مجلس وحدة جنوب السودان
لقد حاول (مجلس وحدة جنوب السودان) أن يبرر تكوينه بالصورة التي كون بها بالاستناد الي المادة (48) من دستور السودان الدائم والتي تكفل حق التعبير، في حدود القانون، لجميع المواطنين، والمادة (51) التي تكفل حق اقامة النقابات، والجمعيات، والتنظيمات.. ولكن (مجلس وحدة جنوب السودان) ليس مجرد تنظيم، وانما هو اختار لنفسه وضعا يجعله أشبه بالحكومة داخل حكومة.. فهو قد ذكر أنه جاء ليملأ الفراغ الناتج عن حل المؤسسات الدستورية بالجنوب!! ففي منشوره بتاريخ 24/12/1981 جاء ما نصه: (ان مؤسساتنا السياسية والدستورية قد حطمت وتم خلق فراغ خطير..المجلس هو محاولة لملء هذا الفراغ).. فالمجلس اذن ليس مجرد تنظيم أو جمعية بالمعني الذي تعنيه المادة (51) من الدستور الدائم، وانما هو هيئة قصد بتكوينها ملء الفراغ الذي تركه حل الهيئة التشريعية، والهيئة التنفيذية، في الإقليم الجنوبي.. وهذا يعني ضمنا أن المجلس يدعي لنفسه من الصلاحيات ما للهيئتين اللتين تم حلهما، كما يعني ضمنا أن المجلس لا يعترف بالحكومة العسكرية الانتقالية التي كونها رئيس الجمهورية لملء ذلك الفراغ الذي أشار اليه منشور المجلس.. فما هي الصفة الدستورية، التي تعطي جماعة (مجلس وحدة جنوب السودان) الحق في أن يقرروا من عند أنفسهم، ودون اتخاذ أي إجراءات دستورية، ان قرار رئيس الجمهورية بحل مجلس الشعب الإقليمي، والمجلس التنفيذي العالي، وتكوين حكومة انتقالية، قرار غير دستوري، يؤدي الي فراغ، يقوم المجلس بملئه عن طريق تكوين مجلسهم؟! انه من الواضح، انه ليس لهذه الجماعة أي صفة دستورية تعطيها مثل هذه الحقوق.. وقد كان يمكن لهم لو أرادوا، أن يطعنوا في إجراءات رئيس الجمهورية بالطرق الدستورية المعروفة..
وقد تم حل مجلس الشعب القومي، ومجلس الشعب للإقليم الجنوبي، بمقتضي قرارين جمهوريين يستندان الي مواد معينة، وإجراءات معينة، كان يمكن لجماعة المجلس أن يقوموا بمناقضتها بصورتها الواردة في القرارين الجمهوريين، ولكنهم لم يفعلوا.. وعن القرارين الجمهوريين جاء بجريدة الصحافة عدد 6/10/1981 ما نصه: (أصدر السيد رئيس الجمهورية جعفر محمد نميري أمس قرارا جمهوريا بحل مجلس الشعب ودعوة الناخبين لأجراء انتخابات جديد في ظرف ستين يوما وفقا للبرامج التي ستحددها لجنة الاشراف على الانتخابات، وذلك عملا بأحكام المادة (108) من الدستور، وبعد التشاور مع رئيس مجلس الشعب..
كما أصدر سيادته قرارا جمهوريا بحل مجلس الشعب للإقليم الجنوبي ودعوة الناخبين لإجراء انتخابات جديدة في ظرف 6 أشهر وفقا للبرامج التي ستحددها لجنة الاشراف على الانتخابات، وذلك عملا بأحكام المادة (14) من قانون المجلس التنفيذي العالي ومجلس الشعب الإقليمي لسنة 1980 وبعد التشاور مع رئيس المجلس التنفيذي العالي ورئيس مجلس الشعب الإقليمي).. وقد رأينا كيف أن جماعة (مجلس وحدة جنوب السودان) قد وصفوا حل هذه المؤسسات بأنه (تحطيم)، فقد قالوا: (ان مؤسساتنا السياسية والدستورية قد حطمت).. وقد صوروا عملية الحل هذه بأنها مجرد رد فعل للكتاب الذي أصدرته مجموعة من النواب الجنوبيين في مجلس الشعب القومي، تعترض فيه على تقسيم الجنوب، وقد أسمت الكتاب (اعادة تقسيم الجنوب لماذا يجب أن ترفض)، فلقد ورد في منشور (مجلس وحدة جنوب السودان) عن هذا الكتاب ما نصه: (وقد أخبرنا ان هذا الكتيب هو سبب الكارثة للجنوب.. فقد أدي الي حل مجلس الشعب القومي، ومجلس الشعب الإقليمي، والحكومة الإقليمية).. ومن الواضح أن هذا شطط لا مبرر له، فان مجلس الشعب القومي قد حل لأسباب معلومة للجميع وهي أسباب موضوعية تماما، وقد جاء عنها بجريدة الصحافة عدد 6/10/1981 ما نصه: (وأوضح البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية أن حل مجلس الشعب القومي قد جاء تطبيقا للمبادئ والأسس التي تم الاهتداء بها في انشاء الاجهزة الإقليمية ومراعاة لما ترتب على انتقال العديد من السلطات والاختصاصات من مجلس الشعب القومي الي مجالس الشعب الإقليمية بموجب قانون الحكم الإقليمي لسنة 1980، مشيرا الي أن الحكم الإقليمي وهو يعبر عن فلسفة الثورة السياسية القائمة على اشراك أكبر قدر من المواطنين في ادارة شئون أنفسهم بأنفسهم، يعتمد في مرتكزاته الاساسية الي مبدأ عام يتمثل في تقليص حجم الاجهزة القومية لصالح الاجهزة الإقليمية).. أليس هذا سببا موضوعيا واضحا؟! ثم ان حل هذه المؤسسات ليس (تحطيم) لها كما ذكر المنشور، وانما تم حلها ليتم تكوينها من جديد في زمن حدد في قرار حلها نفسه..
