الثورة
الثورة ، في معناها العام ، هي الحركة ، الحسية والمعنوية ، من أجل التغيير .. وقد لازم العنف هذه الحركة في جميع أطوار نشوء المجتمع البشري .. و ذلك لأن المجتمع البشري قد نشأ في الغابة .. وكان قانونه قانون الغابة ، الذي لا نزال نعيش في أخريات أيامه .. وقانون الغابة إنما يعطي الحق للقوة .. وفيه القوة تصنع الحق ، وتتقاضاه .. فهي لا تحتاج إلى قانون ينص على حقها .. ولا تحتاج إلى قضاة يقضون لها بذلك الحق .. وإنما هي ، في حد ذاتها ، القانون والقضاء .. ومنذ أن بدأت حركة المجتمع في هذا الوضع المهين بدأت الرغبة في التغيير تدب في صدور الضعاف .. ولكن هذه الرغبة لم يكن هناك سبيل إلى إبدائها .. وكانت كلما بدت تجد من العنف ما يضطرها إلى الإختفاء ، وما يكبتها كبتاً .. و قد أصبح الضعاف ، وهم فريسة القوي ، يحتالون للتغيير احتيالاً ، بالمراوغة وبالمداهنة ، وبالتملق ، في أغلب الأحيان ، إذ تعييهم القدرة على المناجزة .. ثم هم ، حيث وجدوا للمناجزة سبيلاً ، ناجزوا ..
وبين الأقوياء ، فيما بينهم ، ثورات عنف ، تتخذ صور الحروب ، لأنها نزاع على السلطة ، أيهم يملك ، وأيهم يسود .. وقد ربى هذا العنف العنيف أفراد المجتمع البشري ، عبر التاريخ ، تربية لم يكن منها بد .. بل أنه ، على التحقيق ، ما كان للقيم البشرية أن تمخض من المستوى الحيواني إلا بفضل الله ، ثم بفضل هذا العنف ... ولقد تصور بعض المفكرين الإجتماعيين أن المجتمع إنما نشأ في صورة شركة تعاقد الناس على إقامتها ، وأسهم كل فرد من أفراد المجتمع بسهم من حريته ليكون رأسمال الشركة. هذه الصورة ، في جملتها ، مقبولة .. وفي تفصيلها نظر .. وهذا النظر لم يكن غائباً على المفكرين الإجتماعيين هؤلاء ، ولكنهم أرادوا أن يبسطوا المسألة لتجد طريقها إلى الأذهان .. النظر في التفصيل يظهر أن الضعاف لم ينزلوا عن حريتهم في الإختيار وإنما صودرت حرياتهم بتسلط الأقوياء عليهم ومن هذه البداية ، الموغلة في البدائية ، بدأت سلسلات الحروب ، وسلسلات الثورات .. وكانت الحروب سابقة للثورات .. والفرق بين الثورة والحرب: أن الحرب صراع بين الأقوياء على امتلاك الضعاف ، هذا في أغلب صورها ، والثورة انتقاض من الضعاف على الأقوياء لاسترداد الحقوق والامتيازات التي استولى عليها الأقوياء ، ورفضوا أن يتنازلوا عنها .. ومعلوم أن الطبيعة البشرية فيها الشح ، والحرص ، ومنع ما تملك ، ولذلك فقد كان الأقوياء يواجهون حركات الضعاف بالكبت العنيف ، مما انتهى بأغلب الثورات إلى الهزيمة ، والتصفية ، والوقيعة بزعمائها .. وهذا ، في حد ذاته ، أكسب الضعاف خبرة ، ومرانة على التنظيم ، وحذراً في التنفيذ ، وعنفاً عنيفاً صحب الفشل ، وصحب النجاح .. حتى لقد تعدى هذا العنف العنيف أعداء الثورات إلى أبنائها .. ولقد أصبح معروفاً عن الثورات أنها ، حين تنتصر على خصومها تأكل أبناءها.
