نشأة الإسـلام الخـاص:
في حين أن الإرادة الإلهية القاهرة هي دين الإسلام العام، فإن الرضا الإلهي اللطيف هو دين الإسلام الخاص.. فإنه لمن دقائق العلم بالله أنه أراد شيئا ولم يرضه.. فهو قد أراد الشر، ولكنه لا يرضى إلا الخير.. قال تعالى في ذلك: ((إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم)).. فهو يقول: ((إن تكفروا فإن الله غني عنكم))، ومعنى هذا أنكم لم تكفروا مغالبة له، وإنما كفرتم بإرادته.. وهذا يؤخذ من معنى الاسم ((الغني)).. فإن ((الغني)) هو الذي لا يغلب.. فهو في هذه يريد الشر، ولكنه لا يرضى إلا الخير.. والله يريد بذاته، ويرضى بذاته، في تنزل، ولكن الرضا في تنزله أقرب إلى الذات من الإرادة في تنزلها.. والذات وحدة مطلقة.. وهي، في ذلك، خير مطلق.. فمنزلة الرضا منزلة خير، الشر فيها غايب.. ومنزلة الإرادة منزلة خير الشر فيها أكثر منه في منزلة الرضا.. وقد أرسل الله الرسل ليعينوا العقول لتخرج مما أراده الله.. إلى ما يرضاه الله.. فإن العقول هي مصافي الرضا من الإرادة.. ويمكن تشبيه الإرادة بماء المحيطات الملح، ويمكن تشبيه الرضا بماء الأنهار العذب.. وتوسط حرارة الشمس في استخراج الماء العذب من الماء الملح كتوسط العقول البشرية في إستخراج الرضا من الإرادة. وإنما شرع الحرام والحلال ليروض العقول على القدرة على التمييز بين الخير والشر - بين ما يريده الله وما يرضاه.
نشـأة المجتمـع:
الإختلاف بين دين الإسلام العام ودين الإسلام الخاص إختلاف مقدار، ومن أجل ذلك فإن عقيدة التوحيد قد جاءت متأخرة عن بداية ظهور دين الإسلام الخاص.. لقد كانت بداية الظهور بظهور شريعة الحرام والحلال، في مستوياتها البسيطة.. ثم، بعد تطور طويل، ظهرت عقيدة التوحيد من عقائد التعدد، وبذلك ظهرت الكلمة ((لا إله إلا الله)).. وبظهورها بدأت ديانات التوحيد، في بعض بقاع الأرض، جنبا إلى جنب مع بقايا ديانات التعدد.. وأول من جاء بكلمة التوحيد آدم، أبو البشر المعاصرين.. ويمكن أن يستفاد هذا الفهم من التجربة الفردية للعباد المجودين.. وفي قصة إبراهيم الخليل نموذج طيب لهذا الترقي إلى مرتبة التوحيد.. يقول تعالى، في حكاية ذلك: ((فلما جن عليه الليل رأى كوكبا.. قال: هذا ربي.. فلما أفل قال: لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا، قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي، هذا أكبر.. فلما أفلت قال: يا قومي!! إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات، والأرض، حنيفا.. وما أنا من المشركين *)).. هذه صورة للانتقال في العقيدة من الخلق إلى الخالق.. ومن التعدد إلى التوحيد.. جاءت على لسان رجل هو أكبر الأنبياء، ما خلا نبينا.. وهناك صورة تحكى على لسانه لتدل على اطراد نموه في العقيدة، في داخل التوحيد، يترقى من الإيمان إلى الإيقان.. قال تعالى فيها: ((وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى!! قال: أولم تؤمن؟؟ قال: بلى!! ولكن ليطمئن قلبي.. قال: فخذ أربعة من الطير، فصرهن إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن، يأتينك سعيا.. واعلم أن الله عزيز حكيم)).. وزمان ظهور إبراهيم الخليل متأخر عن زمن نشوء المجتمع، بما لا يقاس، وما أوردناه إلا لندلل على أن عقيدة التوحيد قد جاءت متأخرة كثيرا عن نشأة المجتمع.. وفي حين أن المجتمع يمكن أن ينشأ بدون عقيدة التوحيد، فإنه لا يمكن أن ينشأ بدون شريعة الحلال والحرام.. ولا تقوم شريعة الحلال والحرام إلا على عقيدة.. وقد كانت هذه التي نشأت عليها شريعة الحرام والحلال البدائية عقيدة تعدد.. وهي، في