حافية.. خاشعة.. دخلت السودان الجديد الي…
عــالم الراغــبين عــــن الدنيــــــــا
الصوفية في السودان.. عندما يحاول أمثالي من "غير العالمين" الكتابة عنها.. تأخذهم الرهبة والهيبة.. فلتدخل في عالم الصوفية يخيل إليك لابد لك من التوجه حافيا في خشوع وقد عبقت الأرض نسائم البخور وتجاذبتك التراتيل الموقعة على رزم "النوبة" والطار فتتمشى كل هذه في خيالك لتجسم لك الرهبة والخشوع.. فتتأنى وتتروى لأنك داخل على عالم يتطلب التأدب للمقام.. وينتابك إحساس من يدخل حلقة الذكر، فلابد له من خلع نعليه تأدبا.. وقد يعود إحساسي هذا إلى أنني أتأثر "بالنوبة " لأنني نشأت في بيئة دينية متصوفة تقرأ المولد مساء كل أحد وخميس وتعمر حلقات الذكر.. فتشربت نفوسنا من صغرها بهذا، فأصبحت نظرتنا للأولياء والصالحين غير نظرة رفض أبناء اليوم.. تجاذبتنى كل هذه الأحاسيس وأنا أقترب عصر الجمعة الماضي من ضريح الشيخ حمد النيل حيث تقام حلقة الذكر في عصر كل جمعة هناك.. الحلقة مائجة وقد امتد قطرها حتى كاد أن يصل أطراف القبور بعد أن ملأ الأرض الفضاء أمام الضريح والنوبة برزمها القوي لداخل لترى الدراويش وقد أضفوا على الحلقة رونقا بقفزاتهم وسقوطهم وتلوي أجسامهم في صورة يعجز عن وصفها القلم.. وهؤلاء الدراويش هم في نظري الزهاد الذين وصفهم الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه إحياء علوم الدين فقال رضي الله عنه: -
(الزهد عبارة عن رغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله تعالي عدولا إلى الله تعالي وهي الدرجة العليا).
وقد مثل الإمام رضي الله عنه لذلك فقال: -
(فكما أن العمل الصادر عن عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه من اليد وأخذ العوض فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية.. وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها فيخرج حبها ويدخل حب الطاعات).
وهكذا تستمر الحلقة في فوران دائم حتى آذان المغرب ومع أن هذه الحلقة تقام بعيدا عن كل سبل المواصلات إلا أن الإقبال عليها يفوق حد التصور. وهي مظهر من مظاهر الصوفية التي يعود إليها الفضل كله من إدخال الإسلام ونشره في ربوع السودان الشاسع عن طريق الصوفية المعروفة في السودان. بل إن كل طريقة تمركزت في منطقة بعينها من مديريات السودان فدان لها سكان تلك المنطقة بالتأييد والإتباع.. ولأكمل صورة التصوف توجهت للأستاذ محمود محمد طه بهذا السؤال:
ماهي الصوفية؟ وكيف نشأت؟
فأجابني مشكورا:
التصوف هو سنة النبي صلي الله عليه وسلم.. كان العهد النبوي الأصحاب فيه غير محتاجين لأي عمل غير صحبة النبي وأتباعه.. وعندما لحق النبي بالرفيق الأعلى أصبح الأصحاب مقيمين على ما تركهم عليه ولكن بطبيعة الحال حدث هبوط في حالهم بمجرد ارتحال النبي حتى أن أحدهم عبر عن هذا الهبوط فقال: "ما كدنا ننفض أيدينا من تراب قبر رسول الله حتى أنكرنا قلوبنا".. ثم أخذ الأصحاب ينتقلون إلى الدار الآخرة الواحد تلو الآخر حتى جاء عهد التابعين وهم الذين رأوا الأصحاب ولم يروا النبي صلي الله عليه وسلم وكان هؤلاء في مستوى دون مستوى الأصحاب ثم ارتحل هؤلاء الواحد تلو الآخر إلى أن جاء عهد تابعي التابعين وكان عهدهم بعيد العهد برسول الله إذا ما قيسوا بمن سبقوهم.. وكانت الدنيا قد أخذت تستحوذ على قلوب الناس منذ أخريات عهد عثمان بن عفان فلما كان الناس بعيدي العهد بتابعي التابعين، قد أخذت الغفلة والجهل يدبان إلى قلوبهم وعقولهم فظهر الوعاظ من الزهاد الذين أخذوا أنفسهم بتتبع حالة النبي والشيخين من بعده وأخذوا يعظون الناس ويشدونهم ويحملونهم على الجادة.. ومن هاهنا ظهر التصوف في فريق من الناس دون فريق وأخذت أقلية الناس تحرص على الدنيا وتفرط في الدين وكان أتباع الزهاد في هذه الحقبة يسمون بأصحاب "فلان".. أصحاب الحسن البصري وأصحاب أبو يزيد البسطامي.. إلخ.. وكانت تعاليم هؤلاء الزهاد تركز على تزهيد الناس في الدنيا وترغيبهم في أمر الله على نحو ما كان عليه النبي ومن هاهنا نشأت كلمتا التصوف والصوفي ولا يعرف لهما أصلا..
