نحن والفكر الأوربي والحضارة الأوربية:
قبل الذهاب إلى النقاط الخمس التي زعم الصادق اننا نلتقي فيها مع الدعوات الثلاث، لا بد لنا من وقفة قصيرة مع المدخل الذي اتخذه الصادق في هجومه علينا.. فهو قد وضعنا، نحن والدعوات الثلاث، بأننا تأثرنا بالفكر الأوربي، والحضارة الأوربية، تأثرا جعلنا نفرغ الإسلام تماما!! ان الحضارة الأوربية، هي الحضارة السائدة اليوم، والتأثر بها، سواء كان بالنسبة لنا، او بالنسبة للصادق، او بالنسبة للدعوات الثلاث، هو أمر طبيعي طالما اننا نعيش في ظل هذه الحضارة.. أما قول الصادق بأننا تأثرنا بهذه الحضارة إلى حد إفراغ الإسلام تماما، فهو قول باطل ومناقض لما عليه امرنا.. وحتى بالنسبة للدعوات الثلاث، فهي لم تفرغ الإسلام بسبب تأثرها بالحضارة الغربية، فهي لم تتحول إلى دعوات علمانية تتبنى الحضارة الغربية، وانما هي، في الأساس، دعوات دينية.. وهي انما قد افرغت الإسلام بسبب انحرافها عنه.. فهي دعوات صوفية، او شيعية لم تنضج تجربة اصحابها، فهم قد تمت لهم بعض الإشراقات ولكنهم تعرضوا لصورة من صور الجذب، أصبحوا معها على غير شريعة واضحة، وعلى حقيقة مشوشة - وهذا امر معروف في التصوف - فطريق التصوف فيه العديد من الضحايا من امثال هؤلاء.. فهذا هو السبب في افراغهم الإسلام، وليس السبب هو شدة تأثرهم بالفكر الأوروبي والحضارة الأوربية..
اما بالنسبة لنا، فإن موقفنا من الفكر الأوربي والحضارة الأوربية، ليس هو موقف الرفض التام، ولا هو موقف القبول التام.. فنحن لا نرفض التراث البشري، ولا نقبله على علاته، وإنما نعرضه على ميزان التوحيد، ميزان الكلمة (لا إله الا الله)، فما وافق منه الإسلام اخذنا به، وصححناه، وكملنا نقصه، ونميناه.. وما لم يوافق الإسلام، وقيم الإسلام تركناه.. ففي ميزان (لا إله الا الله)، الباطل المطلق لا يدخل الوجود، فكل ما دخل الوجود انما دخل بإرادة الله، فالحضارة الأوربية، على ذلك ليست باطلا مطلقا.. والأعراف الصالحة هي من الدين، ومطلوب دينا الأخذ بها، وهذا معنى قوله تعالي: (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين).. فالعرف هنا، هو كل ما تعارف عليه الناس، بشرط الا يتعارض مع غرض من اغراض الدين.. وعن موقفنا من الحضارة الأوربية جاء بكتابنا (رسالة الصلاة) ما نصه: (ان المدنية الغربية الآلية الحاضرة عملة ذات وجهين: وجه حسن مشرق الحسن، ووجه دميم، فأما وجهها الحسن فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلمية، حيث اخذت تطوع القوى المادية لإخصاب الحياة البشرية، وتستخدم الآلة لعون الإنسان.. وأما وجهها الدميم، فهو عجزها عن السعي الرشيد إلى تحقيق السلام، وقد جعلها هذا العجز تعمل للحرب، وتنفق على وسائل الدمار اضعاف ما تعمل للسلام، واضعاف ما تنفق على مرافق التعمير..
فالوجه الدميم من المدنية الغربية الآلية الحاضرة، هو فكرتها الاجتماعية، وقصور هذه الفكرة عن التوفيق بين حاجة الفرد، وحاجة الجماعة.. حاجة الفرد للحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وفي الحق ان العجز عن التوفيق بين هاتين الحاجتين: حاجة الفرد، وحاجة الجماعة، ظل آفة التفكير الاجتماعي في جميع عصور الفكر البشري..
وهذا التوفيق هو إلى اليوم القمة التي بالقياس اليها يظهر العجز الفاضح في فلسفة الفلاسفة وفكر المفكرين، ويمكن القول بان فضيلة الإسلام لا تظهر بصورة يقصر عنها تطاول كل متطاول الا حين ترتفع المقارنة بينه وبين المذاهب الأخرى إلى هذه القمة الشماء.).. انتهى..
