سيادة الأخ جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر
تحية مباركة
وبعد فإن ثورتكم بالملك السابق قد شبت في 23 يوليو من عام 1952 وقبل مضي شهر على شبوبها وعلى وجه الدقة في 18 أغسطس من نفس العام شيّع الحزب الجمهوري كتابا موجّها إليكم جميعا في شخص الأخ الكريم محمد نجيب وهو كتاب لم نتلق عليه ردا في حين أن ردودكم كانت تتوالى على مرسلي برقيات التهنئة ولعل مرد ذلك إلى أن ثورتكم قد كانت من التوفيق والنجاح بحيث لم تدع لكم مجالا لسماع ما يقال من غير كلمات التهنئة وكلمات الإطراء ولم نكن نحن من هؤلاء المهنئين المطرين وإنما كنا ناصحين مشفقين ناظرين إلى غد الثورة لا إلى يومها ولقد جاء في كتابنا ذلك قولنا " والفساد في مصر ليس سببه الملك وليس سببه الساسة والأعوان الذين تعاونوا مع الملك بل إن الملك وأعوانه هم أنفسهم ضحايا لا يملكون أن يمتنعوا على الفساد وأن يدفعوه عنهم .. فإن أردت أن تلتمس أسباب الفساد فالتمسها في هذه الحياة المصرية في جميع طبقاتها وجميع أقاليمها تلك الحياة التي أقامت أخلاقها إما على قشور الإسلام أو على قشور المدنية الغربية أو على مزاج منهما وأنت لن تصلح مصر أو تدفع عنها الفساد إلا إذا رددتها إلى أصول الأخلاق حيث يكون ضمير كل رجل عليه رقيبا.
(من أنت؟؟ هل أنت صاحب رسالة في الإصلاح فتسير بشعب مصر إلى منازل التشريف أم هل أنت رجل حانق جاء به ظرف عابر ليقلب نظاما فاسدا ثم يضرب ذات اليمين وذات الشمال حتى ينتهي به المطاف إما لخير وإما لشر.
ذلك هو السؤال الذي يترقب التاريخ جوابه فانظر حيث تجعل نفسك فإنك رجل مجازى بالإحسان مأخوذ بالاجترام.)
هذا ما قلناه يومئذ وما نرى إلا أن ما توقعناه وخشيناه قد حدث فقد لبثنا نراقب الثورة في كل ما تأتي وما تدع فنراها تنحرف شيئا فشيئا عن النهج القويم فبدل أن توقظ العقول المصرية والضمائر المصرية بالتربية الرشيدة والفلسفة الإنسانية البانية والحرية الفردية التي تخلق الرجال والنساء أخذت تكبت المصريين كبتا ألغى عقولهم وأفسد ضمائرهم وساقهم سوق السوام بلا إرادة ولا اختيار ثم ضربت عليهم من الرقابة ما أخرس ألسنتهم وأقامت عليهم من الجاسوسية ما أفسدت ذات بينهم وألبسهم لباس الخوف.
انحراف الثورة
ثم إن الثورة لما انحرفت عن رسالة البناء والحرية انحدرت في سراديب مظلمة لا يحفزها في شعابها إلا البغض والضغينة والحقد وقديما قيل أن الشيطان يعطي عملا للأيدي العاطلة وهو أيضا يعطي فكرا للرؤوس الفارغة وكذلك نفث الشيطان في روع الثورة فأغراها بعداوات كانت في غنى عنها ولو أنها قد اعتدلت في تلك العداوات وحملت منها ما تطيقه وأبقت منها بقية لغدها لما كان عليها في ذلك من بأس فإنه ليس سبيل إلى الحرية بغير مناجزة القوى التي تعوقها ولكنها حملت من العداوات ما ليس لها به يدان فاضطرت أن تستعين على عدو بعدو هو أشد لددا وأقوى مراسا وأسوأ من ذلك أن هذا العدو يظهر في ثياب الصديق الشفيق.