إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

السـلام
ضالّة البشرية منذ الأزل

الكتلة الثالثة هي طريق السلام!


إنّ السلام الذي يعيشه العالم اليوم، على العموم، هو سلام غير طبيعي إذ هو يقوم على توازن القوى، وحتّى هذا التوازن قد أخذت بوادر اختلاله تبدو واضحة في الأفق، لصالح الشيوعية الدولية.. ولذلك فإنّ على الدول العربية والإسلامية أن تعمل على إعادة توازن القوى، وأن تعمل على المحافظة عليه، من ثمّ..

ثمّ إنّ البديل لهذا السلام الصناعي إنّما هو السلام الحقيقي والطبيعي، وهو لا يجيء إلا ببروز الكتلة الثالثة التي تصفّي الكتلتين العالميّتين – الشيوعية، والرأسمالية، في جهاز واحد، يجمع بين الاشتراكية والديمقراطية..

ولذلك فإنّ على العرب، والعرب المسلمين بوجه عام، وعلى السودانيين، وحدهم بوجه خاص، يقع واجب ثقيل، ينبغي أن ينهضوا به في كفاءة، وفي اقتدار، هذا الواجب هو العمل على إعادة توازن القوى، في المنطقة العربية، ثم في أثناء ذلك، العمل على بعث الإسلام بفهم واع جديد، من أجل تحقيق السلام الحق، المبني على الفكر، وعلى الإخلاف، وعلى حل مشاكل المجتمع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وذلك كما قرّرنا، إنّما يكون بإيجاد نظام حكم، يجمع في جهاز واحد بين الديمقراطية، والاشتراكية، بعد أن يكون قد أرسى، لدى الأفراد، قواعد السلوك على النهج النبوي، حيث تحدث ثورة التغيير في داخلية كلّ فرد، فتتوحد البنية البشرية، ويحل السلام، والطمأنينة، محل المخاوف، والقلق، والتمزّق النفسي، وحيث يمسك العقل القوي بزمام تصرّفات الناس حكّاماً ومحكومين، فلا شطط، ولا خسران، وإنّما هو العدل، والوزن بالقسط، وتحييد العقل، فلا يخنس ولا يطغى..

وبذلك تنشأ نواة الكتلة الثالثة التي تقدّم للإنسانية النموذج الصالح للمجتمع الذي تقوم فيه علائق الأفراد على العدل، والمحبّة والسلام، بحيث يحقق كل فرد السلام في داخله، وفي خارجه، سلام مع الله، وسلام مع نفسه، وسلام مع الناس، وسلام مع الأحياء والأشياء..

على هذا الهدى يتحقق السلام في القطر الواحد، ومن ثم يتحقق السلام بين أقطار العالم المختلفة، حيث تتحقق لجميع سكّان الأرض وحدة الفكر، ووحدة الشعور، فإذا صار كل الناس يفكّرون قريباً من قريب، ويشعرون بمشاعر بعضهم البعض، فإنّه لن تنشأ مشكلة تستعصي على الحل حتى يشهر فيها السلاح.. ذلك بأن مراد النفوس الصغير الذي هو، حتى الآن، مسيطر على العالم، وهو الدافع للحروب، هذا المراد هو مراد النفس الدنيا التي يسفك الإنسان اليوم الدم في سبيل شهواتها، وأطماعها، وأحقادها، ولكنّا اليوم، بفضل الله، ثم بفضل الإسلام وبفضل ما بلغ الإنسان المعاصر من رهافة الحس، إنّما نستقبل عهد بروز النفس العليا من النفس السفلى: ((يأيتها النفس المطمئنّة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي)).. ومراد النفس العليا هو المحبة، والإيثار، والعلم، والسلام.. مرادها الله، وعهدها عهد النور المفاض لا عهد الدم المسفوح.. الذبح فقط للنفس السفلى، داخل كل فرد، فداء للنفس العليا.. هو عهد الحياة في سبيل الله لا عهد الموت في سبيل الله!! هو عهد الجهاد الأكبر!! لا عهد الجهاد الأصغر، فإن هذا منسوخ بذاك منذ اليوم..

إن هذا العهد هو قدر الإنسانية الذي لا تملك منه فكاكاً: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كلّه، وكفى بالله شهيداً))!!

ولكن، ليتحقق هذا الحلم الكبير، يجب أن تنشأ الكتلة الثالثة على المذهبية الإسلامية، بالفهم الجمهوري للإسلام.. وأن تسير هذه الكتلة الثالثة سيراً مستبصراً، بحيث لا يختل توازن القوى بين الكتلتين العالميتين، الشيوعية والرأسمالية، حتى نصفّيهما في الكتلة الثالثة، فينتهي الصراع، وتضع الحرب الباردة، والساخنة، أوزارها، ويلقى السلاح، وإلى الأبد: ((كان على ربّك حتماً مقضياً))..

إن توحيد العالم لن يتم إلا على أساس مذهبي، وليس هناك غير مذهبيتين تتنافسان للظفر بتوحيد العالم، وتوجيهه، وصياغة سكّانه صياغة جديدة، وهاتان المذهبيتان هما: الإسلام، والماركسية.. فنحن نستبعد الرأسمالية من أن يكون لها مستقبل في هذه المنافسة، ذلك بأنها قد خلّفها الزمن، وهي ليست ذات فلسفة متكاملة لعلاقة الإنسان بالكون وبالمجتمع.. فلم يبق في الميدان، غير الإسلام، والماركسية، وهما كفرسي رهان، يسابقان الزمن.. ونحن حين نتحدث عن الإسلام، لا نعني الفهم السلفي المتخلّف، والهوس الديني الأهوج، الذي يمثله الأخوان المسلمون، والخميني، وأضرابهما، وإنما نعني الفهم الواعي الذي يمثله الجمهوريون، وهو فهم يقوم على أصول القرآن، وهو، على هذا، يصلح لتوحيد البشرية، على اختلاف ألوانها، وألسنتها، وعقائدها، ذلك بأن الإسلام، بهذا المستوى، وبهذا الفهم، إنما ميدانه الأساسي هو العقل والقلب، وهما الموهبتان الطبيعيتان اللتان يشترك فيهما، كل الناس، من حيث هم ناس..

بهذا يحل في القلب السلام، وفي المجتمع السلام، وتلتحق الأرض بأسباب السماء، ويحل فيها خليفة الله على العوالم كلّها، فيملؤها عدلاً، وقسطاً، كما ملئت جوراً، وظلماً!!