ومعلوم أن بعض الكتاب يحاول أن يردها إلى الصوف باعتبار أنه لبس هذه الفئة الغالب عليها ومنهم من يحاول أن يردها إلى الصفاء باعتبار أنه حالة القلوب التي يسعى لتحقيقها أفراد هذه الطائفة.. ومنهم من يردها إلى أصل يوناني الأصل الذي اشتقت منه كلمة "فلوسفي" الفلسفة. ولكن الأمر المهم هو أن الصوفية هم أتباع السنة المحمدية وليس أنصار السنة الذين يدعونها على عهدنا الحاضر ويجعلون تعاليمهم الاعتراض على الأولياء وعلى سلف الأمة الصالح..
والسنة النبوية غير الشريعة المحمدية.. نؤكد هذا.. لأن الناس يجهلونه.. السنة النبوية هي عمل النبي في خاصة نفسه وهي "طريق محمد" فإنه قد قال: "قولي شريعة.. وعملي طريقة.. وحالي حقيقة". وسائر الأمة مكلفة بالشريعة وليست مكلفة بالسنة بكل تفاصيلها وإنما هم مندوبون إلى ما يطيقون منها يقول تعالي في ذلك [قل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله].
ولم تغادر السنة النبوية صغيرة ولا كبيرة نحتاجها في أمر ديننا إلا بينتها.. ومن هاهنا فليس هناك موجب لابتداع البدع.. والبدع هي كل ما لم يعمله النبي في خاصة نفسه ولكن الصوفية في أوائل عهدهم وقد وجدوا الناس بعيدين عن أن يحملوا على السنة قد ابتدعوا بدعا حسنة كالسبحة مثلا وأسموها بالبدعة الحسنة والذي اضطرهم إليها هو أنهم عندما أخذوا يربون المريدين بإدخالهم الخلاوي واضطروا لآن يملؤوا فراغ المريد بأن يعطوه أعدادا معينة يحسبها على السبحة من ذكر الله ومن صلاة على النبي حتى لا يدعوا له فراغا في خلوته يشوش عليه ويوزع باله فنشأت السبحة الألفية وسميت بدعة حسنة والذي حسنها هو حكم ذلك الوقت حيث أن الجهل بعمل النبي أصبح يسود أوساط المسلمين ولم تكن القراءة منتشرة بين الناس يومئذ ولا كانت الكتب ميسورة التداول بينهم.. ويجب أن يكون واضحا أن دخول الخلاوي ودخول المغارات والاعتزال في الفلوات وفي الجبال الذي أخذ به الصوفية أنفسهم وأتباعهم ليس من البدع وإنما هو سنة.. بيد أنها سنة النبي قبل البعث أيام تحنثه في غار حراء وعند الصوفية كل عمل النبي قبل البعث وبعده إنما هو عمل مسدد وموجه ومرعي ذلك أن النبي يقول (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) ويقول إشارة إلى هذه الحقبة من حياته (أدبني ربي فأحسن تأديبي.. ثم قال "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين")
