الجمهوريون أول السجناء:
من كل ما تقدم يتضّح مدى الفراغ في ميدان الحماس الذي تعانيه الحركة الوطنية، فقد ارتبطت الأحزاب بدولتي الحكم الثنائي واتجهت إلى المفاوضات كما رأينا، تاركة الشعب في عزلة تامة، ولم تعمل على توعيته وإثارة حماسه ضد الاستعمار.. ولذلك استشعر الجمهوريون ضرورة ملء فراغ الحماس، وقد كانت وسيلتهم في إشعال الحماس هي الاتصال المباشر بالخطابة في المقاهي والميادين العامة، وبالمنشورات الممهورة بأسمائهم.. وقد استغلّ الجمهوريون في ذلك موضوعين حسّاسين هما: النية المبيتة عند الانجليز لفصل الجنوب عن الشمال، وقانون الخفاض الفرعوني.
وقد أدى نشاط الجمهوريين إلى تحريك الحماس الشعبي، وأدى إلى انزعاج الانجليز، فقدموا الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري للمحاكمة، وقد كان ذلك بسبب منشور عن الخفاض الفرعوني كان الحزب قد وزّعه على الناس فقد أوردت جريدة الرأي العام هذا الخبر بتاريخ 3/6/1946 وقد جاء فيه: (مثل الأستاذ محمود محمد طه المهندس أمس أمام قاضى الجنايات المستر مكدوال متهما من بوليس الخرطوم تحت قانون التحقيق الجنائي لتوزيعه منشورات سياسية من شأنها الإخلال بالأمن العام وقد أمره القاضي أن يوّقع على صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيها لمدة عام، لا يشتغل خلالها بالسياسة ولا يوّزع منشورات أو يودع السجن لمدة سنة إذا رفض ذلك ولكن الأستاذ محمود رفض ذلك التوقيع مفضلا السجن وقد اقتيد لتوه إلى سجن كوبر)..
ولقد تصعدت مقاومة الجمهوريين للاستعمار داخل السجن، وخارجه.. فعن المقاومة داخل السجن جاء بجريدة الرأي العام بتاريخ 26/6/1946 في بيان رسمي من مكتب السكرتير الإداري عن رئيس الحزب الجمهوري ما يلي: (لمدة يومين رفض محمود محمد طه أن يشتغل وهذا مخالف لقوانين السجن فلم يعمل له أي شيء في اليوم الأول، أما في المرة الثانية فقد حكم عليه بالبقاء ثلاثة أيام "بالزنزانة" و"الأكل الناشف"، ولو انه رفض أيضا أن يقف عند الكلام مع ضابط السجن، فإن العقوبة التي نالها الآن لم تعط له لهذه المخالفة لنظام السجن، وبهذه المناسبة يجب أن يعلم أن كل المساجين مهما كانت جنسياتهم يجب أن يقفوا إلى ضابط السجن انجليزيا كان أم سودانيا) انتهى.
وأما عن مقاومة الجمهوريين للإنجليز خارج السجن، فقد جاء بجريدة الرأي العام بتاريخ 6/6/1946 ما يلي: (ألقى الأستاذ أمين محمد صديق سكرتير الحزب الجمهوري خطابا عاما أمس الأول عن الجنوب في الخرطوم بحري أمام السينما الوطنية وأعاد إلقاءه مرة أخرى في نفس الليلة في مكان آخر في الخرطوم بحري وقد استدعاه البوليس هذا الصباح وحقق معه، فاعترف بكل ما حصل وزاد بأن هذا جزء من خطط كبيرة ينفذها الحزب الجمهوري) انتهى.
ولمّا علم الانجليز انه لن يكون هنالك تراجع من الجمهوريين، اضطّروا إلى إطلاق سراح الأستاذ محمود من السجن بعد مضى خمسين يوما فقط.. وقد واصل الجمهوريون نشاطهم في معارضة الاستعمار فاستغلوا في ذلك قانون الخفاض الفرعوني الذي أصدره الانجليز وعملوا على تطبيقه في ذ946، فاستثمر الجمهوريون هذه المناسبة لتصعيد نشاطهم ضد الانجليز لا دفاعا عن عادة الخفاض الفرعوني، ولكن رفضا لأسلوب محاربتها بالقانون، واستغلالا للمناسبة في إذكاء حماس الشعب ضد الاستعمار، لأن شعبنا لا يثار بشيء مثل ما يثار بكل ما يمس عرضه ونساءه، وبالفعل فإن ثورة رفاعة قد كانت أول مواجهة قوية للإنجليز في ذلك الوقت..
