إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

أناشيد في طريق الرجعى

الأديان والألحان


لقد ارتبط الدين، منذ نشأته، في صوره البدائية، التعددية الوثنية بالفنون. فكان الرسم والنحت، وكان الألحان. كان الكهنة يترنمون بالأناشيد، والتراتيل، في المعابد في حضرة الالهة، تزلفا وتخضعا، ورهبة، بغية أن ترضى عنهم، فتكفّ عنهم جوائح الشرور والمحن، وتفيض عليهم الخير والبركة. وكذلك عرف الدين في صوره الراقية المتقدمة هذا الضرب من الفنون، وما مزامير داؤود ببعيدة عن الأذهان... فقد كان يطرب الأحياء والأشياء، عندما يترنم بقيثاره الشجيّ. ثم جاءت المسيحية لتضيف لذلك الميراث... جاءت بأناشيدها وترتيلها، وترانيمها المقدسة، التي يؤديها المصلون، أداء مروحنا يشيع في النفوس السلام والمحبة.
ولما جاء الإسلام بشريعته الاولى، التي قامت على القرآن المدني، قرآن الفروع، حرم كل ضروب الفنون، من نحت وتصوير وغناء، بيد انها أقرت هذا اللون من الشعر، فكان رائده الصّحابى الجليل حسان بن ثابت...
فلما تقدم العهد بالناس، وبدأوا ينصلون عن الإسلام، جاء مشايخ الصّوفية، وجمعوا الناس حولهم، وقد اهتدوا لهذا الاسلوب من الإنشاد، واتخذوه وسيلة من ضمن الوسائل التي تجمع حولهم الناس، وتشدهم الى معاني الإسلام، وتشحذ هممهم فتتعلق بمكارم الأخلاق، وتسمو بوجدانهم، ونحن عندما نقول ذلك، في ذهننا بالتحديد، الصورة التي دخل بها الدين الإسلامي السودان، فانه معلوم انّ مشايخة الطرق الصوفية عندما دخلو هذه البلاد وجدوا أهلها يمارسون صورا من الفن الشعبي، في الغناء والرقص، فدخلوا عليهم بجنس وسائلهم، فكانت النوبة والطار وكان الصّاج والطبل، كذلك ساقهم بحاجة نفوسهم، فكأنما جاءوا الى الرقص والطرب، فوجدوا الدّين ووجدوا الله، وبصورة أخرى كانوا كسيدنا موسى، جاء للنار فوجد النور..
وأخيرا تراخى العهد، وفارق المسلمون روح الدين، ونصلوا عنه، فجاءت "الدعوة الإسلامية الجديدة" لتبعثه مرة أخرى، على هدى البشارة النبويّة "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. فطوبى للغرباء.. قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتى بعد اندثارها" بهذا فان "الدعوة الإسلامية الجديدة" هي دعوة لبعث سنة النبي صلى الله عليه وسلم، المتمثلة في الآيات المكية، آيات الأصول التي كان يعيشها النبي وحده، في خاصة نفسه. لتصبح تشريعا يحكم حياة الافراد والجماعات، وهي بهذه الصفة، الدعوة الوحيدة، الوارثة للمصحف والمأذونة في النطق عنه والدعوة اليه، ولما كان الصوفية، اكبر من قلد النبي صلى الله عليه وسلم، بمحاولة أتباع سنته، فإن "الدعوة الإسلامية الجديدة" هي ذلك الوريث الشرعي، لتراثهم الفني الذّاخر، وما الإنشاد العرفاني، الاّ أرفع ذلك الإرث، واخصبه وأثمنه واكثر مقدرة على التطور، ومواكبة الانسان الحديث وشحذ حسّه، وترقية ذوقه وتنغيم نشاذه الداخلى، واحلال السّلام والمحبة أقطار نفسه التي عرّس في ربوعها الخوف آمادا وآمادا. وسنعمل على تطوير وتثوير هذا التراث، واستقلاله كوسيلة من وسائل احداث الثورة الثقافية.