وفي أيامنا الأخيرة هذه أكبر المفلسفين لثورات العنف كارل ماركس .. فكارل ماركس أبو الإشتراكية المطبقة في العالم اليوم ، سواء أكانت سوفيتية ، أم صينية ، أم في أيٍ من الدول التي تسير في فلك أيٍ من هاتين الدولتين .. وهو قد فلسف العنف ، ورفض التطور الوئيد ، الذي يدعو إلى التغيير عن طريق القوانين .. فلم يكن كارل ماركس أول داعية إشتراكي ، وإنما وجد معاصر له وسابق عليه بقليل ، هو روبرت أوين ، الصانع الإنجليزي ، الثري ، المحسن .. فقد كان روبرت أوين هذا أول داعية للإشتراكية الحديثة .. وكان ذلك عام 1820 .. و كان روبرت أوين يؤمن بإمكان تحقيق التحسين الإجتماعي ، والإقتصادي ، عن طريق الوسائل الإختيارية والدستورية الوئيدة ، والمستمرة ، التي تجنب الشعوب الشرور التي تسير في ركاب التغييرات الثورية العنيفة ، وبخاصة السيئة الإعداد منها .. وحين كان اصطلاح (الإشتراكية) متداولا في بريطانيا ، بفضل روبرت أوين هذا ، كانت كلمة (الشيوعية) متداولة في فرنسا .. وكلمة (الشيوعية) هذه مشتقة من كلمة لاتينية معناها (عام) أو (مملوك للجميع) .. ولقد استخدمت في أول الأمر حوالي عام 1835 .. بواسطة الجمعيات الثورية السرية الفرنسية ، التي كانت ترمي إلى قلب الطبقة الوسطى بالعنف ، ثم السيطرة على فرنسا بهدف إنشاء إقتصاد يكون فيه جميع المتاع المنتج مملوكاً للشعب وتكون فيه طبقة العمال هي العنصر الحاكم ..
ودخل كارل ماركس في الصورة ، وأخذ يدرس ، ويرصد ، ويطور أفكاره على أساس النظريات ، والتطبيقات الإشتراكية ، والشيوعية المختلفة .. وكانت دراسته هذه في بريطانيا .. وكان يرفض أفكار روبرت أوين ، ويزري بها ، ويصفها بالمثالية .. ويقرر ، في وضوح ، أنك لا تستطيع أن تقنع من اغتصب حقك بالتخلي لك عنه بالوسائل السلمية .. ولذلك فقد فضل اصطلاح الشيوعية ، واختاره ليصف به أفكاره ، لأن هذا الإصطلاح قد كان مرتبطاً بفكرة تغيير المجتمع بالعنف .. وكان هذا هو رأي كارل ماركس أيضاً .. وكان ماركس يقيم مذهبه على أربعة مبادئ:ـ
1ـ مجرى التاريخ تتحكم فيه القوى الإقتصادية.
2ـ التاريخ ما هو الإ سجل لحرب الطبقات.
3ـ الحكومة ما هي الإ أداة تستخدمها طبقة في إضطهاد طبقة أخرى.
4 ـ العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع.
وعلى هذه المبادئ ، ووفاءً بها ، ظل ماركس ، منذ كتاباته الأولى ، يهاجم بإلحاح التجارب الإشتراكية ، كالتي كان يرعاها روبرت أوين ، ويصفها بأنها غير علمية ، وغير واقعية ، لأن التاريخ كما هو واضح في رأيه ، قد سار على قوانين عامة قاسية ، وأن تغييراً اجتماعياً جوهرياً بغير طريق القوة والعنف لا يمكن أن يتم .. ولهذا فقد سخر بإعتقاد أوين وغيره من الإشتراكيين بإمكان إصلاح إجتماعي عن طريق الزمالة ، والتعاون ، والتطور الوئيد .. وكان يسمي عملهم هذا بالإشتراكية: "المثلى" ويهتم كثيراً بالتفريق بينها وبين مذهبه هو ، ويسمي مذهبه الإشتراكية "العلمية" أو "الشيوعية" ..
