرادتنا .. بل ليست لنا أي إرادة، وإنما نحن نسام كما تسام السوائم .. ودي واردة بصورة واضحة جدًا في الممارسة وفي التجربة إلى يومنا الحاضر .. ونحن بيهمنا أنُّ الأمر دا يكون واضح لأنُّ ما يمكن يجري تغيير في حالنا إذا كنا راضين عن حالنا ..
في كثير جدًا من رجال الدين، ومن الأئمة، ومن الوعاظ، وكل من يعمل في هذا الحقل، يورونا أننا نحن بخير وما في أي حاجة ناقصة لِنا .. ودا، أفتكر، بيهزم من الأول اتجاهنا لأن نغير .. لأنُّ إذا كنا نحن بخير، يبقى التغيير لشنو؟! يجب أن يتوكد في أذهاننا حقيقة كبيرة هي، أننا نحن اليوم خارج الدين ونحن في جاهلية .. الجاهلية التانية أدركتنا .. نحن على قشور من الدين .. قشور من العبادة .. وأخلاق الدين فاتتنا وفرطنا فيها .. كل بلد إسلامي ينطبق عليه هذا القول، فدي يجب أن تكون مقررة في الأذهان عندنا ..
لو كان الأمر وقف عند النذارة بالصورة اللي أبرزناها الآن، لكان الأمر ميؤوس منه .. ولكن، لحسن التوفيق الإلهي والعناية الإلهية بنا وردت البشارة .. وهي أنُّ الحديث النبوي: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء .. قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها» .. يلاحظ أنه قال، «يحيون سنتي» ما قال، يحيون شريعتي .. في ناس عندهم ما في فرق بين السنة والشريعة .. بل الحقيقة أنُّ الرأي العام الإسلامي عند العلماء أنُّ السنة والشريعة شيء واحد .. أكتر من كدا، السنة والشريعة والدين معناهن واحد .. لكن الحقيقة غير كدا .. الحقيقة أنُّ السنة والشريعة والدين، كل واحدة من الكلمات دي عندها مدلولها .. الاختلاف بيناتهن مش اختلاف نوع .. اختلاف مقدار ..
الشريعة هي طرف الدين القريب من أرض الناس .. طرف الدين النزل لأرض الناس ليخاطبهن على قدر عقولهم، وليحل مشاكلهم على ما هي عليه .. وليحلها على قدر طاقتهن .. الدين هو الأصل النزل من الله، في عليائه، إلى أرض الناس ليدلهم عليه ويرسم خط سيرهم ليه، ليسوقهم ليه .. فالشريعة هي الطرف دا .. الطرف النزل لأرض الناس على ألسنة الرسل ليرسموا خط سير الأمم لي الله .. دي الشريعة ..
السنة مرحلة فوق للشريعة .. السنة هي تكليف النبي في خاصة نفسه .. والفرق بين السنة والشريعة هو زي الفرق بين النبي والرجل من سائر أمته، لأنُّ الشريعة مخاطبة للأمة والسنة مخاطبة للنبي ..
نحن نقول، السنة شريعة وزيادة .. بمعنى أنُّ الصلوات الخمسَ شريعة، هي مفروضة على الأمة ومفروضة على النبي، لكن يزيد في سنة النبي أو في الشريعة الخاصة بالنبي صلاة الليل، مثلاً .. صلاة الليل مكتوبة على النبي، لكنها ماها مكتوبة على الأمة .. الأمة مندوبة لصلاة التلت، لكن النبي مفروضة عليه، «ومن الليل فتهجد به نافلة لك .. عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودا» .. أو هناك، فرضها، جائي في، «يا أيها المزمل !! قم الليل إلا قليلا .. نصفه أو انقص منه قليلاً .. أو زد عليه، ورتل القرآن ترتيلا .. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا» .. وفي الحقيقة، إعداد لِهُ لهذا الأمر العظيم .. لأمر النبوة ..
