بســم الله الرحمـن الرحيـم
((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون))..
صدق الله العظيم
مقـدمة الكتـاب:
هذا كتاب نخرجه للناس عن تطوير شريعة الأحوال الشخصية، وهو كتاب جديد في بابه، ذلك بأنه يتناول الشريعة السلفية بالتطوير، فيرتفع بها من نص كان عمدتها في القرن السابع، حين نزل القرآن، وشرع التشريع، إلى نص اعتبر يومئذ، مرجأ إلى وقته، لأنه كان أكبر من ذلك الوقت..
وكنا قد أخرجنا سفراً صغيراً عن الزواج اسـمه: ((خطوة نحو الزواج في الإسلام)).. كان يسـتهدف أمرين اثنين: أولهما حل أزمة الزواج التي تهدد مجتمعنا الحاضر، وذلك بإلغاء مراسيم الزواج التي جرت العادة بترسمها، وإن كان في ترسمها مخالفة للدين.. والأمر الثاني هو تحقيق الكرامة للمرأة العصرية، في الحدود التي تسمح بها الشريعة السلفية.. ولم تكن ضرورة من أجل تحقيق طرف صالح من هذين الغرضين، أن نخرج عن الشريعة السلفية.. وإن كانت ضرورة أن نخرج عما ألف الناس من هذه الشريعة.. ولما كنا في نطاقها، في كل ما حواه: ((خطوة نحو الزواج في الإسلام))، ما كنا نتوقع لهذا الكتيب أن يكون جدلياً.. وإنما كنا ننتظر له أن يجد طريقه ممهداً، وميسراً.. وكنا ننتظـر الجدل لهـذا الكتاب الذي نخرجه اليـوم باسم: ((تطوير شريعة الأحوال الشخصية)) ذلك بأن فيه تطويراً للشريعة السلفية، على هدى أصول الدين، حتى تستوعب الشريعة الجديدة طاقات الإنسان المعاصر، وتحقق أغراض الدين بأكثر مما حققته الشريعة السلفية.. ولكننا عندما طرحنا كتيب: ((خطوة نحو الزواج في الإسلام)) على القراء، وأخذنا في شرحه على الناس في ندوات مفتوحات يحضرها الرجال والنساء، من عامة المواطنين، ظهر لنا أن كتاب ((خطوة …)) نفسه يثير جدلا.. وظهر لنا منه أن الناس يجهلون شريعة الأحوال الشخصية، ولا يتابعون أعمال القضاء الشرعي في المحاكم الشرعية في هذه الشريعة.. بل، أسوأ من ذلك، فإنهم لا يهتمون بها، ولا يعرفون لها من الحق، والحرمة، والأهمية، بعض ما ينبغي لها.. ذلك بأنها أكثر الشرائع، على الإطلاق، التصاقا بكل مواطن، ومواطنة، وتأثيراً على كل طفل، وطفلة، من أفراد الأمة، ذلك بأنك تستطيع أن تعيش حياتك، طالت أو قصرت، من غير أن تحتاج القوانين الجنائية، أو القوانين التجارية، أو القوانين التي تنظم التعامل في الحقول الخارجة عن حقل عملك، وعمل من يهمك أمرهم مباشرة، ولكنك لا تستطيع أن تعيش حياتك، طالت أو قصرت، من غير أن تحتاج شريعة الأحوال الشخصية.. ذلك بأنها شريعة تدخل كل بيت وتؤثر، تأثيراً مباشراً ومتصلا، على كل رجل، وعلى كل امرأة، وعلى كل طفل، وعلى كل طفلة..
لمـاذا عـدم الاهتمـام:
ولقد لاحظنا أثناء مناقشتنا لكتيب: ((خطوة نحو الزواج في الإسلام)) في الندوات مع المواطنين، في الأحياء المختلفة، من المدن المختلفة، وفي بعض القرى، أن المثقفين لا يجدون حرجاً من الاعتراف بجهلهم لهذه الشريعة.. في حين أنهم لا يرضون أن تظهر ثغرات في ثقافتهم العامة من الفلسفات المعاصرة، ومن الأفكار الاجتماعية التي تسود عالم اليوم.. ولعل بعض السبب في عدم الاهتمام هذا يعود إلى صنيع الاستعمار البريطاني، الذي صنعه بهذه الشريعة، وبرجال هذه الشريعة..