وقتها، قد كانت مرادة من الله، ومرضية.. وهذا يعني أن بداية عقيدة التوحيد قد نشأت في الأرض، في مضمار مرحلة الانتقال المشتركة بين دين الإسلام العام، ودين الإسلام الخاص.. وقد اعتقد البشر، في مرحلة الانتقال هذ ه، في الآلهة المتعددة.. وكان لكل أسرة إله، بل قد كان لكل فرد، من أفراد الأسرة، إله.. وكان آلهة صغار الأسرة يخضعون لإله كبيرها، تماما كما يخضع صغار الأسرة لكبيرها.. ثم إن آلهة الأسر الصغيرة قد كانت تخضع لإله الأسرة الكبيرة.. وحين تنشأ الحروب بين قبيلتين من القبائل البدائية، وتنهزم فيها قبيلة أمام قبيلة، وتخضع لها، فإن آلهة القبيلة المغلوبة قد يخضعون لآلهة القبيلة الغالبة.. هذا يجري في أغلب الأحيان، وبجريانه تقل أهمية آلهة كانوا، قبلا، معبودين، ومقدسين.. ومع قلة أهميتهم يبدأ سقوطهم.. واختفاؤهم.. وتتحول عبادتهم لآلهة أكبر منهم، هم، في الغالب الأعم، آلهة الأقوياء والمطاعين من كبراء القبائل.. وهكذا دواليك.. هذه الصورة تعطي حركة التطور، نحو توحيد الآلهة، كنتيجة للصراع الذي به توجه الإرادة الهادية(التي سميناها دين الإسلام العام) سير البشر من التعدد إلى الوحدة.. فكأن بدايات التوحيد نشأت في مضمار دين الإسلام العام، ولكن اكتمالها، بمجيء الكلمة ((لا إله إلا الله)) قد كان نتيجة قفزة تمثلت في إلمامة السماء بالأرض فيما سمي ((بالوحي))، وهو اتصال الملك بالبشر ليوحي إليه تعليما معينا في توكيد التوحيد، وفي التسامي به عما كان عليه الأمر من قبل في الأرض، وفي توجيه التشريع الذي كان قد نشأ في الأرض قبل عقيدة التوحيد الموحاة من السماء.. هذا يسوقنا، في استطراد بسيط، إلى تصحيح خطأ شائع، وهو الزعم بأن الدين قد نزل من السماء.. والحق أن الدين نبت في الأرض، وألمت به أسباب السماء، فهذبته، ونقته، ووجهته.. في تسام مقصود به أن تلحق الأرض بأسباب السماء، فإن رب الأرض، ورب السماء واحد.. قال تعالى: ((وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم))..
فإله الأرض، إله الإرادة.. وإله السماء، إله الرضا.. إله الأرض الرحمن، وإله السماء الله.. وإنما هما إله واحد: ((قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى.. ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها.. وابتغ بين ذلك سبيلا)).. وإنما، من ههنا، قررنا أن دين الإسلام العام هو الإرادة، ودين الإسلام الخاص هو الرضا.. وقررنا أن مهمة الوحي هي استخلاص الرضا من الإرادة بواسطة العقول البشرية المؤدبة بأدب السماء.. فإن مثل الدين مثل النبات، ينبت في الأرض، بتفاعل أسباب السماء معها.. ومثل الأنبياء، مثل الفلاح يبذر البذرة في الحقل، فينبت القمح، والحشائش معا، فيجيء هذا الفلاح، فيلتقط الحشائش، ويترك القمح لينمو ويستحصد تحت رعايته، وكلاءته.. وكذلك الأنبياء، فإنهم يجدون العادات، والتقاليد، صالحها، وفاسدها، مختلطا في عقول، وفي معيشة أممهم.. وهم، بما أعدوا به من أدب السماء، يميزون بين العادات الضارة، والعادات الحسنة، كما يميز الفلاح بين نبات القمح، والحشائش الضارة، فيجتثون العادات الضارة، وينمون العادات الحسنة.. وهذا هو السر في كثرة ورود كلمة ((المعروف)) في القرآن، فإن المعروف هو ما تواضع عليه الناس، بشرط ألا يكون معوقا لغرض من أغراض الدين، وجماع أغراض الدين تحقيق كرامة الإنسان.. قال تعالى: ((الذين يتبعون الرسول، النبي، الأمي، الذي يجدونه مكتوبا عندهم، في التوراة، والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم.. فالذين آمنوا به، وعزروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون))..
