الخلاص إنما يكون من الكبت
لقد سمي المسيح (بالمخلّص) والخلاص إنما يكون من عقابيل الخطيئة الموروثة ـ خطيئة آدم ـ التي بسببها كان الإهباط .. واسم (المخلّص) هذا إنما هو في حق عيسى الأخير بالأصالة ، في حين لم يكن في حق عيسى الأول إلا بالحوالة .. والخلاص إنما يكون بالعلم المستنبط من القرآن ، والذي به يكون فض الكبت .. بالكبت ارتقت الحياة ، ودخلت فيها القيمة ـ قيمة العقل ، أو قل قيمة الحرية ـ وبغير فض الكبت لا تكمل ، أو قل لا يطرد تطورها !! فلكأن السير في تحقيق الحرية الفردية المطلقة ، خطوتان ، خطوة في الكبت ، وخطوة أخرى في فض الكبت ..
إن الزمان قد استدار استدارة كاملة كهيئته يوم خلق الله الإنسان دودة بين الماء والطين .. ولقد عادت ، مرة أخرى وبصورة حاسمة ، صورة التحدي الذي واجهه في الماضي ، حيث كان أمام إحدى خطتين: إما أن يتواءم مع بيئته ، أو أن ينقرض .. ولقد هداه ذلك التحدي ، أن مخض فيه قوى العقل ، والحيلة ، إلى وسيلتي العلم المادي ، والدين ، وفي آن معا .. ولقد أسلم العلم المادي اليوم القياد للدين ، بعد أن بلغ نهاية مجاله الذي حدده لنفسه: وهو البحث عن خصائص المادة .. إن العلم التجريبي ، بحكم وظيفته ، وبحكم المجال الذي يعمل فيه ، لا يتعدى دراسة الخصائص إلى الكنه .. إن البحث عن كنه المادة إنما هو مجال الدين ، ولكن لا بد لنا أن نشير إلى أن الدين ، في مستواه العقيدي ، لا يبلغ بالناس ، في هذا المجال ، مبلغا ذا غناء .. إنه قد استنفد غرضه ، هو الآخر ، ولم يعد قادرا على استيعاب ، ولا على توجيه ، طاقات الحياة الحاضرة .. ولم يبق للتحدي سوى الدين ، في مستواه العلمي .. وهذا هو ما به يجيء المسيح ..
إن أول صور الخلاص التي يجيء بها المسيح ، إنما هي التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة ، وذلك بما يجيء به من علم من القرآن به يقوم القانون الدستوري ، لأول مرة ، في التاريخ ..
والإشارة الواردة في نبوءة المعصوم حين قال (يكسر الصليب) إنما تعني ، فيما تعني ، حل معضلة الفرد ، والجماعة التي أعيت التفكير الفلسفي ، كما تعني أيضا ، فض التعارض بين العقل الباطن والعقل الواعي ، وهذا إنما يمثل أعتى تحديات هذا العصر .. وكل أولئك لا يكون إلا بما يجيء من علم عن حقيقة البيئة ، يرثه الناس من بعده ، فتسلم دواخلهم ، وتنطلق طاقاتهم الحبيسة ، نتيجة لتحررهم من الخوف ، ومن العقد .. ولذلك فإن فض الكبت إنما يعني التسامي فوق قوانين الجماعة ، بعدم الحاجة للتورط تحت طائلتها ، لا برفع القيد عن الممارسة ، كما ظن الغربيون ، حين يتحدثون عن تحرير الغرائز .. فالتحرير إنما هو تحرير للغريزة من الخوف ، ومن الكبت ، الذي لواها ، وتحرير للبنية من آثار الكبت الذي شوهها ، وقبضها ، وحجّرها .. فهذا التحرير إنما هو اتجاه في السير الرأسي يبقي على قوانين الجماعة ، ويطلق ، في ذات الوقت ، طاقات العقل ، والقلب والجسد ، وما هو بالسير الذي يرتد بالحياة إلى حيث فارق الإنسان الحيوان في أول ظهور العقل البشري ..
لقد تجسدت في عصرنا الحاضر ، الحاجة لقض الكبت بصورة لم يسبق لها مثيل ، ولقد أخذت الحياة الإنسانية ، على ظهر هذا الكوكب ، في الارتداد إلى مستويات خلّفها الإنسان منذ زمن بعيد .. فالثورة الجنسية ، وثورة الرفض ، إنما تمثلان هذه الردة ، حيث بدأ الرافضون يستبيحون فيما بينهم ، من العلاقات ما ظلت البشرية حفيظة عليه منذ فجر النشأة .. ولقد دفعت في الحفاظ عليه الكثير من دمها ، ومن عرقها ، ومن دموعها .. أكثر من ذلك !! فقد اتجهت بعض البرلمانات الغربية إلى النظر في مشاريع قوانين لإباحة ما اجتمعت البشرية ، على اختلاف نحلها ، وألوانها ، وعقائدها ، على تحريمه ، فأعلنت بذلك عن إفلاسها وعن أفول شمس حضارتها ، بأعلى صوت ..
هذا ما فهمته الحضارة الغربية لمعنى فض الكبت ، وهو معنى ظاهر الخطل ، والبطلان ، إذ هو الاسترسال في غير مسئولية أخلاقية .. والممارسة للّذة ، بغير مسئولية ، ليست حرية وإنما هي فوضى .. وما يكون للفوضى أن تثمر سلاما ، فأنت لا تجني من الشوك العنب !! والمسيح إنما سيجيء ليعطي النهج البديل ، في فض الكبت ، لهذا النهج الخاطئ ، حيث يبقي على قوانين الجماعة في أكمل صورة ، ويطلق قوى الفكر في تحرير البنية مما أورثه إياها الكبت من تشويه على النحو الذي ذكرنا .. وهو إنما يطلق قوى الفكر بتأديب العقل بأدب شريعة القرآن ، وأدب حقيقته ، وكل ذلك يقوم عليه نهج السنّة المطهرة ..