وهكذا، ففي الوقت الذي ترك فيه زعماء الأحزاب، ميدان الحماس الوطني فارغا، وذهبوا لمراقبة مفاوضات طرفي الاستعمار مرتضيين الإقامة في فنادقه الفخمة، ملأ الجمهوريون ميدان الحماس، وتجاوب معهم الشعب، وبعض المثقفين، وبدل النزول في فنادق الاستعمار الفخمة كان الجمهوريون ينزلون في سجونه.. وبعد عامين من سجن الجمهوريين بدأ زعماء الأحزاب يدخلون السجون في عام 1948 بسبب مقاومة الجمعية التشريعية..
إن انصراف الأحزاب عن ميدان الحماس، وملء الجمهوريين لهذا الميدان، أمر توضحه الأحداث التي أوردنا طرفا منها بصورة موجزة، وهو قد كان واضحا للمعاصرين لتلك الحقبة التاريخية، وقد وردت عنه هذه الصورة الجلية التي كتبها أحد كتاب جريدة الرأي العام المعاصرين لتلك الأحداث فقد قال في عدد 28/10/ 1946 ما نصه: -
(ثم إن الجمهوريين حين يقررون، أو يقومون بدعوة، يظهرون من الجد، والحزم، والبلاء الحسن، ما يشرفهم كل التشريف.. فهم في محاربتهم لقانون الخفاض الفرعوني قد فعلوا كل ما في وسعهم، ولعل كثيرين غيرهم، ممن لم يوافقوا على القانون، قبل إقراره، لو بذلوا عشر ما بذله الجمهوريون فربما تغير الموقف كل التغيير لقد أصدر الحزب الجمهوري النشرات، وخطب أعضاؤه، وحذروا، وانذروا، وأخيرا ذهبوا إلى السجون..) إلى أن يقول، مخاطبا الأحزاب الأخرى: (جدي أيتها الأحزاب كما يجد الجمهوريون وان اختلفت الوسائل)..
(لقد ضرب الجمهوريون المثل في الإخلاص للعمل، فهل نرى من أحزابنا بعض العناية بأهدافها؟ فإننا لم نسمع، على اتساع دار المؤتمر، ودار حزب الأمة، ودور أندية الخريجين، وأعمدة الصحف، بمجهود يذكر لقيادة هذه الأحزاب كأن الخطة التي أجمعوا عليها، على اختلاف نزعاتهم هي إيقاف التنفيذ)..
وبعد يومين من ورود هذا التعليق، كتبت نفس الصحيفة – الرأي العام 10/11/1946، مقالا فيه تفهم، واتفاق مع رأى الجمهوريين حول قانون الخفاض الفرعوني، فقد قالت الرأي العام، في مقالها، ذاك، ما يلي: ـ
(أصبح واجبا لزاما أن ننبه الحكومة على خطأ ما حدث أخيرا في أول تجربة لتطبيق هذا القانون، إلى الخطر الذي ينجم من التسّرع في تطبيقه، والى النكبة الاجتماعية الخطيرة التي ستتعرّض لها المرأة السودانية عند تطبيق هذا القانون عليها) الخ.. راجع كتابنا: (الاستقلال جسد روحه الحرية)..
إننا هنا لسنا بصدد التفصيل في ذكر تاريخ الجمهوريين السياسي ولكنّا أردنا أن ننبه القارئ إلى رؤية الجمهوريين إزاء مسألة الخفاض الفرعوني لكيلا يتوّرط أحد فيما توّرط فيه بعض المثقفين اليوم، إذ توهموا أن الجمهوريين في استغلالهم لقانون الخفاض، لتصعيد العمل الوطني ضد الانجليز، إنما كانوا يؤيدون الخفاض الفرعوني.. وهذا توّهم لا يجد له مبررا موضوعيا.. فالأمر الواضح أن الجمهوريين لم يكونوا يدافعون عن الخفاض، وإنما كانوا يحاربون الاستعمار، الانجليزي ـ وهذه كانت سيرتهم ـ وهو إنما استغلوا قانون الخفاض لتصعيد حربهم ضد الانجليز لأن الخفاض أمر حساس ويتعلّق بالعرض ويمكن استثارة الشعب به بسرعة وبعنف.. والإنجليز من جانبهم، لم يكونوا في الحقيقة يحاربون الخفاض، وإنما كانوا، وبمكرهم ودهائهم الاستعماري المعهود، يستغلّون محاربة الخفاض للتمكين لأنفسهم.. ولم يفت على الجمهوريين غرض الاستعمار الانجليزي الحقيقي وما كان ينبغي أن يفوت على أحد، وذلك لعدة اعتبارات واضحة، نلخصها فيما يلي: -
1) الانجليز كاستعمار، لم يكونوا يعملون على توعية، وترقية الشعوب التي تحت حكمهم، ولم يكن ذلك لمصلحتهم.. يل كانوا يسعون إلى تجميد وعى هذه الشعوب ليحكموا أطول فترة ممكنة.. ولذلك لا يوجد سبب موضوعي للاعتقاد بان الانجليز لم يكونوا يريدون من قانون الخفاض سوى محاربة عادة ذميمة، وليس لهم أي غرض استعماري وراء ذلك..
