استقلال السودان:
ان تحقيق الاستقلال بجلاء المستعمر لعمل كبير وعظيم، وهو انجاز لا يخص قبيلا من السودانيين دون قبيل آخر، بل هو عمل قد ساهمت فيه الحركة الوطنية بأطرافها المختلفة، ولا يغيب عن بالنا في ذلك، الدور الذي لعبه رجال الأحزاب في نيل الاستقلال، ونحن، وان كنّا ننعي على هذه الأحزاب قصورها، وتقصيرها، في كثير من النواحي، انما كنّا نرمى لأن تؤدى هذه الأحزاب دورها كاملا، وبصورة ايجابية، في تحقيق الاستقلال الحقيقي للبلاد..
لقد كانت رؤية الجمهوريين واضحة بأن الاستقلال سيتم على اساس الجمهورية السودانية المستقلّة، وان كلمة السودانيين ستجتمع حول الاستقلال.. وقد ساعد على ذلك التنافس القائم بين دولتي الحكم الثنائي.. فكان ان اقتنع الاتحاديون بفكرة الاستقلال، وأعلن البرلمان السوداني اليوم 19/12/1955 اجماع السودانيين على الاستقلال، فتمّ بذلك الاستغناء عن الاستفتاء الذي كانت قد قرّرته اتفاقية القاهرة 1953 حول تقرير المصير للسودان..
هل تحقق لنا الاستقلال السياسي؟
اثبتت تجربة الحكم الوطني منذ الاستقلال، وحتى قيام نظام مايو، صدق رؤية الجمهوريين، ونضج بصيرتهم السياسية، حينما تحدثوا عن ان الاستقلال ليس هو جلاء الأجنبي فحسب، وانما هو، بالإضافة إلى ذلك (فكرة) لها برنامج سياسي، واقتصادي، واجتماعي، واضح، تملك وفقه ان توفّق بين حاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وحاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، بصورة تجعل انجاب الفرد الحر هو غاية الغابات..
لقد سارت الاحداث كما تصور الجمهوريون، فلم تكن تجربة الحكم الوطني، قبل مايو، الّا صراعا حول كراسي الحكم بين الأحزاب الطائفية، بصورة دفعت البلاد إلى حافّة الفوضى..
فلم يكن هناك عمل يذكر في اتجاه التنمية الاقتصادية، وابتذلت تجربة الحكم الديمقراطي في غياب الوعي، وغاب صوت الوطن عن الساحة الدولية، حنى اطلق على بلادنا اسم (رجل افريقيا المريض)، ورأينا من بيننا من يتحسّر على ايام الانجليز!! واشتعلت الحرب الاهلية في الجنوب، والتي لم تجد المعالجة الحكيمة من الأحزاب الطائفية، فعصفت بوحدة البلاد القومية، وفقد الاستقلال بذلك معنى من معانيه السياسية..
بل ان فرصة الاصلاح التي تهيأت لنا في ثورة اكتوبر 1964، حينما توفّرت لنا وحدة الحماس، والرغبة في التغيير، ولم تتوفّر لنا وحدة المذهبية، قد اجهضتها الأحزاب الطائفية، وهي التي تمتلك رصيدا شعبيا واسعا، بفضل الجهل والتخلّف الذي مكّنت له هي في البلاد، وسعت لتقنّن له بمشروع الدستور الإسلامي المزيف..
وهكذا فإن مجيء نظام 25 مايو قد شكّل مناخا مؤاتيا لكى تتكامل ابعاد الاستقلال شكلا ومضمونا.. فقد اعاد هذا النظام الوحدة الوطنية للبلاد بوقف نزيف الحرب الاهلية في الجنوب، وسار منذ البدء في تصفية الطائفية بتقويض سلطانها السياسي، فأمكن بذلك مواجهة الطائفية فكريا، بالصورة التي نعمل نحن من اجلها في منابرنا.. ثم جاءت مبادرة النظام حول (المصالحة الوطنية) لكي تعزز من الوحدة الوطنية.. ويمكن القول ان قضية المذهبية التي كان الجمهوريون يلحون عليها باستمرار قد وجدت الفرصة المناسبة، في ظل هذا العهد.. فعودة قيادات الأحزاب الطائفية والسلفية، للعمل في داخل الاتحاد الاشتراكي، بعد المصالحة الوطنية، هي مجرّدة من سلطانها السياسي، قد فتح الباب امام مواجهتها فكريا، لأول مرّة، بعد ان كانت تعتصم في الماضي ببريق السلطان السياسي عن المناجزة الفكرية، مما ضلّل مواطنيها في هذه الأحزاب وقياداتها..
ان خطوات النظام في هذا الاتجاه لهى طفرة كبيرة في تاريخ الحركة السياسية بالسودان.. ونحن نعتقد ان العمل من اجل تعزيز الاستقلال، انما يتم بالمزيد من الخطوات في اتجاه (المنابر الحرّة) بنفس الصورة التي نقيمها في الجامعات، وفى الاماكن العامة بالعاصمة، ومدن السودان المختلفة.. ففي مناخ الحوار الذي يجري في هذه المنابر تمحص المذهبية الرّشيدة الصالحة والتي تمتلك القدرة على تقديم الحلول السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، الكفيلة بتحقيق معنى الاستقلال الحقيقي: من رفاهية مادية، ووفرة انتاجية، تفيض بها ارضنا البكر، وتتحقق بها العدالة الاجتماعية، ومن اجهزة سياسية يمارس فيها الفرد الواعي المربّى الديمقراطية الحقيقية، فتنضج من كل ذلك شخصيته، ويتحرّر من الفقر، والعوز، والجهل، والتخلف، والخوف، فيكون فردا (مستقلّا) قد حقق حرّيته الفردية والتي ينماز بها عن القطيع، فتتسع بذلك كلّه حياة فكره، وحياة شعوره..
الى هذا المستوى من المعاني ينبغي ان ينشد ذهننا عند الحديث عن الاستقلال، وهو معنى تقصّر عنه كل الفلسفات المعاصرة، ولا يحققه الّا (الإسلام) في مستواه العلمي.. هذا المعنى قد كان حاضرا، في ذهن الجمهوريين حتى من قبل الاستقلال، فجعلوا في دستورهم عام 1951: (المبدأ: تحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة والحرية الفردية المطلقة)..