إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الجمهوري والمهاجر والأكتوبري

بسم الله الرحمن الرحيم
(ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد!!)
صدق الله العظيم..


المقدمة:


إن إقتران مناسبتين عظيمتين، هذا العام، أول السنة الهجرية، وذكرى أكتوبر، إنما يضفي على الاحتفال بالحدثين الكبيرين معنى عميقا، وجديدا.. ذلك بأن الهجرة من مكة إلى المدينة، في القرن السابع، وثورة اكتوبر عام 1964، قد نشأتا، كلتاهما، من أجل التغيير.. هما ثورة لتغيير الفرد والمجتمع، واستبدال للأدنى بالذي هو خير وأحسن تأويلا..
وقد أمكن بالفعل إحداث شيء من التغيير عن طريق هاتين الثورتين.. ونحن اليوم إنما ننتظر، ونمهد لمجيء أكتوبر الثانية في نفس معنى انتظارنا، وتمهيدنا لقيام الهجرة الثانية، من المدينة إلى مكة، ببعث الإسلام، في ثورته الثانية حيث ينتقل العمل من فروع القرآن إلى أصوله، من الوصاية إلى الإسماح، من الجهاد الأصغر – جهاد السيف – إلى الجهاد الأكبر – جهاد النفس – وهذه هي الهجرة الكبرى، فهي هجرة داخلية مضمارها طبقات العقل، حيث يطوي السالك العارف مراتب النفوس السبع: الأمارة، اللوامة، الملهمة، المطمئنة، الراضية، المرضية، ثم الكاملة، في سلم سباعي لولبي، لا ينتهي السير فيه، ولا تنقضي درجاته، وانما تلطف، وتدق، اذ السير فيه ليس بقطع المسافات، وإنما بتقريب صفات السالك من صفات الإنسان الكامل الذي يجسد المقام المحمود (الحقيقة المحمدية، في وجهها الذي يلي الإطلاق)، وبذلك يفتح طريق الأفراد نحو الإطلاق، فهو بابهم، وهو وسيلتهم اليه.. و(المقام المحمود) هو المعني بالآية الكريمة: (ليس كمثله شيء) فتجسيد المقام المحمود، في الأرض (الإنسان الكامل)، إنما يجسد، للبصائر، والأبصار، على ظهر الأرض، الحقيقة المحمدية.. فهو مثل الذات المطلقة، وهو لا مثل له: (ليس كمثله شيء)، ذلك بأن كل ما حوته العبارة من الأسماء، والصفات، على رفعتها، وجلالها، وكل ما أومأت اليه الإشارة، فالله بالمعنى البعيد (الذات الصرفة)، فوق ذلك – هو فوق العبارة والإشارة – ذلك بأن الأسماء، والصفات، إنما تقوم في حق الحقيقة المحمدية – الله بالمعنى القريب – ذلك بأن ذات الله الصرفة، في الإطلاق، لا تسعها العبارة وإنما العبارة تشير اليها فقط، اشارة قاصرة، غامضة.. ولذلك قال النبي: (تفكروا في مخلوقات الله، ولا تتفكروا في ذاته فتضلوا) يعني تفكروا في أسمائه وصفاته وأفعاله، وأتركوا التفكير في ذاته.. فالأسماء والصفات والأفعال لها أضداد، ومجال ادراكها العقل، والعقل إنما يدرك بالضدية.. فلولا الظل ما عرف الحرور، وأما ذات الله الصرفة، فلا ضد لها، ولذلك هي لا تعرف، ولاتوصف وإنما يشار إليها وحسب، كما قلنا، (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).. وحتى ما يتيسر من إدراك القلوب لها، وهو إدراك وتري، حتى هذا القدر إنما هو مقدار ما قيدته (الحقيقة المحمدية)، من وجهها الذي يلي الذات الصرفة، فهي من هذا الوجه، قيد الإطلاق، قيد الذات، وهي مطلقة.. وهي من وجهها الذي يلي الخلق، متعلق الأسماء والصفات وهي مقيدة.. والسير في مجالها هذا سير شفعي اداته العقل المؤدب بأدب الحقيقة، والشريعة، وهو في سيره هذا إنما يبتغي الوصول بصاحبه إلى مقام الإدراك الوتري الذي أداته القلب، حيث يتم الفينة، بعد الفينة، شهود