وقد توصل كارل ماركس إلى رأيه هذا عن طريق ملاحظة تطور المجتمع البشري ، وهو يخرج من الغابة إلى المدينة .. وملاحظته ذكية ، ما في ذلك ريب ، ولكنها خاطئة أيضاً حين ظنت أن مستقبل البشرية يمكن التنبؤ به من رصد ماضيها ، واستقراء تطور هذا الماضي .. وذهل ماركس عن حقيقة كبرى ، تلك الحقيقة هي أن حاضر المجتمع البشري ، في أي لحظة من لحظات تطوره ، إنما يصنعه تفاعل وتلاقح بين قوى المستقبل ، وقوى الماضي .. هذه القوى التي تجئ من المستقبل ، هي التي تعين على تطوير الماضي ، وتحفز وتوجه ، خطوات التغيير فيه .. هذه القوى توفر على تقريرها الدين ، ذلك الدين الذي رفضه كارل ماركس ، رفضاً تاماً ، ومن ههنا تورطت أفكاره في الخطأ . لقد كان روبرت أوين يحلم بعهد لم يكن وقته قد حان ، يومئذ ، ومن ههنا فقد كان "مثالياً" كما وصفه ماركس .. .. وكان ماركس يترجم عن وقته أكثر مما يفعل روبرت أوين .. فقد كان حكم الوقت يومئذ يتطلب القوة والعنف معاً .. ولولا أن العنف ليس أصلاً في العلاقات الإنسانية ، وإنما هو مرحلة يتخلص منها الإنسان كلما بعد عهده بعهد الغابة ، و كلما نزل منازل القرب من عهد المدينة ، لولا هذا لكان كارل ماركس محقاً كل الإحقاق .. ولقد أصبح تفكير كارل ماركس بسبب هذا الخطأ الكبير ، تفكيرا مرحلياً .. وهو اليوم على عهدنا يمثل حقبة ضرورية في مراحل تطور المجتمع البشري ولكنه قد أصبح ، منذ اليوم عقبة تتطلب ان تزاح عن طريق البشرية لكي تدخل عهدها الجديد .. إن القوة أصل ، ولكن العنف ليس بأصل .. ولا بد من إخراجه من معادلة التغيير التي صاغها كارل ماركس في النقطة الرابعة من نقط مبادئه التي ذكرناها ، تلك النقطة التي تقول: "العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع" ولقد ذكرنا في كتابنا باسم: "لا إله إلا الله" الذي صدرت الطبعة الأولى منه يوم 25 مايو 1969 ، في مقدمته ، تحت الكلام عن "ثورة أكتوبر" ما يأتي: ـ (إن ثورة أكتوير ثورة فريدة في التاريخ ، وهي لم تجد تقويمها الصحيح إلى الآن ، لأنها لا تزال قريبة عهد ، فلم تدخل التاريخ بالقدر الكافي الذي يجعل تقويمها تقويماً علمياً ممكناً .. ولقد يكفي أن يقال الآن أنها ثورة فريدة في التاريخ المعاصر تمكن بها شعب أعزل من إسقاط نظام عسكري استأثر بالسلطة مدى ست سنوات .. ثم كانت ثورة بيضاء ، لم ترق فيها الدماء .. وكانت ، إلى ذلك ، ثورة بغير قائد ، ولا مخطط ، وبغير خطباء ، ولا محمسين للجماهير .. وتم فيها إجماع الشعب السوداني ، رجالاً ونساء ، وأطفالاً ، بشكل منقطع النظير ، فلكأنها ثورة كل فرد من أفراد الشعب تهمه بصورة مباشرة ، وشخصية .. ولقد كانت قوة هذه الثورة في قوة الإجماع الذي قيضه الله لها.
ولقد كان من جراء قوة هذا الإجماع ، ومن فجاءة ظهوره ، أن انشل تفكير العساكر فلم يلجأوا إلى استعمال السلاح ، مما قد يفشل الثورة ، أو يجعلها ، إن نجحت ، تنجح على أشلاء ضحايا كثيرين.
