الله نور السموات والأرض
بسم الله الرحمن الرحيم
(الله نور السموات والأرض.. مثل نوره كمشكاة، فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة، زيتونة، لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار.. نور على نور.. يهدي الله لنوره من يشاء.. ويضرب الله الأمثال للناس.. والله بكل شيء عليم)
عزيزي جمعة:
تحية طيبة،
وبعد فقد سألت عن هذه الأية في مدني، وقد وعدتك بالكتابة إليك فيها..
(الله نور السموات والأرض).. موجدهما.. وليس وجود السموات والأرض غير وجود الله.. فيعود المعنى ليكون (الله نور السموات والأرض) الله حقيقة السموات والأرض، وهما مظهره، بهما ظهر لعارفيه.. ولذلك قال، في آخر الآية (ويضرب الله الأمثال للناس)، ومعنى ذلك أنه يظهر بما هو مثله لمن هو مثله و(ليس كمثله شيء).. فوقع التشبيه، والتنزيه.. ثم قال: (الله بكل شيء عليم)، معناها الله بكل شيء ظاهر، وشاهد ومشهود، ومعلم من يعلم عنه..
والسموات والأرض (حق)، وكل ما خلق الله فيهما (حق)، والله (حقيقة) كل (حق).. ولا يدخل (الباطل) في الوجود إلا بنظرة الإنسان إلى الوجود.. يقول تعالى: (وما خلقنا السماء، والأرض، وما بينهما باطلا.. ذلك ظن الذين كفروا.. فويل للذين كفروا من النار)
والله، في صرافة ذاته، فوق الأسماء، وفوق العبارة، وليس إلى معرفته من سبيل.. وإلى ذلك الإشارة بالحديث القدسي: (كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني)..
ومعنى تعرفت إليهم ظهرت لهم بهم، وبكل شيء.. وهو المعني بقوله تعالى: (الله نور السموات والأرض)..
والله، من صرافة ذاته، تنزل لخلقه ليعرفوه في ثلاثة منازل، أو قل ثلاث مراتب: مرتبة الإسم، ومرتبة الصفات، ومرتبة الأفعال.. وبالأفعال برزت السموات والأرض، ومن فيهن، إلى حيز المحسوس – فمرتبة الاسم مرتبة الإنسان الكامل.. ومرتبة الصفة مرتبة الإنسانة الكاملة، ومرتبة الفعل مرتبة الوجود الخارجي المحسوس.. فالوجود المحسوس صورة خارجية، لصورة داخلية، في النفس البشرية.. وهذه الصورة الداخلية هي، في المرأة، كما هي، في الرجل.. ولكنها، في المرأة، موجودة على صورة أكثر سذاجة منها، في الرجل، وبذلك فهي أقرب إلى (الصرافة) التي تنزلت منها (الذات) إلى مرتبة (الإسم) – مرتبة الإنسان الكامل – ومن ههنا جاء تغني الصوفية بسلمى، وليلى، ولبنى، وهم بذلك إنما يريدون إلى الكناية عن الذات الإلهية..
ومع الصورة الداخلية للسموات والأرض، في الرجل وفي المرأة، هناك ايضا صورة خارجية فيهما، فسماء الإنسان عقله، وأرضه قلبه – عقله المحسوس في دماغه، وقلبه النابض بين اضلاعه.. كما أن أرضه أيضا جسمه، و (الله نور السموات والأرض)، موجد عقلي، وعقلك، وقلبي، وقلبك، ومنورهما، ومظهرهما، كما هو موجد السموات والأرض، ومنورهما، ومظهرهما.. والتفسير الخارجي المحسوس موجود في كتب التفسير كلها..
(مثل نوره كمشكاة، فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري) المشكاة موضع المصباح، من القنديل، ومن المنزل.. وهي هنا جسم الإنسان الكامل.. والمصباح القلب، والزجاجة العقل: (كأنها كوكب دري)، إشارة إلى صفاء عقله.. شبهه بالكوكب المضيء، مع إنها زجاجة مجردة [بلا نور] وذلك لشدة ما هي عليه من الوضاءة، والنظافة، والإشراقة، حتى ليخيل إليك أن بها ضوء من ذاتها..