فالدين نشأ في الأرض، وألمت به أسباب السماء فهذبته..
والإنسان حيوان متطور، وإنما جاءت مقدرته على التطور من مقدرته على التخيل - تخيل صور الأشياء المقبلة.. وهذه المقدرة على التخيل قد أعانته على إنشاء المجتمع، فإنه، من جهة الحيوان، قد ورث غريزة القطيع، وهي غريزة تشده إلى الجماعة شدا، وورث أيضا الغيرة على أنثاه، وهي غريزة تثير العداء بين ذكور القطيع، وتعمل عملها في التفريق.. فإن الأطفال الذكور، حين يبلغون مبلغ النضج، يطردون كنتيجة لهذه الغريزة، من الحظيرة، أو، إذا ضعف آباؤهم، قد يطرد الأبناء الآباء.. والنتيجة واحدة، هي تفتيت المجتمع.. ولقد خلق الإنسان موزون القوى، فلا هو بالقوي الذي يحل مشاكله بعضلاته، ولا هو بالخائر، المتهالك، الذي لا يناجز، ولا ينهض للعداوة.. وقد أعانه هذا الوضع الموزون على تفتيق حيلته، ونمو عقله، ومن ههنا اهتدى إلى المواءمة بين حياته وبين بيئته بكفاءة، وباقتدار عجز عن مداهما سائر الحيوانات.. وعن هذه المواءمة نشأ الدين، ونشأ العلم، ونشأ المجتمع.. ولن نتحدث هنا بتوسع عن هذه النشأة لأننا قد تحدثنا، بشئ قليل من التبسيط، عنها في كتابنا: ((رسالة الصلاة))، في مقدمة الطبعة الرابعة في صفحة 33 من الطبعة الخامسة، تحت عنوان ((الدين قبيل آدم)) فليراجع في موضعه..
ولكنا هنا نقرر: أن المجتمع لم يكن لينشأ إلا على حساب الأفراد وذلك بتقييد نزواتهم وشهواتهم، واندفاعاتهم الفردية.. ومن ههنا، ومن أجل هذا التقييد نشأ العرف، وقامت العادة، التي تعتبر جرثومة القوانين الحاضرة.. ومع أن المجتمعات الصغيرة، البدائية، كانت تختلف في أعرافها، وعاداتها، إلا أنه يمكن القول بأن الغريزة الجنسية قد كانت هي مدار التقييد، يليها، في ذلك في الأهمية، حب التملك.. ولقد نشأ العرف الذي يحرم الأخت على أخيها، والأم على ابنها، والبنت على أبيها، في بداءة نشأة القوانين.. ولقد انصب أعنف الكبت على هذه الغريزة وقيدت أشد القيد لمصلحة نشأة المجتمع، فأصبح الأب مطمئنا على زوجته من أبنائها، وأصبح الابن مطمئنا على زوجته من أبيه، وأصبح الصهر مطمئنا كذلك على زوجته من أخيها، ومن أبيها.. ومثل هذا يقال في احترام الملكية.. ومن هذه القيود المضروبة على الأفراد أصبح المجتمع ممكنا، وأخذ بداياته في الماضي السحيق.. وهذا الكبت المبكر للشهوة الجنسية، وشهوة التملك، هو الذي يفسر السر في أشد التشريعات الإسلامية انضباطا، وتلك هي شريعة الحدود.. فإن الحدود أربعة.. ترجع إلى أصلين: حفظ العرض، وحفظ المال.. فحد الزنا، وحد القذف، يقومان على ضرورة حفظ العرض.. وحد السرقة، وحد قطع الطريق، يقومان على ضرورة حفظ المال.. ولا يجوز ذكر حد الخمر، وهو الحد الخامس، في هذا المقام، لأنه ليس في مستوى هذه الحدود توكيدا، وانضباطا.. ومعلوم أن الحدود تسمى حق الله، وأنها، بخلاف القصاص، لا يستطيع أحد – لا، ولا الرسول الكريم - أن يعفو عن الحد، من قام به الحد..