وعندنا أن أكبر قيمة لثورة أكتوبر .. أن الشعب السوداني استطاع بها أن يدلل على خطأ أساسي في التفكير الماركسي ، مما ورد في عبارة من أهم عبارات كارل ماركس ، في فلسفته ، فيما عرف "بالمادية التاريخية" وتلك العبارة هي قوله: "العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع" فما برهنت عليه ثورة أكتوبر هو أن القوة ضرورية للتغيير ، ولكن العنف ليس ضرورياً .. بل أن القوة المستحصدة ، التامة تلغي العنف تماماً .. فصاحبها في غنى عن استخدام العنف وخصمها مصروف عن استخدام العنف بما يظهر له من عدم جدواه .. وحين تنفصل القوة عن العنف يفتح الباب للبشرية لتفهم معنى جديداً من معاني القوة ، وتلك هي القوة التي تقوم على وحدة الفكر ، ووحدة الشعور ، بين الناس ، بعد أن لبثت البشرية في طوال الحقب لا تعرف من القوة إلا ما يقوم على قوة الساعد وقوة البأس .. و مفهوم القوة بهذا المعنى الأخير ، هو تراث البشرية من عهد الغابة .. عهد الأنياب الزرق ، والمخالب الحمر .. وهذا المفهوم هو الذي ضلل كارل ماركس ، فاعتقد أن مستقبل البشرية سيكون صورة لامتداد ماضيها ، و غاب عنه أن العنف سيفارق القوة ، بالضرورة ، في مستقبل تطور الإنسان ، حين يصبح الحق هو القوة .
ومهما يكن من الأمر ، فإن شعب السودان ، في ثورة أكتوبر ، قد كان قوياً بوحدته العاطفية الرائعة ، قوة أغنته هو عن استخدام العنف ، و شلت يد خصومه عن استخدام العنف .. و تم بذلك إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي .. إذ قد تم التغيير بالقوة بغير العنف .. وهذا ، في حد ذاته عمل عظيم و جليل ..
وثورة أكتوبر ثورة لم تكتمل بعد .. وإنما هي تقع في مرحلتين نفذت منهما المرحلة الأولى ولا تزال المرحلة الثانية تنتظر ميقاتها . المرحلة الأولى من ثورة أكتوبر كانت مرحلة العاطفة المتسامية ، التي جمعت الشعب على إرادة التغيير ، وكراهية الفساد ، ولكنها لم تكن تملك ، مع إرادة التغيير ، فكرة التغيير حتى تستطيع أن تبني الصلاح ، بعد إزالة الفساد .. من أجل ذلك إنفرط عقد الوحدة بعيد إزالة الفساد ، و أمكن للأحزاب السلفية أن تفرق الشعب ، وأن تضلل سعيه ، حتى وأدت أهداف ثورة أكتوبر تحت ركام من الرماد ، مع مضي الزمن .. وما كان للأحزاب السلفية أن تبلغ ما أرادت لولا أن الثوار قد بدا لهم أن مهمتهم قد أنجزت بمجرد زوال الحكم العسكري ، وأن وحدة صفهم قد استنفدت أغراضها.
والمرحلة الثانية من ثورة أكتوبر هي مرحلة الفكر المستحصد ، العاصف ، الذي يتسامى بإرادة التغيير إلى المستوى الذي يملك معه المعرفة بطريقة التغيير .. وهذه تعني هدم الفساد القائم ، ثم بناء الصلاح مكان الفساد .. وهي ما نسميه بالثورة الفكرية .. فإن ثورة أكتوبر لم تمت ، ولا تزال نارها تتضرم ، ولكن غطى عليها ركام من الرماد .. فنحن نريد أن تتولى رياح الفكر العاصف بعثرة هذا الرماد .. حتى يتسعر ضرام أكتوبر من جديد ، فتحرق نارها الفساد ، ويهدي نورها خطوات الصلاح .. وليس عندنا من سبيل إلى هذه الثورة الفكرية العاصفة غير بعث الكلمة: " لا إله إلا الله" جديدة ، دافئة ، خلاقة في صدور النساء ، والرجال ، كما كانت أول العهد بها ، في القرن السابع الميلادي) .. هذا ما جاء في ذلك الكتاب في محاولة لتخليص ثورة أكتوبر من العنف.