(يوقد من شجرة مباركة زيتونة).. رجع إلى المصباح الذي هو قلب العارف الكامل، فقال: إن الزيت الذي يحرقه هذا المصباح ليضيء به، إنما هو زيت شجرة زيتونة.. ووصفها بقوله (مباركة) لتعرف أن زيتها، القليل منه، يمكث كثيرا في الاحتراق لأنه ممدود ببركة.. ثم لتعرف أن النور الذي ينبعث من نار الإحتراق، الذي يحدث من هذا الزيت، إنما يتضاعف أضعافا لا حد لها، في القوة، ولا في الإنبعاث، في الآفاق البعيدة، لأنه ممدود ببركة، ونماء.. ثم لتعرف أن نارها هي نار موسى، وذلك بقرينة الإشارة إلى قوله تعالى، عن موسى (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن، في البقعة (المباركة)، من (الشجرة): أن يا موسى!! إنى أنا الله رب العالمين).. ونار موسى نار التجلي (الأكبر) – تجلي (الإسم المفرد): (إني أنا الله).. فذلك ما جعل الصوفية يهيمون بنار موسى.. وأنت بأقوالهم، في ذلك، عليم.. ثم لتعرف أن نارها مباركة.. و(النار المباركة) هي التي تكون بردا، وسلاما – لا هي برد، ولا هي حر، وإنما هي نور، بلا نار، كنار إبراهيم.. فلذلك فهي (لاشرقية ولا غربية).. فلا تتمكن منها حرارة الشروق، ولا يغمرها ظلام الغروب.. وهذه (الشجرة) إنما هي جسم الإنسان الكامل الذي عبر عنه بالمشكاة آنفا.. وجسم الإنسان الكامل لا شرقي، ولا غربي – لا هو ملائكي، ولا هو حيواني، وإنما هو إنسان سوي الخلق، مهيأ لنفخ الروح الإلهي، حيث قال: (فإذا سويته، ونفخت فيه من روحي)..
(يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار)، لشدة صفائه.. فلكأنه صفحة المرآة، تعكس الأضواء من كل جانب، حتى أنها لتكاد تضيء بغير نار.. وكذلك جسد الإنسان الكامل، هو مضيء بنور المعرفة، ولو لم تمسسه نار المجاهدة.. فهو مستجيب للترقي لأنه (زيتونة مباركة).. (نور على نور)، نور (القلب السليم) على نور (العقل الصافي)، يستعلن النوران من مشكاة الجسم الصحيح الذي يكسوه الوقار، والجمال، في الحركة والسكون، ويتضوع منه شميم أطايب الأعراق، ومكارم الأخلاق، وحلاوة الشمائل.. (يهدي الله لنوره من يشاء).. يرشد الله إلى (نفسه) من يشاء الله إرشاده من عباده.. وهي أيضا تعني يرشد الله إلى (نفسه) من يشاء هذا الإرشاد من العباد، على أن تكون مشيئة هذا العبد للهداية بمرتبة دعوة المضطر.. ذلك بان الله يستجيب لدعوة المضطر إذا دعاه، حتى وإن كان كافرا.. ولا تكون مشيئة العبد للهداية بهذه المرتبة، أو باي مرتبة، إلا بسبق مشيئة الله له بها: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين).. فرجع حاصل الأمر إلى صاحب الأمر.. ولكن قبل إنكشاف هذا الأمر ذوقا، ويقينا، وهو لا ينكشف إلا للعارفين، فإن المريد، الطالب، مكلف بتجويد المشيئة، وبحسن توجه القصد إلى الله، حتى يهديه لنوره.. (ويضرب الله الأمثال للناس.. والله بكل شيء عليم..) وردت الإشارة إليه في صدر هذا الكتاب..