عندما دخل الاستعمار البريطاني هذه البلاد، في أخريات القرن التاسع عشر، وغرة القرن العشرين، وجد نفسه أمام شعب متعلق بالدين، سيئ الظن بنوايا العهد الاستعماري الجديد، كثير الخشية منه على الدين، فما كان من هذا العهد الجديد إلا أن أخذ في تطمين الشعب على عدم التدخل في دينه، فأعلن عزمه على تسليم أمور دين الشعب إلى زعمائه الدينيين وإلى فقهائه، وإلى قضاته الشرعيين.. فأنشأ المحاكم الشرعية.. وحدد لها اختصاصا لا يتعدى شريعة الأحوال الشخصية.. وجعل تنظيم أحوال الناس المعاشية، في تعاملهم اليومي، إلى الشريعة الوضعية، وأقام القضاء المدني بإزاء القضاء الشرعي، وجعله فوقه، وأعطاه السيادة عليه، وجعل تنفيذ أحكام القضاء الشرعي في يد القضاة المدنيين.. وكانوا، في الغالب الأعم، بريطانيين.. فأوحى هذا الصنيع للشباب الذين أخذوا يتلقون العلم في المعاهد التي أنشئت حديثاً بالبلاد، على مناهج التعليم الغربي، أوحى إليهم بثانوية الشريعة الإسلامية عامة، وبشريعة الأحوال الشخصية بخاصة، إذا ما قورنت إلى القانون المدني.. وكذلك نشأ عدم الإهتمام بها و الإنصراف عن الإطلاع عليها..
مـاذا نـريـد؟؟
ولما اتضح لنا هذا الجهل بشريعة الأحوال الشخصية، وإتضح لنا مدى عدم الإهتمام بها، آثرنا أن نرجئ إصدار كتاب: ((تطوير شريعة الأحوال الشخصية)) هذا الذي بين يدي القراء الآن، إبتغاء أن يجد كتيب: ((خطوة نحو الزواج في الإسلام)) الوقت الكافي ليثير الإهتمام بهذه الشريعة، شديدة الأهمية لجميع المواطنين، بين جميع المواطنين.. وقد طبع من هذا الكتيب، فيما دون العام خمس وثلاثون ألف نسخة.. ونوقش في العاصمة والمدن الإقليمية.. في ندوات مفتوحة.. في الأندية، والبيوت، ووسائل الإعلام المختلفة، من صحف، وإذاعة، وتلفزيون.. ولا يزال الطبع جارياً في نسخه لزيادة نشره..وسيظل نقاشه جارياً في جميع الأوساط التي يتيسر لنا التحرك فيها.. والذي نريده، من كل أولئك، هو إثارة الاهتمام بهذه الشريعة، ونشر الثقافة العامة في تفاصيلها بين الشعب.. ثم تطبيق كتيب: ((خطوة نحو الزواج في الإسلام)) في جميع مستويات الأمة، كخطوة انتقالية ضرورية، تستعد بها الأمة لدخول عهد كرامة الرجل، وكرامة المرأة، تلك الكرامة التي يدخرها الإسلام للرجال، والنساء، والأطفال، في جميع مناشط حياتهم، وسيظهر هذا جلياً في كتابنا هذا الذي بين يدي القراء - ((تطوير شريعة الأحوال الشخصية))..
اعتــذار..
ونحن نرى أن إسم هذا الكتاب: ((تطوير شريعة الأحوال الشخصية)) يوجب علينا كلمة إعتذار.. فإن عبارة ((شريعة الأحوال الشخصية)) إنما نشأت في عهد الظلام.. عهد تعطيل عمل الشريعة الإسلامية، فأخذت تقوم بجانب واحد، وتعطل بجوانب أخرى.. وما أحب أن ألقي اللوم على الإستعمار.. لأن الإستعمار نفسـه إنما هو نتيـجة لتخلـف المسلمين، ونصولهـم عن دينهم - الاستعمار ليس هو المرض، وإنما هو من أعراض المرض.. والذين يظنون غير ذلك، فيلقون عليه مسئولية تخلف الإسلام، والمسلمين، يخطئون كثيراً، نتيجة لسطحيتهم في التفكير.. وهم معرضون من ثم لشيئ من خيبة الأمل، غير قليل، عندما ينظرون، وقد جلا الإستعمار من أرض العرب، وأرض المسلمين، ثم لا يزال العرب، والمسلمون، متخلفين، بعيدين عن دينهم.. إن السبب الحقيقي لهذا التخلف هو الجهل بالدين، والإنحراف به إلى قضايا فقهية متحجـرة، تكبل العقل، الذي يتخذها منهاجاً لدراسته، ولا تحرره..
