توقف الى حين
لقد كان حادث رفاعة منعطفا في تاريخ الفكرة الجمهورية ، ولقد تجمد نشاط الجمهوريين ، أو كاد ، بعد سجن الأستاذ لمدة عامين أعقبهما عامان آخران ، فيهما واصل اعتكافه برفاعة ، وقد كانت الأعوام الأربعة ، هي في الحقيقة ، فرصة للعمل الحقيقي ، وهو اعداد الداعية الاعداد الكامل الذي به يكون تمام ملك الفكرة ، وتمام دعوة الآخرين اليها ، وما الاعداد الا صفاء الفكر وسلامة القلب ..
الفكرة الجمهورية في طور جديد
لقد كانت فترة السجن ، والاعتكاف ، تهيؤا لمنطلق أكمل في تاريخ الفكرة الجمهورية .. فلقد خرج الأستاذ محمود من اعتكافه في نوفمبر 1951 ، ومن ثم استأنف الجمهوريون نشاطهم ، وقد بدأ باجتماع عام عقد في 30/11/1951 .. ومنذ ذلك اليوم أخذ يتتابع تفصيل الفكرة ، وتبيينها ، بصورة أبرزت الفهم الجديد للأسلام كمذهبية تحل مشاكل الانسان المعاصر .. قدّم الأستاذ في ذلك الاجتماع بيانا يبرز سمات الفكرة الجمهورية نقتطف منه الآتي :_
((الحزب الجمهوري ليس حزبا يقوم على التهريج ، كما هي العادة المألوفة لدى الاحزاب التي نراها ، ونسمع عنها ، وانما هو دعوة الى فكرة ، أولا وقبل كل شيء . والجمهوريون قوم ارتضوا هذه الفكرة ، وارتبطوا بها ، وعملوا على تحقيقها .. أن الحكومة نظام اجتماعي تعاقد الناس للدخول فيه ، ليتخذوه وسيلة الى غاية . هذه الغاية هي الحرية الفردية فالحكومة الصالحة هي الحكومة التي تحقق للفرد أكبر قسط من الحرية ، هي الحكومة التي لا تأخذ من حرية الفرد الا القدر الضروري لحفظ حق سائر المجموعة ، وبذلك تصبح الفكرة الاجتماعية الصالحة ، التي تقوم عليها الحكومة الصالحة ، هي الفلسفة التي توفق توفيقا متكافلا بين حق الجماعة في العدل وحق الفرد في الحرية الفردية المطلقة .. ولايمكن أن يتمتع الفرد بالحرية الا اذا تحرر من الجهل ، وللتحرر من الجهل لابد من نظام (يكفل للفرد حاجته من الغذاء الصالح ، والسكن الصالح ، واللباس الصالح .. أي لابد من المساواة الاقتصادية ، ولاتكون المساواة الاقتصادية مؤدية عملها الا اذا كفلت الحرية الجماعية ، أي الديمقراطية والديمقراطية الحقة هي الديمقراطية الشعبية ..))
ولقد مضى الجمهوريون يؤكدون ضرورة الفكر ، والمذهبية ومازالوا ينعون على الحركة الوطنية افتقارها للمذهبية .. فقالوا في بيان نوفمير 1951م :
((فللجهاد الصادق لابد من الاسلام . ولأسلوب الحكم الصالح لابد من الاسلام أيضا .. ولو أن السودانيين دعوا الى الجهاد لأن تكون كلمة الله هي العليا ، لصدقوا الجهاد أولا ، ولنقوا نفوسهم ، وأناروا بصائرهم ، ثانيا ، ولتحقق اذن بذلك غرضان ، في وقت واحد ، أولهما جلاء الدخيل ، وثانيهما تحقيق الحكم الصالح الذي يكون فيه الشعب المستنير رقيبا ، يقظا على قادته وحكامه )) .. ((ولو فرضنا جدلا أن هذا التكتل (الصناعي) الذي تدعو اليه حركتنا الوطنية حول جلاء الاستعمار فحسب ، استطاع أن يخرج الاستعمار لخشينا أن يقودنا الى حرب أهلية مستطيرة ، ويجب أن نفهم جيدا أن القول بالجمعية التأسيسية التي تقرر مصيرنا قول مضلل .. ذلك بأننا نحن منقسمون بين طائفتين كبيرتين بينهما عداء تاريخي ، وليس لأيهما برنامج ايجابي ، وانما برنامج كلتيهما الحرص على أن لا تنتصر الأخرى ، ولايمكن أن يكون في مثل هذه الحالة ، انتخاب حر ، ولاينتظر أن يرضى المهزوم في انتخاب مطعون فيه عن نتيجته ، ولايمكن تبعا لذلك ، أن يكون هناك استقرار ، وانما هي الحرب الأهلية ، والفوضى ، والفساد ، والنكسة .. انه لحق أن حركتنا الوطنية لايمكن أن تحقق طائلا الا اذا جمعت أشتات الفرق ، والطوائف ، والأحزاب أيضا حول الفكرة الخالدة التي جاء بها الاسلام والتي أشرت اليها آنفا ، والتي اجتمع عليها أوائلنا فحققوا العزة ، والحرية ، والعدل .. ولن تجد سودانيا واحدا يتخلف عن دعوة تجمع بين عز الدنيا ، وشرف الآخرة)) ..