القصيدة الاولى التي نقدمها هي للصوفي الشهير، العارف بالله الشيخ، عبد الغنى النابلسي.. ونصها كالآتي: -
بيني وبينك يا قديم
بيني وبينك يا قديم جدار هو جملتي بك حادث يا جار
والكنز أنت وراء ذلك كلّه والطلسمات العقل والأفكار
فتحت رياضتنا اليك طريقة فالشرع باب والحقيقة دار
وبدا جمالك للعيون وزال عن وجه القلوب من الغيوب خمار
يا طلعة هي للمتيم جنة تجرى بها من تحتها الأنهار
أنهار أنواع العلوم فما السوى الاّ الحقائق منك والأسرار
بتنا واصبحنا نراك فليلنا من نور وجهك يا مليح نهار
ولقد نزلت فكنت جملة كوننا وتفككت عنّا بك الأزرار
والوجه شقّق بالظهور ثيابنا حتى بدا وأزيلت الأستار
الله أكبر هذه ذات الذي نحن الشئون لديه والأطوار
وهي المقدّسة المنزهة التي جلّت فتاه بها الجميع وحاروا
وتحققوا بالعجز عن إدراكها وبها إليها في الكمال يشار
عرفوا بها منهم حقائق أنفس خفيت فكان بنورها الإظهار
لولا مقالة كن لشيء لم يكن هي هذه الكلمات والأذكار
هذا هو الحق اليقين وغيره قول عليه تعيّن الإنكار
بيني وبينك يا قديم جدار هو جملتي بك حادث يا جار
والكنز أنت وراء ذلك كلّه والطلسمات العقل والأفكار
فتحت رياضتنا اليك طريقة فالشرع باب والحقيقة دار
"القديم" هو "ذات الله".. و"الجدار" يعني الحجاب وهو الظلام الذي غطى القلب بفعل الذنوب.. فصار القلب محجوبا عن الله.. "جملتي" كياني.. جسدي، وقلبي، وعقلي.. وهي التي كساها ظلام الذنوب فصارت كالجدار حاجزا بيني وبين الله. "بك حادث" يعني بفعلك، فأنت موجدي، "يا جار" يا قريب منى:
((ونحن أقرب اليه من حبل الوريد
)).. "الكنز" يعني الجوهر المخفي، وهو ذات الله، وهي المطلوب الحقيقي. "الطلسمات" يعني الاسرار الغميسة، التي إذا عرفناها نكتشف "الكنز".. هذه الاسرار هي "العقل والأفكار".. فبالعقل يسير الانسان الى الله.. وبالعقل نميز بين الحلال والحرام، ونقيد النفس الأمارة بالسوء.. "رياضتنا" يعني عبادتنا.. صلاتنا وصيامنا، وقيامنا في الليل.. هذه الرياضة الروحية التي تقوّي الروح وتهذب النفس وتطوعها لله شقت الطريق الموصل الى الله.. "الشرع" يعني هذه العبادات التي تتعبد بها والتي جاءنا بها الاسلام "باب" يعني وسيلة... "الحقيقة".. معرفة أسرار الألوهية، وهي ثمرة العمل بالشرع، فقد قال تعالى:
((واتقوا الله ويعلمكم الله
)).. وجاء في الحديث:
((من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم
)).. أسرار الألوهية هي أن تعرف كيف تعامل ربنا.. من هذه الأسرار أن العبادة روحها العبودية.. يعني العابد يجب أن تسوقه عبادته ليكون "عبدا" لله.. العبودية هي المرجوة من وراء العبادة.. والعبد هو الذي يسلم ارادته لله فهو لا يعترض على شيء من مقاديره تعالى
((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الاّ في كتاب، من قبل أن نبرأها، ان ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور
))..
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو مثلنا الأعلى في العبودية، فقد روى أنه خيّر، أيكون نبيا ملكا، ام يكون نبيا عبدا، فاختار ان يكون نبيا عبدا، وكان يقول
((انما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد
))، وبذلك قد تحررت نفسه من حب التسلط على الآخرين.. لأنه لا يرى لنفسه مع الله ملكا فالله هو السيد.. وهو، مع الآخرين، من ناس وأدوات ملك لله يتصرف فيه كما يشاء.. وقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم، مثلا أعلى في التسليم لله والثقة به.. كان لا يدّخر شيئا لليوم التالي، وانما ينفق كل ما زاد عن حاجته الحاضرة لغيره، ممن يكون محتاجا، وقد كان:
((ثقته بما في يد الله أكبر من ثقته بما في يده هو
))..
وكان صلى الله عليه وسلم، من كمال عبوديته لله، لا يغضي، ولا يعترض على ما يقع من فعل، ينغّص على النفس، من شئون الدنيا.. وقد روى عن أنس بن مالك أنه قال:
((خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وكان بعض أهله إذا لامني يقول: دعوه.. فلو قضى شيء لكان
)) هذا التسليم لا يعني بالطبع التسليم للنفس بالمعصية، وانما تلام على ذلك إذا وقع منها..