كيف السـبيل إلى التحـرير؟؟
السبيل واحد.. لا سبيل غيره.. بعث ((لا إله إلا الله)) قوية، خلاقة في صدور الرجال، والنساء، كعهدنا بها يوم خرجت من منجمها، في القرن السابع، في الوسط العربي في مكة، وما جاورها.. ونحن، من أجل ذلك، نبشر بهذا البعث.. وندعو إليه، في معنى ما نبشر بتطوير الشريعة الإسلامية، بإرتفاعها من النصوص الفرعية إلى النصوص الأصلية.. فأما النصوص الفرعية فهي الآيات المدنية التي اعتبرت صاحبة الوقت في القرن السابع.. واعتبرت من، ثم، ناسخة للآيات المكية.. وأما النصوص الأصلية فهي هذه الآيات المكية التي اعتبرت يومئذ أكبر من قامة المجتمع.. فلم يقم عليها التشريع.. واعتبرت في حقه منسوخة.. وأرجئت إلى أن يجيء وقتها.. وعندنا أن وقتها الآن قد جاء بمجيء هذا المجتمع البشري المعقـد، الذكي، ذي الطاقات العلمية، والفنية، والثقافية والإجتماعية التي لا يمكن أن تقارن بطاقات مجتمع القرن السابع، بحال من الأحوال.. ولقد أفردنا لهذا الموضوع كتاباً باسم ((الرسالة الثانية من الإسلام)) يجري الآن في طبعته الرابعة، ويجد إقبالا متزايداً، وتفهماً مطرداً، من جانب المواطنين.. وسيقوم كتاب ((تطوير شريعة الأحوال الشخصية)) بسبيل من هذا الفهم الذي خرج لتقعيده كتاب ((الرسالة الثانية من الإسلام)).. حتى إذا اتضحت معالم الشريعة الإسلامية المتطورة، الجديدة، لم تعد هناك حاجة إلى الاسم ((شريعة الأحوال الشخصية)).. لأن الشريعة الإسلامية الجديدة ستوجه طاقات المجتمع الجديد، في سائر وجوه مضطربه - في المنزل، وفي المدرسة، وفي المكتب، وفي المصنع، وفي السوق، وفي الشارع - في منشطه، وفي مكرهه، فهي كل، متكامل، وما ((شريعة الأحوال الشخصية)) إلا جزء من كل، وإن كان جزءا له خطره وقدره..
ثم إن توضيح مقدرة الشريعة الإسلامية على التطور من مستواها السلفي في القرن السابع إلى مستوى مجتمع القرن العشرين، حتى تستوعب حاجاته، وتوجه طاقاته، هو، في ذاته، يكون الدعوة إلى الإسلام وإلى بعث ((لا إله إلا الله)) من جديد، لنأخذ، من مستواها الجديد الذي تبعث فيه، تشريعنا الجديد، الذي يوفق في سياق واحد، بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.. هذا التشريع هو التشريع الدستوري الذي لم تظفر البشرية به إلى اليوم، وهـو، هو، حاجتها.. لأن به دخولها عهد عدلها، ورخائها، وكرامتها، وسلامها.. ومن ههنا تجيء قيمة الإسلام التي لا تجاريه فيها فلسفة اجتماعية من الفلسفات التي يفتن بها المثقفون عندنا الآن.. ومن ههنا أيضا يجيء نظر الإسلام، في حقيقته، لا في شريعته السلفية، إلى المرأة كإنسان، لا كجنس.. قال تعالى: ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. وللرجال عليهن درجة)).. هذا يعني أن لهن من الحقوق بقدر ما عليهن من الواجبات، سواء بسواء.. قوله ((بالمعروف)).. يعني ((بالمعروف)) ما تواضع عليه المجتمع، في تطوره المستمر نحو كمالاته المبتغاة، بشرط واحد، هو ألا يكون المعروف المتواضع عليه مخلا بغرض من أغراض الدين.. وأغراض الدين جماعها تكريم الإنسان، من رجل وامرأة.. فإذا بلغ تطور المجتمع بالمرأة أن تتولى المناصب الرفيعة بجدارة فإن حقها من الحرية يكون مكافئا لمقدرتها على أداء هذا الواجب الرفيع.. فإذا كانت تؤديه كما يؤديه الرجل فقد اصبح حقها في الحرية مكافئا لحقه فيها.. ذلك لسبب واحد بسيط هو أن واجبها قد كان مكافئا لواجبه.. تكافآ في الواجبات، فأصبح، من مبادئ العدالة، أن يتكافآ في الحقوق - ((الأجر المتساوي للعمل المتساوي)) - كما يقال، في وقتنا الحاضر.. وإن كان ما يقال يقتصر على المكافأة المادية فقط.. ((وللرجال عليهن درجة)) لا تعني، بالطبع، أن لمطلق رجل درجة على مطلق امرأة.. هذا يؤكده الواقع المعاش، والسير الموروثة.. وبهذا الفهم ينفتح طريق مساواة الرجال والنساء، في الحقوق، والواجبات، في تشريعنا الإسلامي الجديد.. ولا تقع درجات التفاوت ولا التفاضل إلا في منطقة الأخلاق.. لا في منطقة القانون..