ثم أن البدع الحسنة أخذت تزيد وتتنوع كلما بعد عهد الناس بعهد النبي حتى دخلت الطبول والطارات.. وخدمت غرضا كريما في جلب الناس من مسلمين ووثنيين للدين. فإنها وإن كانت معروفة عند القبائل البدائية كالات لهو، إلا أنها عند الصوفية استعملت كأدوات تذكير وتنشيط وتنظيم لحركات الذكر.. ثم أنهم كانوا يحاولون سوق الناس بأغراض نفوسهم في أول الأمر وإلى حاجات أرواحهم في آخر الأمر.. وعندهم أن موسى عندما رأى من جانب الطور النار فذهب إليها فوجد عندها النور إنما كان ذاهبا أول أمره وراء حاجة نفسه فوجد حاجة روحه. وأكثر من يظهر في تسليكهم الطبول والطارات والنوبة هم السادة القادرية أتباع الغوث الرباني سلطان الأولياء الشيخ عبد القادر الجيلاني.. وإلى طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني.. ترجع كل الطرق.. ولها يرجع الفضل في إدخال الإسلام إلى السودان. وحين تراجعت أغلب الطرق عندنا هنا.. فإن الطريقة القادرية لا تزال في مستوى أفضل من مستويات جميع الطرق. وهنا عندنا في أم درمان فإن حلقة الشيخ حمد النيل التي تقام عصر كل جمعة في ضريحه هي خير شاهد على ما نقول.
وسألت الأستاذ محمود:
هل هناك مفهوم جديد للصوفية من وجهة نظركم؟
فقال: ليس هناك مفهوم جديد للصوفية ولكن هناك مظهرا متخلفا للصوفية هو ما نرى عليه حالة الطرق اليوم فإنه كما أن الإسلام قد انحط في صدور المسلمين فإن التصوف قد انحط في صدور المتصوفة وبنفس القدر.. وأصبحت الطرق الصوفية طائفية.. والفرق بين المربي الصوفي وزعيم الطائفية أن المربي قد كان يصلح دين الأتباع ويزهد عن دنياهم.. ولكن زعيم الطائفية ليس عنده لدين الناس إصلاح وهو حريص على دنياهم.
ولقد خدمت الطرق الصوفية غرضها.. خدمته حتى استنفدته.. وأصبح حكم الوقت الحاضر في القرن العشرين يتطلب أن يرجع الناس إلى طريقة الطرق "طريق محمد".
وسألته أخيرا: - ما رأيكم في ظاهرة كرامة الأولياء؟ وما تفسيرها؟
فأجاب قائلا: - كرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء ثابتة عقلا ودينا وهي خوارق للعادات التي ألفها الناس والحكمة وراءها كالحكمة وراء معجزات الأنبياء هي شد الناس للهداية بطريق كسب ثقتهم ومحبتهم للأولياء.. وقد كان للكرامات أثر كبير في نقل الناس عندنا في السودان من حالة الغفلة ومن حالة الوثنية إلى حظيرة الدين..
والكرامات تأخذ صورها من حكم وقتها وكلما كبرت عقول المدعوين اتسع علمهم أصبحت الكرامات تقل في معنى أنها خوارق عادات وتتجه إلى أن تكون علما وخلقا واستقامة فإنهم قد قالوا (الاستقامة أفضل من ألف كرامة).
وعصرنا الحاضر هو عصر العلم والاستنارة والمعرفة بدقائق القيم.. ولذلك الكرامات منذ اليوم ستتركز في العلم والخلق والاستقامة على خلاف ما كان عليه العهد في زمن الجهالات.
وإنه لمن حسن التوفيق ان العقول المعاصرة لا تؤمن بالكرامات بسهولة لأنها بهذا التحدي.. بهذا الإنكار.. إنما تتطلب من الدعاة قامة جديدة في مستويات الخلق والاستقامة والمعرفة وهذه هي حاجة البشرية منذ اليوم.
بكــري خضـــر
السودان الجديد
السبت ٢٤/٣/١٩٧٣م