وبدا جمالك للعيون وزال عن وجه القلوب من الغيوب خمار
"الخمار" هو غطاء الوجه.. هذا الغطاء الذي غيّب القلب عن أن يرى الله.. وهذا الغطاء هو ما عبر عنه في البيت السابق بالجدار، وهو "الرين" الذي يكسبه الانسان من أثر الخطايا والذنوب التي يتراكم ظلامها على القلب حتى يغطيه، فقد جاء في الحديث
((ان القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد.. الا وأن جلاءها القرآن
)) وقد قال تعالى عن كيفية حجاب الانسان عن الله:
((كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا!! إنهم عن ربهم، يومئذ لمحجوبون
)) فالرياضة ـ العبادة، وخصوصا القرآن في الصلاة.. وصلاة الليل بالذات.. صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصليها في الثلث الأخير من الليل.. هي التي تجلو الرين والصدأ عن وجه القلب... فيزول الحجاب وينفتح الطريق الى رؤية الله الذي غبنا عنه، وهو فينا:
((وفي أنفسكم أفلا تبصرون
)) ... وفي الحديث القدسي:
((ما وسعني أرضى ولا سمائي، وانما وسعني قلب عبدي المؤمن
)) وإذا زال الحجاب من بين العبد والرب.. تبدى للعبد جمال ربه.. فهو يرى الجمال في كل شيء... فتطيب نفسه بذلك وتبتهج..
يا طلعة هي للمتيم جنة تجرى بها من تحتها الأنهار
انهار أنواع العلوم فما السوى الاّ الحقائق منك والأسرار
بتنا واصبحنا نراك فليلنا من نور وجهك يا مليح نهار
"الطلعة" تعنى "الوجه"، وهي هنا وجه الذات الالهية.. "المتيم" يعني المحب العاشق.. يجد في هذه الطلعة جنته، ويمتع فيها بما تكرمه من اللّذات الكبرى التي تفوق لذة أطايب الطعام، والشراب التي تفيض بها الجنة في درجاتها القريبة، واما العارف هنا فجنته جنة الشهود، وما يرث قلبه منها من علوم..
"السوى" هو كل ما عدا الله.. ويبدأ من الخلق الكثيف خارج النفس، ويلطف حتى يبلغ ادق الاسرار، والخواطر التي ترد على القلب
((كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك
)).. "والسوى" هو كل ما يحجب عن الله فمثلا.. العبادة.. قد يشعر العابد في أدائها، بقوة فتفقد بذلك عبادته روحها، وروح العبادة هي العبودية.. فالعبادة ضعف، وتخضّع، وتذلّل، من العابد للمعبود.. فان الله لا حاجة له بعبادتنا وانما نحن المحتاجون لها:
((يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله، والله هو الغني، الحميد
))..
بتنا وأصبحنا نراك فليلنا من نور وجهك يا مليح نهار
لا ينحجب عن الله فهو قائم ليله ومتقلّب في نهاره.. وهو في الليل لا يضره الظلام، فان نور وجه حبيبه قد بدد ذلك الظلام.. وهذا هو ثمرة العبادة.. الظلام في الحقيقة ظلام القلب، قبل ان يكون ظلام الليل.. فاذا زال ظلام القلب ما ضرنا ظلام الليل..
((انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
))
ولقد نزلت فكنت جملة كوننا وتفككت عنّا بك الأزرار
والوجه شقّق بالظهور ثيابنا حتى بدا وأزيلت الأستار
"نزلت" يعني ظهرت بالخلق: "جملة كوننا".. "وتفككت عنا بك الأزرار" أزرار الثياب وهي الحجاب أو الرين الذي ران على قلوبنا، فحجبنا عنك، وقد تفككت بفضلك، إذ لا فاعل، في الحقيقة، إلا أنت.. وتجلى وجه الله في القلب مزيلا الغطاء "والوجه شقق بالظهور ثيابنا حتى بدا وأزيلت الأستار" فأصبحنا نراك في كل شيء، فلا نفعل، ولا نترك، الا بفكر.. فقد كان صلى الله عليه وسلم، دائم الفكر، متواصل الأحزان، بشدة حضوره مع الله.. وهذا معنى ظهور وجه الله.. فكان النبي الكريم لا يفعل شيئا، مهما صغر، بالعادة، وانما فكره حاضر دائما، فهو قد كان إذا نام استقبل بوجهه القبلة وتوّسد يده اليمنى، مثلا، وإذا دخل المسجد، أو البيت قدّم رجله اليمنى.. وإذا خرج قدّم رجله اليسرى، وهكذا يقدّم الفاضل على المفضول.. يضع كل شيء في موضعه بإحسان وهذا هو شكر النعمة.. واعمال الفكر بهذه الصورة يقوى العقل، وينبه القلب، ويسدد الخطى..
