إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

المسيح

الخلاص إنما يكون من الكبت


لقد سمي المسيح (بالمخلّص) والخلاص إنما يكون من عقابيل الخطيئة الموروثة ـ خطيئة آدم ـ التي بسببها كان الإهباط .. واسم (المخلّص) هذا إنما هو في حق عيسى الأخير بالأصالة ، في حين لم يكن في حق عيسى الأول إلا بالحوالة .. والخلاص إنما يكون بالعلم المستنبط من القرآن ، والذي به يكون فض الكبت .. بالكبت ارتقت الحياة ، ودخلت فيها القيمة ـ قيمة العقل ، أو قل قيمة الحرية ـ وبغير فض الكبت لا تكمل ، أو قل لا يطرد تطورها !! فلكأن السير في تحقيق الحرية الفردية المطلقة ، خطوتان ، خطوة في الكبت ، وخطوة أخرى في فض الكبت ..
إن الزمان قد استدار استدارة كاملة كهيئته يوم خلق الله الإنسان دودة بين الماء والطين .. ولقد عادت ، مرة أخرى وبصورة حاسمة ، صورة التحدي الذي واجهه في الماضي ، حيث كان أمام إحدى خطتين: إما أن يتواءم مع بيئته ، أو أن ينقرض .. ولقد هداه ذلك التحدي ، أن مخض فيه قوى العقل ، والحيلة ، إلى وسيلتي العلم المادي ، والدين ، وفي آن معا .. ولقد أسلم العلم المادي اليوم القياد للدين ، بعد أن بلغ نهاية مجاله الذي حدده لنفسه: وهو البحث عن خصائص المادة .. إن العلم التجريبي ، بحكم وظيفته ، وبحكم المجال الذي يعمل فيه ، لا يتعدى دراسة الخصائص إلى الكنه .. إن البحث عن كنه المادة إنما هو مجال الدين ، ولكن لا بد لنا أن نشير إلى أن الدين ، في مستواه العقيدي ، لا يبلغ بالناس ، في هذا المجال ، مبلغا ذا غناء .. إنه قد استنفد غرضه ، هو الآخر ، ولم يعد قادرا على استيعاب ، ولا على توجيه ، طاقات الحياة الحاضرة .. ولم يبق للتحدي سوى الدين ، في مستواه العلمي .. وهذا هو ما به يجيء المسيح ..
إن أول صور الخلاص التي يجيء بها المسيح ، إنما هي التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة ، وذلك بما يجيء به من علم من القرآن به يقوم القانون الدستوري ، لأول مرة ، في التاريخ ..
والإشارة الواردة في نبوءة المعصوم حين قال (يكسر الصليب) إنما تعني ، فيما تعني ، حل معضلة الفرد ، والجماعة التي أعيت التفكير الفلسفي ، كما تعني أيضا ، فض التعارض بين العقل الباطن والعقل الواعي ، وهذا إنما يمثل أعتى تحديات هذا العصر .. وكل أولئك لا يكون إلا بما يجيء من علم عن حقيقة البيئة ، يرثه الناس من بعده ، فتسلم دواخلهم ، وتنطلق طاقاتهم الحبيسة ، نتيجة لتحررهم من الخوف ، ومن العقد .. ولذلك فإن فض الكبت إنما يعني التسامي فوق قوانين الجماعة ، بعدم الحاجة للتورط تحت طائلتها ، لا برفع القيد عن الممارسة ، كما ظن الغربيون ، حين يتحدثون عن تحرير الغرائز .. فالتحرير إنما هو تحرير للغريزة من الخوف ، ومن الكبت ، الذي لواها ، وتحرير للبنية من آثار الكبت الذي شوهها ، وقبضها ، وحجّرها .. فهذا التحرير إنما هو اتجاه في السير الرأسي يبقي على قوانين الجماعة ، ويطلق ، في ذات الوقت ، طاقات العقل ، والقلب والجسد ، وما هو بالسير الذي يرتد بالحياة إلى حيث فارق الإنسان الحيوان في أول ظهور العقل البشري ..
لقد تجسدت في عصرنا الحاضر ، الحاجة لقض الكبت بصورة لم يسبق لها مثيل ، ولقد أخذت الحياة الإنسانية ، على ظهر هذا الكوكب ، في الارتداد إلى مستويات خلّفها الإنسان منذ زمن بعيد .. فالثورة الجنسية ، وثورة الرفض ، إنما تمثلان هذه الردة ، حيث بدأ الرافضون يستبيحون فيما بينهم ، من العلاقات ما ظلت البشرية حفيظة عليه منذ فجر النشأة .. ولقد دفعت في الحفاظ عليه الكثير من دمها ، ومن عرقها ، ومن دموعها .. أكثر من ذلك !! فقد اتجهت بعض البرلمانات الغربية إلى النظر في مشاريع قوانين لإباحة ما اجتمعت البشرية ، على اختلاف نحلها ، وألوانها ، وعقائدها ، على تحريمه ، فأعلنت بذلك عن إفلاسها وعن أفول شمس حضارتها ، بأعلى صوت ..
هذا ما فهمته الحضارة الغربية لمعنى فض الكبت ، وهو معنى ظاهر الخطل ، والبطلان ، إذ هو الاسترسال في غير مسئولية أخلاقية .. والممارسة للّذة ، بغير مسئولية ، ليست حرية وإنما هي فوضى .. وما يكون للفوضى أن تثمر سلاما ، فأنت لا تجني من الشوك العنب !! والمسيح إنما سيجيء ليعطي النهج البديل ، في فض الكبت ، لهذا النهج الخاطئ ، حيث يبقي على قوانين الجماعة في أكمل صورة ، ويطلق قوى الفكر في تحرير البنية مما أورثه إياها الكبت من تشويه على النحو الذي ذكرنا .. وهو إنما يطلق قوى الفكر بتأديب العقل بأدب شريعة القرآن ، وأدب حقيقته ، وكل ذلك يقوم عليه نهج السنّة المطهرة ..