ان الشطط، ومجافاة الحقيقة، في العمل السياسي، اسلوب خاطئ، وهو يعقد المشاكل أكثر من أنه يعين على حلها.. فقد كان يمكن لجماعة (مجلس وحدة جنوب السودان) أن يقوموا بكل ما قاموا به في شرح وجهة نظرهم، والدعوة اليها، والعمل من أجلها، دون أن يجنحوا لما جنحوا اليه من الشطط..
العداوة وعدم الثقة
ان السمة الاساسية، والروح الغالبة التي تنتظم معظم ما كتب كل من دعاة التقسيم، ودعاة المحافظة على وحدة الإقليم الجنوبي، هي العداوة، وعدم الثقة.. العداوة للشماليين والعرب، وعدم الثقة فيهم، والعداوة للخصوم القبليين داخل الجنوب نفسه، وعدم الثقة فيهم.. وفيما أوردنا من نصوص للفريقين نماذج كافية لهذه العداوة، وعدم الثقة، ويمكن أن نضيف هنا بعض العبارات التي تدل على ذلك مما ورد في كتاب (اعادة تقسيم الجنوب لماذا يجب أن ترفض) فقد جاء فيه مثلا: (العلاقات بين الشمال والجنوب بنيت على الكراهية والنزاع.. ووقوف الشمال الي جانب اعادة التقسيم يدل على ذلك.. ان الشمال لم يقم بعمل شيء ولن يقوم بعمل شيء، أو يدعم شيئا فيه مصلحة للجنوب.. لقد قيل أن أحد الزعماء العرب البارزين قال، في المرة من المرات، أن أكبر حاجز أمام العرب ليس هو خط بارليف، وانما هو جنوب السودان.. وقد حطموا خط بارليف ولا بد من تحطيم الجنوب) – صفحة (21)..
ان هذا النص دليل كاف على مدي المرارة التي ينطوي عليها بعض الجنوبيين تجاه اخوانهم في الشمال، وهو نموذج لعدم الموضوعية، التي ما كان ينتظر ان تكون عند مجموعة من المثقفين.. فهل يمكن أن يقال أن الشمال لم يقدم شيئا فيه مصلحة للجنوب؟! أليس الشمال هو الذي يدعم الجنوب اقتصاديا عبر التاريخ، والي اليوم؟! وإذا أمكن أن يقال أن الشمال لم يقدم شيئا فيه مصلحة للجنوب، فهل يمكن أن يقال أنه لن يقدم شيئا فيه مصلحة للجنوب؟! وبالعبارة التي نسبها الكتاب لأحد الزعماء العرب انما أراد أن يقول أن عداوة الشمال للجنوب، هي أشد من عداوة العرب لليهود!! فهل يمكن لإنسان موضوعي أن يقول مثل هذا القول؟! ان مثل هذه العبارات لا قيمة لها، وهي تعمل على ايغار الصدور، وتعميق العداوة، والخلاف، أكثر مما تعمل على حل المشاكل.. انه ليس للشمال مصلحة في عداوة الجنوب، كما انه ليس للجنوب مصلحة في عداوة الشمال، ومن واجب المثقفين، في الشمال، وفي الجنوب، أن يعملوا لمحو آثار الماضي، وأن يعملوا لتنمية القيم الايجابية عند المواطنين في الإقليمين على السواء، وهو واجب، حتى الآن، لم يضطلعوا به، بل، في كثير من الحالات، يقومون بما هو عكسه تماما..