الله أكبر هذه ذات الذي نحن الشئون لديه والأطوار
"الشئون" الأحوال.. "الأطوار" الصور.. فنحن الخلق في تصريف الله:
((كل يوم هو في شأن
)).. يقلبنا كيف شاء.. وينقلنا من طور الى طور..
وبالعبادة المجوّدة على النهج النبوي نجدد حياتنا في كل يوم جديد فهو، صلى الله عليه وسلم، كان كل ساعة يقطع درجة من درجات القرب من الله.. وكان يجّد السير، فأوقاته هي أنفاسه، وقد وصفه أصحابه بقولهم:
((كان كمن نصب له علم فشمّر يطلبه
)) ...
وهي المقدّسة المنزهة التي جلت فتاه بها الجميع وحاروا
"المقدسة" الذات الصرفة.. "المنزهة" المبرأة من كل نقص والمتصفة بكل كمال.. "جلت" عزّت وعلت، و"تاه" بها الجميع، عشقوها، وتعلّقت هممهم بها.. و"حاروا" حاروا في إدراكها، وعجزوا عن الإحاطة بها، وغلبهم تكييفها..
وتحققوا بالعجز عن ادراكها وبها اليها في الكمال يشار
تيقنوا أنهم عاجزون عن إدراك كنه الله، وانما هم يعرفون أفعاله، وصفاته، وأسماءه..
((وبها اليها في الكمال يشار
)) فهم وقد عجزوا عن إدراك ذات الله لأن الادراك لذاته تعالى ممتنع ولا تستطيع العبارة ان تحيط به، فقد بقيت لهم "الاشارة" بها يشار الى الذات لأن "الذات" فوق اللغة.. والاشارة تفيد بوجودها، وبكمالها المطلق.. وقد أشار تعالى إلى ذاته العلية بقوله تعالى
((لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار
)) فالإشارة بها لله..
((بها اليها في الكمال يشار
)).. وقد قال صلى الله عليه وسلم
((تفكروا في مخلوقاته ولا تتفكروا في ذاته فتضلوا
))..
عرفوا بها منهم حقائق أنفس خفيت فكان بنورها الاظهار
لولا مقالة كن لشيء لم يكن هي هذه الكلمات والأذكار
هذا هو الحق اليقين وغيره قول عليه تعيّن الانكار
عرفوا عظمة النفس عندما يزال "الرين عنها"، فقد كانت خافية، ولكن، لما زال الرين، بفضل الله، وظهر نور الله عليها، تبينوا حقيقة النفس التي بها روح الله:
((فاذا سويته ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين
)).. إذا لم يأذن الله لشيء لا يكون، لولا مقالة كن لشيء لم يكن:
((انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون
))
"هي": الذات.. "هذه الكلمات والأذكار": كلماته القديمة، المتعلقة بذاته.. فهي مظهره.. "هذا هو الحق اليقين": إن الله بيده كل شيء.. "وغيره قول عليه تعيّن الانكار" أي وجب إنكاره، ولكن الطريق الى اليقين ليس بتلقي المعارف عن العارفين وحسب، وانما بالعمل في تقليد النبي، سيد العارفين صلى الله عليه وسلم.. فقد قال:
((انما أنا قاسم والله يعطي
)) يعني أنا أعطي الشريعة والله يعطي الحقيقة.. من عمل بالشريعة أعطاه الله الحقيقة
((من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم
)).. وهذا ما أشار إليه الشيخ حين قال: "فتحت رياضتنا اليك طريقة فالشرع باب والحقيقة دار" فالشرع.. هو الشريعة والعبادة فيها تقتصر على الفرائض وإذا عمل بها العابد بصدق ووعي تفتحت أمامه آفاق الطريقة.. طريقة النبي وهي عمله صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه وفي قمة عمله في العبادة قيام الليل بالصلاة.. فمن انتهج نهج النبي في عبادته وفي شمائله.. يجد الحقيقة تجري على قلبه كثمرة لعمله في الطريقة.. وقد حببنا الله في اتباعه وتقليده صلى الله عليه وسلم فقال:
((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
)).. في هذا الوقت لا بد من الارتفاع لمستوى سنّة النبي ليكون عملنا على أساسها.. لقد جاء في الحديث:
((قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة
)) وهو يحكى المراحل الثلاث: يبدأ السالك بالشريعة ويزيد عليها بانتقاله الى الطريقة فتشرق عليه الحقيقة وهي معرفة أسرار الالوهية التي تستيقن بها النفس بالله وتطمئن إليه وتسلم له إرادتها..