الذات المقيدة للإطلاق، الحقيقة المحمدية (الله بالمعنى القريب) في وجهها الذي يلي الذات المطلقة.. وذلك هو المقام المحمود الذي قامه النبي ليلة المعراج، وهو قمة الهجرة، حيث مشهد: (ما زاغ البصر، وما طغى) وذلك عندما يتوقف الفكر عن الجولان، بين الماضي والمستقبل، ويتوحد السالك العارف، فلا قلب، ولا عقل، ولا جسد، وإنما كله يتسق، ويتحد، ويتحرر من الزمان والمكان، على نحو يبيحه شهود الذات، وذلك هو ما عبر عنه النبي بقوله: (ليلة عرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله)..
إن اكتوبر الثانية، والهجرة الثانية، قد أظلنا عهدهما، عهد الفكر، والعلم، فأكتوبر الفكرية، مقابل أكتوبر الماضية العاطفية، والهجرة العلمية مقابل الهجرة الماضية العقيدية.. وفي كلتا أكتوبر الفكرية، والهجرة العلمية فإن العاطفة، والعقيدة حاضرتان، ولكن الحكم حينئذ للفكر، والعلم، حيث ينبني نظام الفرد والمجتمع، على المستوى العلمي من الإسلام – كما مبين في كتبنا: (الرسالة الثانية من الإسلام)، (رسالة الصلاة)، (تطوير شريعة الأحوال الشخصية)، (طريق محمد)، وغيرها من كتبنا الأساسية.. والقيمة الباقية لثورة أكتوبر، وللهجرة، هي ان ندرك ان خلاص الناس كل الناس، في مشارق الأرض، ومغاربها، لا سبيل له، البتة، الا ببعث أكتوبر الثانية، او إن شئت، الا (بثورة الإسلام الثانية) ولا يعرف هذه القيمة الباقية لأكتوبر وللهجرة، الا الجمهوريين، وعلى التحقيق ليس هناك من هو اولي منهم: (بذكرى المحرم)، و(ذكرى أكتوبر)، فهم الذين يعطون هاتين المناسبتين محتواهما، وهم الذين يغطون في كل يوم، أرضا، في طريق العودة، عودة أكتوبر، وعودة الهجرة – بالعلم، والعمل لتجسيد العلم في اللحم والدم.. فلقد كان الجمهوريون منذ نشوء فكرتهم عام 1945، روادا في آفاق الحياة السياسية، والإجتماعية، وربطها بالدين.. لم يسبقوا زمانهم، فهم في وقتهم، وإن سبقوا معاصريهم الذين تخلفوا عن قامة العصر. لقد سبق الجمهوريون غيرهم إلى كل ما أصبح اليوم من بدائه الأشياء، بعد أن كانوا هم به بالأمس غرباء.. فقد ناهضوا الطائفية، ونادوا بالجمهورية، منذ عام 1945، وطالبوا بالاستقلال الحق، وأشعلوا الحماس، ورفعوا راية المقاومة، ودخلوا السجون كأول سجناء سياسيين، وقدموا المذهبية الإسلامية الواعية، وقدموا الحل السلمي لمشكلة الشرق الأوسط، وحلوا مشكلة الزواج وكرموا المرأة، بل قدموا،لأول مرة في التاريخ، المرأة كداعية دينية، رسولة، للرجال والنساء، في الشارع، تحمل العلم والدين، والسمت الرزين، وغير ذلك كثير، مما سنورد منه في هذا الكتاب النذر اليسير، ولقد كان كل ما أتى به الجمهوريون، في أول امره، غريبا على الحركة الوطنية والأحزاب السياسية، والدوائر الدينية السلفية – فهم الغرباء بحق، هم الذين أحيوا السنة بعد إندثارها، هم غرباء الحق، الذي لا يقبل الله غيره، ولا يرضي من أحد سواه.. فالفكرة الجمهورية دعوة لأكتوبر الفكرية، وللهجرة الثانية.. فلا يبطئن أحد عن الأخذ بها، ولا يسفهن أحد نفسه، و(من يرغب عن ملة إبراهيم الا من سفه نفسه). ونحن اذ نقرر هذا التقرير الواضح الخطير، لا نفعل عن تعصب، ولا نصدر عن رأي فطير، وإنما عن علم، ويقين.. ذلك بأن الإسلام علم، قدمته الفكرة الجمهورية لإنسانية اليوم، وهو بغير هذا المستوى لا فرصة له، ولا بقاء، في عالم اليوم..