2) العادات الذميمة لا تحارب بالقانون.. وقد ثبت ذلك بالتجربة الطويلة، وفى عديد البلدان كما بيناه في موضعه.. وقد كان هذا الأمر واضحا للجمهوريين منذ البداية.. وهو لم يكن خافيا على الانجليز ولكنهم كانوا يريدون شيئا غير محاربة الخفاض.
3) لقد كان توقيت صدور القانون، مؤشرا أساسيا للغرض الاستعماري الذي دفع إليه.. فلقد شهدت فترة صدور القانون والعمل على تنفيذه (1945 – 1946) نشاطا سياسيا مكثفا، واشتد فيها الحماس الوطني، وعلى صوت السودانيين في المطالبة بالاستقلال، وكانت دولتا الحكم الثنائي تتهيآن لعقد مفاوضات صدقي – استانسجيت.. في هذا الوقت بالذات، سنّ الانجليز القانون، وتشددوا في تطبيقه، وكانوا يعلمون أن السودانيين سيقاومونه، طالما انه تدخل في أمر يتعلّق بالعرض والشرف.. وكان غرض الانجليز هو إظهار السودانيين بمظهر الهمجية والتخلّف، حتى يستطيع الانجليز أن يدّعوا أنهم لا يستحقون الاستقلال، ولم يتهيأوا له بعد.. وقد كان هذا الغرض واضحا للجمهوريين، وكشفوه في أول منشور لهم.
4) وقد كان من أغراض الانجليز من إصدار القانون، إهدار كرامة المواطنين، وترويض النفوس على المهانة والذل.
5) إن عقوبة السجن بالنسبة للنساء تعتبر عند السودانيين أمرا شاذّا ومهينا، ويفقد المرأة سمعتها.. وقد نصّ قانون الخفاض على عقوبة السجن في حالة المخالفة، ولم يستثن في ذلك النساء، وطالما العادة متأصلة في المجتمع، فقد كان من المنتظر أن تتعرّض حرائر النساء المحصنات للسجن بهذه الصورة المهينة، والمشينة للسمعة.. وهذا ما تمّ بالفعل في حادث رفاعة، واستوجب الوقوف ضده بحزم، ولم يتوان المواطنون في ذلك، وخاضوها ثورة عارمة، ذهبت بهيبة الانجليز من الصدور، وزعزعت جبروتهم.
موقف الجمهوريين:
لم تجز خدعة الانجليز على الجمهوريين ولكنها، بكل أسف، جازت على بعض المثقفين!! وقد كشف الجمهوريين خطأ القانون، والغرض الاستعماري منه، في أول منشور لهم صدر بعد سن القانون، وقد جاء فيه: ـ
(لا شك أن مجرّد التفكير في الالتجاء إلى القانون للقضاء على عادة مستأصلة في النفوس، تأصل الخفاض الفرعوني، دليل قاطع على أن حكومة السودان، إما أن يكون قد رسخ في ذهنها أننا شعب تستطيع القوة وحدها أن تثنيه عن كل مبدأ، أو عقيدة، أو أن تكون قد أرادت أن تقول للعالم الخارجي أن السودانيين قوم متعنتون وان تعنتهم الذي ألجأنا للقانون لاستئصال عادة الخفاض الفرعوني الهمجية، هو نفس التعنت الذي وقف في سبيلنا، وشل أيدينا عن استعمال الأراضي الواسعة الخصبة في الجنوب والاستفادة من مياه الدندر والرهد، والاتبرا، والتوّسع في التعليم.. هذا من ناحية الالتجاء للقانون.. وأما القانون في ذاته فهو قانون أريد به إذلال النفوس وإهدار الكرامة، والترويض على النقائص والمهانة..) هذا هو موقف الجمهوريين من قانون الخفاض، وهو موقف واضح لا لبس فيه.. وقد جاء الباحثون وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة من هذا الموقف ليوكدوا أن التجربة أثبتت أن القانون لا يمكن أن يقضى على عادة الخفاض!! وقد بيّن الجمهوريون الغرض الاستعماري من إصدار القانون بصورة جلية.