ومن هنا يتضح اننا لا نرفض الحضارة الغربية رفضا مطلقا، ولا نقبلها قبولا مطلقا، وانما نحن نقومها فنأخذ الصحيح منها وننميه ونترك الخطأ.. فمثلا الإشتراكية هي عرف انساني صالح وهي قد جاء بها الإسلام قبل الحضارة الغربية وهي قد عاشها النبي الكريم في خاصة نفسه في قمة، حيث كان ينفق عنه كل ما زاد عن حاجته الحاضرة، عملا بقوله تعالي: (ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو)، وقد فشلت الحضارة الغربية، في شقها الشيوعي، في تحقيق الإشتراكية، وهي لن تتحقق الا عن طريق الإسلام.. وكذلك الأمر بالنسبة للديمقراطية، فهي عرف انساني صالح، وقد جاء بها الإسلام قبل الحضارة الغربية وقد عاشها النبي الكريم في خاصة نفسه كقيمة انسانية في قمة، فهو لكمال عبوديته لله كان عازفا عن السيطرة على خلق الله وهذا هو جوهر الديمقراطية، وقد حكاه تعالى في قوله: (فذكر إنما انت مذكر* لست عليهم بمسيطر).. وقد فشلت الحضارة الغربية، في شقها الغربي الرأسمالي عن تحقيق الديمقراطية، وهي لن تتحقق الا عن طريق الإسلام.. ونحن حينما نقدم الإسلام بالصورة التي تجمع بين الإشتراكية والديمقراطية في جهاز واحد، انما نستجيب لتطلعات العصر، ونقدم الحلول لمشكلاته من الإسلام، ونحن بذلك نعطي الإسلام محتواه، على عكس ما زعم الصادق من اننا نفرغ الإسلام من محتواه، نحن نقدم الإسلام كمدنية جديدة، كبديل للمدنية الغربية الحاضرة، التي فشلت في حل مشكلات الحياة المعاصرة وتوجيه طاقاتها.. ونحن قد بينا فشل المدنية الغربية في العديد من كتاباتنا، وفي كتابنا (الرسالة الثانية من الإسلام) هنالك عنوان، جري تحته تفصيل هذا الأمر والعنوان هو (فشل المدنية الغربية) ومما جاء فيه: (وهذه المدنية الغربية الآلية الحاضرة قد بلغت نهاية تطورها، وقد فشلت فشلا نهائيا وظاهرا في تنظيم حياة المجتمع البشري المعاصر)، ثم ذهب الحديث ليفصل جوانب هذا الفشل.. وحتى في دستورنا تعرضنا لفشل المدنية الغربية وتقديم الإسلام كبديل لها.. ففي دستور الحزب الجمهوري لعام 1951، جاء في المذكرة التفسيرية، ما نصه: (الحزب الجمهوري دعوة إلى مدنية جديدة تخلف المدنية الغربية المادية الحاضرة التي اعلنت افلاسها بلسان الحديد والنار..) ويواصل النص: (والفلسفة الاجتماعية التي تقوم عليها تلك المدنية ديمقراطية اشتراكية تؤلف بين القيم الروحية وطبائع الوجود المادي تأليفا متناسقا مبرأ على السواء من تفريط المادية الغربية التي جعلت سعي الإنسان موكلا بمطالب المعدة والجسد، ومن افراط الروحانية الشرقية التي اقامت فلسفتها على التحقير من كل مجهود يرمي إلى تحسين الوجود المادي بين الأحياء.. وطلائع هذه المدنية الجديدة اهل القرآن الذين قال تعالى عنهم: "وكذلك جعلناكم امة وسطا" اي وسطا بين تفريط الغرب المادي، وافراط الشرق الروحاني.. ودستور هذه المدنية الجديدة "القرآن"..) – من كتابنا اسس دستور السودان - ومن كل ذلك يتضح ان الصادق يقول عنا بعكس الحق تماما، فنحن لم نفرغ الإسلام من محتواه بل اعطيناه محتواه.. والصادق حين فعل ذلك لا يعدو ان يكون أحد رجلين اما انه لا يعرف الفكرة الجمهورية فهو لا يحق له اذن ان يتحدث عنها، او انه يعرفها ولكنه مغرض وغير امين..