المجتمع العبـودي:-
الإنسان كسلان بميله.. فهو لا يرغب في العمل اليدوي، ويحاول أن يحيله إلى غيره دائما.. وهو إلى ذلك، خائف.. ويرجع خوفه إلى ظروف العنف التي احتوشته، في بيئته الطبيعية التي يعيش فيها، مما دفعه إلى الحرص، وإلى حب الجمع، و الإدخار، و الإستكثار من الطعام والحطام، وإنما من هاهنا نشأ الرق.. فالرق هو امتلاك الانسان للإنسان امتلاكا يكون له به مطلق التصرف في حياة رقيقه، لأنه من ماله.. وبالرق استطاع الإنسان حوالة عمله على غيره، كما إستطاع أن يكثر من إدخاره للطعام، والحطام.. والرق إنما هو ثمرة لغلبة الأقوياء على الضعاف.. وأكبر موارده الحروب.. فإن القبيل المغلوب يكون رجاله رقيقا للقبيل الغالب، ونساؤه سبايا، يضممن إلى حريم الغالبين، أو يستخدمن في البيوت، وفي الحقول.. ولا يزال الرق، بصورة من الصور، يلازم المجتمع البشري إلى يومنا هذا.. فهو يتقلب في صور الحيل اللطيفة، ولكنه لا ينتهي.. ومن حسن التوفيق الإلهي أن دخلت الآلة ليحال إليها العمل، بدلاً من الرقيق، وليتوفر بها الإنتاج، حتى يتم تطمين الإنسان على قوته.. فإذا وجد كسل الإنسان عن القيام بعمله مندوحته في الحوالة على الآلة، ووجد خوف الإنسان على قوته طمأنينته بوفرة الإنتـاج، فإن الطريق ينفتح على التحرير، وعلى استئصال صور المجتمعات العبودية مهما دقـت، هـذه الصور، ولطفت.. وهذا لا يكون إلا في عهد قانون الإنسان، الذي تعتبر كل العراكات البشرية التي تنزت بالدم، وتنضحت بالعرق، مقدمة طبيعية له..
المــرأة:
تحدثنا عن الرق، وكيف أنه ثمرة الحروب، والمغارات، وكيف أن الرجال يسترقون، والنساء يسبين، فيضممن إلى الرقيق، أو يضممن إلى الحريم، فظهر، من ههنا، حظ المرأة المسبية.. فما هو حظ المرأة الحـرة؟؟ أهي رقيق أيضا؟؟ أم هل هي ملكـة؟؟ إن وضع المرأة في الأسر وضع غريب حقا.. إنها ليست رقيقا، بالمعنى المفهوم عن الـرق، ولكنها ليست حـرة.. فالرقيق يكاد يعامل من وجهة نظر واحـدة، هي الشعـور بأنه مال مملوك، ضمن المال.. ولكن المرأة تعامل من وجهة نظر تنبعث من خليط من المشاعر.. فهي مملوكة، وإن اختلف نوع ملكيتها عن ملكية الرقيق.. وهي محبـوبة، وحبها يبعث على استحواذ الرجل عليـها.. وهي ماعون الولـد، والحرص على انقاء النسب يسوق إلى تشديد الرقابة عليها.. وهي ضعيفة، في مجتمع الفضيلة فيه للقوة.. وهي متهمة، ومظنة خطيئة، فلا ترى لها عفة مرعية إلا عفة يسهر عليها الرجل.. يقول شاعرهم في ذلك:-
أسـكين، ما ماء الفــرات وطيبه مني على ظمأ وبعد شــراب