النبي أنفق خمسطاشر سنة يتعبد في غار حراء .. ثم جاءه الوحي بقرآن النبوة .. أول ما بدء به: «اقرأ باسم ربك الذي خلق .. خلق الإنسان من علق .. اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم .. علم الإنسان ما لم يعلم» .. ثم سار الأمر في قرآن النبوة، أيضًا، إلى: «ن، والقلم وما يسطرون .. ما أنت بنعمة ربك بمجنون .. وإن لك لأجرًا غير ممنون .. وإنك لعلى خلق عظيم» .. ثم سار الأمر في إنزال قرآن النبوة إلى أن جاءت: «يا أيها المزمل !! قم الليل إلا قليلا .. نصفه أو انقص منه قليلاً .. أو زد عليه، ورتل القرآن ترتيلا .. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا .. إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا .. إن لك في النهار سبحا طويلا .. واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا» .. جاء بعد ذلك قرآن الرسالة وبدء بـ: «يا أيها المدثر !! قم فأنذر؛ وربك فكبر؛ وثيابك فطهر؛ والرجز فاهجر؛ ولا تمنن تستكثر .. ولربك فاصبر» .. ومن قرآن النبوة، الذي نزل لعله قبل الأمر بالرسالة، قبل المدثر: «والضحى، والليل إذا سجى .. ما ودعك ربك وما قلى .. وللآخرة خير لك من الأولى .. ولسوف يعطيك ربك فترضى .. ألم يجدك يتيما فآوى .. ووجدك ضالا فهدى .. ووجدك عائلا فأغنى .. فأما اليتيم فلا تقهر؛ وأما السائل فلا تنهر؛ وأما بنعمة ربك فحدث» .. ومن قرآن النبوة المبكر، أيضًا .. لعله قبل الأمر بالرسالة: «ألم نشرح لك صدرك؛ ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك؛ ورفعنا لك ذكرك .. فإن مع العسر يسرا .. إن مع العسر يسرا .. فإذا فرغت فانصب؛ وإلى ربك فارغب» ..
وفي الحقيقة أنُّ شريعة النبوة، أي السنة، بدأت قبل شريعة الرسالة .. يعني نبينا نبئ أولاً .. فكان نبيًا .. ثم أرسل بعد أن استحصد .. بعد أن قوي وأصبح مليء بأن يحمل الرسالة .. وفي حديث يعطي صورة طيبة، يجيء: «أدبني ربي فأحسن تأديبي .. ثم قال: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين» .. هذا الحديث، صدره نبوة «أدبني ربي فأحسن تأديبي» .. دا في مضمار النبوة .. في عجز الحديث، في مضمار الرسالة: «ثم قال، خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» .. فالسنة أرفع من الرسالة في تكليفها الخاص .. في التكليف، الرسالة للأمة والسنة للنبي في خاصة نفسه .. والأمر دا، في الحقيقة، ما بيظهر في شيء بوضوح زي ما يظهر في المال ..
فإن تكليف النبي، في المال، فوق تكليف الأمة بشيء بعيد .. تكليف النبي، زكاة النبي .. ركنه التعبدي في الزكاة .. في حقه .. لا تتم إلا إذا أنفق عنه كل ما زاد عن حاجته الحاضرة .. لا يدخر رزق اليوم لغد .. وآيته من كتاب الله: «ويسألونك ماذا ينفقون .. قل: العفو» .. وقد فسر النبي «العفو» بما زاد عن حاجته الحاضرة .. ثم جاء الركن التعبدي في حق الأمة، وكان في حق الأمة ناسخ للآية: «ويسألونك ماذا ينفقون .. قل: العفو» .. تكليفها جاء قائم على آية: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم .. إن صلاتك سكن لهم» ..
والركن التعبدي .. من الأركان الخمسة .. الخاص بالزكاة، «بني الإسلام على خمس، شهادة ألا إله إلا الله؛ وإقام الصلاة؛ وإيتاء الزكاة...» .. الزكاة، في الأصالة، هي زكاة النبي .. الركن التعبدي في الأصل هو الركن الذي كلف به النبي وأقامه النبي .. ولكن، بمحض الفضل، جُعل للأمة ركنها التعبدي، في مستوى أن تدخر النصاب ويحول عليه الحول ثم تُخرج منه العشر، أو نصف العشر، أو ربع العشر، كما هي المقادير المفروضة في السنة على المال ومعروفة عندنا بالزكاة ذات المقادير .. هذه الزكاة ليست هي الركن التعبدي المشار ليه في الأركان الخمسة إلا بالحوالة من الركن الأساسي اللي كان عليه النبي إلى الركن الذي طاقته الأمة ولم تكن لتطيق غيره وهو الزكاة ذات المقادير .. فالفرق دا، بين الأمة وبين النبي، في التكليف في المال إنما جاء للفرق بين النبوة والرسالة .. بين النبي وبين الرجل من سائر أمته .. الحقيقة حتى من قمة أمته .. يعني الفرق بين النبي وبين أبوبكر هو فرق بعيد ما بيقاس، على عظمة مكانة أبوبكر في الدين وفي الإسلام وفي الإيمان، الفرق كبير جدًا بينهما ..
الفرق هو قائم بين السنة وبين الشريعة وهو موكد في صور كثيرة، صور السلوك وصور التكليف، لكن المال بيظهره أكثر مما يظهره أي شيء آخر من الأعمال .. لأن المال، بطبيعة الحال، هو المحك .. الناس يمكن أن يقولوا ويدعوا، لكن عندما تجيء المسألة في مسألة المال بيظهر الصادق من الكاذب، بيظهر الفرق الكبير بين الناس..