بقي هناك أمر!! وهو أن الآية لا تنتهي، حيث تعود كثير من الناس إنهاءها، في كلمة: (عليم)، من عبارة: (والله بكل شيء عليم)، وإنما تستمر إلى قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه).. ولو أن القرآء يقفون ها هنا، ثم يستأنفون القرآءة بقوله تعالى: (يسبح له فيها، بالغدو، والآصال* رجال لا تلهيهم تجارة، ولا بيع، عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)، لكان أكمل، وأتم، مما يفعلون الآن.. ولذلك فإن الحديث عن هذه الآيات لا ينتهي إلا عند نهاية الحديث، عند: (في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه)
قلنا أن المشكاة هي جسم، أو قل جسد، الإنسان الكامل.. والمصباح قلبه، والزجاجة عقله الذي عليه تنعكس صور الحقائق الأزلية المركوزة في قلبه، لأن القلب بيت الرب.. وقلت، في صدر هذا الكتاب: أن سماء الإنسان عقله، وأرضه قلبه – عقله المحسوس في دماغه، وقلبه النابض بين أضلاعه – كما أن أرضه جسمه.. فكأنني جعلت القلب، والجسم، بمعنى واحد.. وما ذلك إلا لأن الإنسان الكامل قلب كله – جسده كتلة من لحم القلب، بلا قشر، وبلا غلاف.. فحيث ورد الحديث عن الجسم، في هذا الكتاب، فإنما المراد هذا الجسم (القلبي).. وعلى هذا المستوى من الفهم نفهم قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه..).. فإن البيوت أجساد العارفين.. وفي طليعتهم الإنسان الكامل.. فإن جسد العارف قد أذن الله له أن يرفع من الأموات.. فهو إنما يجيء إلى هذه الدنيا من العالم الآخر.. وإلى ذلك إشارة النبي عن أبي بكر حيث قال: (من سره أن ينظر إلى ميت يمشي في الناس فلينظر إلى أبي بكر..).. وجسد الإنسان الكامل أذن الله له أن يرفع، من مرتبة النباتية، إلى مرتبة الحيوان، إلى مرتبة الإنسان، وهي اعلى المراتب.. ومرتبة الحيوان هنا لا تعني مجرد الحيوان الأعجم، وإنما تعني أيضا مرتبة البشر الحاضر، القاصر، عن تحصيل المعارف الإلهية.. ذلك بأن الإنسان الكامل يأذن الله له (لبيته) أو قل (لجسده) أن يرفع، فيفتتح، بهذه الرفعة، دورة جديدة، من دورات التكوين على هذه الأرض.. فإنه هو يرتفع: بهذه الدورة الجديدة، فوق البشر المعاصر، كما ارتفع البشر المعاصر فوق الحيوان الأعجم، عند إفتتاح الدورة البشرية المعاصرة، هذه الدورة التي نعيش الآن في أخرياتها، إن شاء الله..
(في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) من الذي يذكر، في هذه البيوت، إسم الله؟؟ كل ذرة من ذرات جسم العارف.. بل كل بليون جزء، من أجزاء ذرات جسم العارف،
((الحقيقة فوق العبارة
))، تذكر إسم الله بلسان المقال، وبلسان الحال.. فليس في دنيا الإنسان الكامل غير الله، لأنه هو الله.. فأنت، بلا ريب، تذكر قولنا عن تنزل الذات الصرفة إلى مرتبة الإسم، ثم إلى مرتبة الصفات، ثم إلى مرتبة الأفعال.. وقد قلنا أن مرتبة الإسم هي مرتبة الإنسان الكامل.. فالإسم الذي تنزلت إليه الذات الصرفة هو (الله).. وهذا هو معنى قولنا إن الإنسان الكامل هو الله..
إن الحديث عن هذا الأمر طويل، ولولا أني أعرف حرصك، وشدة رغبتك في المعرفة لأخرت هذا الجواب إلى وقت أجد فيه الفراغ.. ولربما أعود مرة أخرى.. وليكف الان من هذا الأمر ما يسر الله.. وهو المسئول أن يتولى هداية الجميع إلى طرق الصلاح..
المخلص
محمود محمد طه
15/ 9/ 1965