بألـذ منـك، وان نـأيت، وقلمـا ترعى النســاء أمانة الغيـاب
من هذه المواقف المختلطة، ومن مشاعر غيرها، تدخل في بابها، جاءت معاملة المرأة، وضرب عليها الحجاب، وعوملت معاملة القاصر، المتهم.. ونزع أمرها من يدها، وجعل إلى أبيها، أو أخيها، أو وليها من أقاربها الأدنين، أو قد يجعل لمطلق رجل من العشيرة، أو للحاكم، أو لزوجها.. ولا يكاد يختلف حظ المرأة في بلد، دون بلد، إلا اختلافا طفيفا.. وعندنا في الجزيرة العربية، عندما أشرقت عليها شمس الإسلام، كانت الأنثى تعامل شر معاملة.. وكان التخلص منها يعتبر مكرمة من المكارم، وكانت، من أجل ذلك، تدفن حية.. ولقد جاء الإسلام بتقريعهم على هذا الصنيع الشنيع.. قال تعالى: ((وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به.. أيمسكه على هون؟؟ أم يدسه في التراب؟؟ ألا ساء ما يحكمون!!)).. وقال تعالى، في موضع آخر: ((وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتـلت؟؟)) وهي إنما كانت توأد حية لأمر من أمرين، أو لكليهما معا: إما خوف المضايقة في الرزق الضيق، أو خوف العار.. فقد كان المجتمع الجاهلي، في الجزيرة العربية، يعيش في ضنك شديد، وفي جوع عضوض.. وكان مجتمعا لا يرعى تنظيمه قانون، فهو يمثل قانون الغابة، في أبشع صوره، حتى أنهم قالوا: ((من غلب سلب)).. وكانت الأنثى، في مجتمعهم هـذا، تكلفهم المشقة، والجهد الجهيد، في إعالتها، وفي حمايتها من غارات المغيرين، من أشقياء القبائل الأخرى.. ومع كل أولئك فقد كانت معاملتها كرقيق مملوك أظهر صيغ معاملاتها.. فكان الجاهليون يتزوجون العشر، والعشرين زوجة.. يستغلون النساء، يستولدونهن، ويستخدمونهن في بعض أعمالهم.. وهم عن طريق الزواج، يمارسون الرق.. ولا تزال صور بشعة، من هذا الإسترقاق عن طريق الزواج، تمارس في المجتمعات المتخلفة المعاصرة.. ونحـن، في بعض أجزاء بلادنا، نعرفها.. وعندي أن التسلط على المرأة، حين يكون معتدلا، ومستهدفا حماية عرضها، وصون عفتها بضرب الحجاب المعتدل عليها، يكون أمره مقبولا بمقتضى حكم الوقت.. ولكن هناك كثيرا من التسلط عليها، ممن لا يهتمون بصونها، ولا بعفـتها.. فيرجع الأمر إلى الملكية، و الإسترقاق.. ومهما يكن من الأمر، فإن الإعتدال في معاملة النساء أمر نادر.. فالحجاب الذي يضربه المسلمون اليوم على نسائهم، في بعض البلاد الإسلامية، فيه شطط يمليه سوء الظن، والغيرة المتهمة، وحب تسلط القوي على الضعيف.. فقد جاءت الشريعة الإسلامية السلفية بضرب من الحجاب، فيه الإعتدال المطلوب، والقصد الحميد، ولكن الناس يتجاوزونه، بدوافع مما أسلفنا ذكره..
ثم ان الإسلام ورث هذه الأوضاع البشعة التي كانت تجري في مجتمع الجاهلية.. فحسم المشتط منها حسما.. ولكنه لم يكن ليتخلص من سائرها، فينهض بالمرأة إلى المستوى الذي يريده لها في أصوله، وما ينبغي له أن يتخلص، وما يستطيع.. ذلك بأن حكمة التشريع تقتضي التـدريج.. فإن الناس لا يعيشون في الفراغ.. والمجتمعات لا تقفز عبر الفضاء، وإنما هي تتطور تطورا وئيدا، وعلى مكث.. فوجب على التشريع إذن أن يأخذ في اعتباره طاقة المجتمع على التطور، وحاجته الراهنة فيجدد قديمه، ويـرسـم خط تطـوره، ويحفـزه على السير في المراقي.. وهذا ما فعله التشريع الإسلامي.. فإنه قد احتفظ بتعدد الزوجات، ولكنه حصره في أربـع، مراعيا، في ذلك، أمرين حكيمين. هما إعزاز المرأة، وحكم الوقت.. فأما حكم الوقت فإنه قد كانت المرأة تعيش في المستوى الذي أسلفنا ذكره، وما كانت إذن لتستطيع أن تمارس حقها في المساواة، بين عشية وضحاها.. وإنما كانت لا بد لها من فترة إنتقال، تتهيأ خلالها لتنزل منزلة عزتها، وكرامتها، كاملة، غير منقوصة.. ومن حكم الوقت أيضا أن كان عدد النساء أكبر من عدد الرجال، وذلك لما تأكل الحروب منهم، فرأى الشارع الحكيم: أنه أن يكن للمرأة ربع رجل، يعفها، ويصونها، ويغذوها، خير من أن تكون متعنسة، بغير رجل.. وكذلك سمح بالتعدد إلى أربع.. فقال: ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء، مثنى، وثلاث، ورباع.. فإن خفتم ألا تعدلوا، فواحدة)) وقال، في موضع آخر: ((وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا، أو إعراضا، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا.. والصلح خير.. وأحضرت الأنفس الشح.. وإن تحسنوا، وتتقوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرا * ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء، ولو حرصتم.. فلا تميلوا، كل الميل، فتذروها كالمعلقة.. وإن تصلحوا، وتتقوا، فإن الله كان غفورا رحيما)).. فهو ليصل إلى شريعته هذه المتمشية مع حكم الوقت، تنزل عن أصله، وتجاوز عن العدل التام، وسمح ببعض الميل، فقال: ((فلا تميلوا، كل الميل..)) مع أنه، لولا حكم الوقت، لم يكن ليسمح إلا بالعدل التام.. وهو، في أصول الدين، لا يتجاوز عن بعض الميـل.. وفي أمر المال فإنه أشرك الأنثى في الميراث، ولكنه جعلها على النصف من الرجل، فقال،: ((للذكر مثل حظ الأنثيين)).. وأدخلها في عدالة الشهادة، ولكنه جعلها على النصف من الرجل أيضا، فقال: ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم.. فإن لم يكونا رجلين، فرجل، وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)).. إن هذه الشريعة السلفية عادلة، وحكيمة، إذا اعتبر حكم الوقت.. ولكن، يجب أن يكون واضحا، فإنها ليست الكلمة الأخيرة للدين.. وإنما هي تنظيم للمرحلة، يتهيأ بها، وخلال وقتها، المجتمع، برجاله ونسائه، لدخول عهد شريعة الإنسان، ويتخلص من عقابيل شريعة الغابة، خلاصا يكاد يكون تاماً.. ويومئذ تعامل المرأة، في المجتمع، كإنسان.. لا كأنثى.. ذلك هو يوم عزها المدخر لها في أصول الدين..
عـودة إلى قانـون الإنسان:-
قلنا: إن الإنسان لم يجيء بعد، وإنما جاء طلائعه في صور أنبياء الحقيقة.. فالإنسان تطور على إبن آدم، (البشر).. وقلنا: إن صور المملكة تتفاوت في شكل هرمي، قمته الإنسان، يليه، من أسفله البشر (بنو آدم)، يليهم، من أسفلهم، الحيوان.. وهكـذا إلى أن نصل إلى القاعدة.. وقد أسلفنا تفصيل هذه الصورة، في جملتها.. والإسلام، في أصوله، يحوي شريعة الإنسان.. ولكنه، في فروعه، أعني في شريعته السلفية، لا يزال يحوي بعض السمات الملطفة من قانون الغابة.. وإنما جاءه هذا التخلف (إذا ما قورن بالأصول) من حكم الوقت، حين التشريع.. وقد بينا الحكمة في ذلك..
كان محمد هو وحده الإنسان، في سائر أمته.. وكانت له شريعة خاصة، قامت على أصول الإسلام.. وكانت شريعة أمته تقوم على الفروع.. ولقد نزلت الأصول في مكة، فيما هو معروف عندنا بالآيات، والسور، المكية.. وقد استمر نزولها خلال ثلاث عشرة سنة.. فلم يستجب لها الجاهليون.. فظهر، ظهوراً عمليا، أنها فوق طاقتهم.. فسحبت من التداول، في مستوى التشريع.. ونزل التنزيل على حكم الوقت.. وجاءت آيات الفروع.. وهي ما تعرف عندنا بالآيات المدنية، وبالسور المدنية.. وفي قمة الأصول آيات التكليف الفردي.. والتكليف الفردي يعني العبودية.. فالعبودية، في مستواها الرفيع، لا تكون إلا فردية، ذلك بأنها هي مواجهة العبد للرب، وتأدب العبد مع الرب، بالأدب اللائق بالعبودية نحو الربوبية.. وأمثلة ذلك في القرآن كثيرة.. منها قوله تعالى: ((إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبـداً * لقد أحصاهم، وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فـرداً)).. ومنها قوله تعالى: ((ولقد جئتمونا فرادى، كما خلقناكم أول مرة)).. ومنها قوله تعالى: ((ونرثه ما يقول، ويأتينا فردا)).. وتأدب العبودية مع الربوبية إنما يقوم على العلم بالحقيقة.. والحقيقة، في هذا المستوى، هي معرفة أسرار الألوهية.. وتلك معرفة ذوقية.. وهي، من ثم، دائما فردية.. ولما كان النبي صاحب شريعة فردية، من حيث أنه نبي، فقد جاء تكليفه في القمة.. فهو، وإن كانت الصلاة المكتوبة مفروضة عليه، وعلى أمته، فهو يؤديها كما يؤدونها، من حيث الهيئة، إلا أنه قد كان مخصوصا بصلاة الليل.. فهي فرض عليه، حين لم تجيء في حق أمته إلا عن طريق الندب إلى التأسي به.. قال تعالى: ((يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا * نصفه، أو انقص منه قليلا * أو زد عليه.. ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطأ، وأقوم قيلا..)) وهو قد كان يؤدي الصيام المكتوب، من حيث الهيئة، كما تؤديه أمته.. وكان، في صيام التطوع، يواصل الصيام، بمعنى أنه قد يصوم، صوما متصلا ثلاثة أيام، وليلتين، من غير أن يفطر أثناءها.. فلما أراد أصحابه أن يقلدوه في ذلك نهاهم، وأمرهم بالصيام الشرعي المكتوب عليهم.. فلما قالوا: ((فإنا نراك تواصل يا رسول الله))، قال: ((إني لست كأحدكم.. فإني أبيت عند ربي، يطعمني، ويسقيني..)) وهو لم يكن، بالطبع، ليسقى، ويطعم، الشراب، والطعام، الماديين، وإنما هو اليقين بالله.. فهو لم يكن، من حيث اليقين، كأحدهم.. وكذلك اختلف عنهم.. فأركان الإسلام الخمسة، عنده، تختلف عنها، عندهم، وإن اتفقت في ظاهر الصورة.. وما ذاك إلا لمكان معرفته بالله.. وفي المال – الزكـاة - والمال هو المحك دائما، الذي في التكليف بإخراجه تظهر خبايا النفوس، فقد كان يختلف عنهم إختلافاً أساسيا.. فهو قد كان ركنه التعبدي، من حيث المال، في مستوى آية: ((ويسألونك ماذا ينفقون!! قل: العفو!!)).. وهو قد فسر ((العفـو)) بكـل ما زاد عـن حاجـته الحاضرة.. فهـو، من ثـم، لم يكن ليدخر رزق اليوم لغـد..
ثم إن تكليف الأمة قد تنزل من هذا المستوى إلى مستوى يطيقونه.. ولقد جاء تكليفهم في الزكاة في مستوى آية: ((خذ من أموالهم صدقة، تطهرهم، وتزكيهم بها.. وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم..)).. واعتبرت هذه الآية، في حق شريعة الأمة، ناسخة لتلك.. قامت على هذه الشريعة الجماعية.. وظلت تلك سنداً، وعمدة، لشريعة النبي الفردية، ولا حظ للأمة فيها، إلا حظاً يجيء عن طريق الندب، والتأسي، ومحاولة إتقان اتباع النبي، لمن استطاع منهم..