إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الخفاض الفرعوني

الإسلام والخفاض



الخفاض ليس سنة:


لقد أصبح من الشائع بين الناس أن هنالك نوعا من الخفاض يسمّى (خفاض السنة): وهذا خطأ شائع: فالإسلام عندما جاء في القرن السباع لم يسن الخفاض، وإنما كانت ممارسة الخفاض سابقة لمجيء الإسلام بأمد بعيد، كما رأينا عند حديثنا عن تاريخ الخفاض.. وخطاب الإسلام للناس وعمله في تربيتهم يقوم على التدريج، وخاطبة الناس على قدر عقولهم، واعتبار طاقة الناس، وحاجتهم، وهو ما يسمى عندنا بحكم الوقت..
فلهذه الاعتبارات فإن الإسلام لم يلغ الخفاض إلغاء تاما وبجرة قلم، وإنما دعا لتهذيبه ريثما يجيء الوقت الذي يمكن فيه التخلّص منه تماما، ثم تكون القيمة التي من اجلها قام، وهي العفة والصون، محفوظة بدونه، وبصورة أكمل.
وقد جاء عن تهذيب الخفاض الفرعوني الحديث الذي رواه أبو داوود والطبراني، والحاكم، ولفظه: (كان بالمدينة امرأة يقال لها أم عطية تخفض الجواري، فقال لها رسول الله: يا أم عطية!! اخفضي، ولا تنهكي، فإنه أنضر للوجه وأحظى عند الزوج).. وفى حديث احمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) وهذا حديث واضح في التدليل على أن الخفاض للنساء ليس سنة، فالنبي الكريم، لم يسمّه سنّة، وإنما سماه مكرمة، في حين انه سمى الختان بالنسبة للرجال سنّة.
والمكرمة في الختان إنما تجيء من حكم الوقت، الذي جعل الوصاية على المرأة وما يتفرّع عليها من تشاريع هي الوسيلة للصون والعفة، فالختان حتى في المستوى المهذّب منه هو تشريع مرحلي، وليس أصلا في الإسلام، وإنما الأصل هو العفّة التي تقوم في الصدور، صدور الرجال والنساء، وهذه ليس سبيلها الكبت، وإنما سبيلها هو التربية، التي يوفّرها، في أكمل صورة، للرجال وللنساء على السواء، منهاج تقليد النبي المعصوم، في أسلوب عبادته وفيما يطيقون من أسلوب عادته..

توفير البديل:


إن محاربة الخفاض، وكل صور الكبت الأخرى، بصورة ايجابية وفعّالة تقتضي توفير البديل الذي يؤكد القيمة ويحققها، ولا بد من التوعية، على أن تكون هذه التوعية في محتواها وأسلوبها، في إطار القيم الدينية الرفيعة التي تبعث على الثقة فإنه مع انعدام الثقة لا سبيل لتوعية فعّالة.. ومما يبعث على عدم الثقة مثل هذا القول الذي ورد في كتاب هيئة الصحة العالمية، الذي أشرنا إليه مرّات في هذا الكتاب.. فقد جاء في الكتاب من قول الدكتور طه بعشر ما نصّه: (ولعدم وجود أي إشارة في القرآن الكريم أو في السنّة المحمدية "الحديث" فإن كبار المفكرين الدينيين من العرب أمثال الشيخ شلتوت فنّدوا الحجة المبنية على العقيدة الدينية لممارسة خفاض الأنثى) ص 71.. إن من يطلع على الحديثين النبويين اللذين أوردناهما عن الخفاض، وهما من الأحاديث المشهورة، ثم يقرأ قول بعشر هذا الذي ينفى وجود أي إشارة في الحديث للخفاض، لا يملك إلاّ ألاّ يثق في أقوال بعشر ومن يستقى منهم بعشر معلوماته الدينية من العلماء أمثال شلتوت.
إن الأمر لا يحتاج لهذا الإنكار، ولا يحتاج للالتواء بتضعيف الأحاديث، وإنما هو يحتاج إلى فهم الحكمة من الخفاض كأمر مرحلي.. ثم إيجاد البديل له بعد أن انقضت المرحلة وانتفت الحكمة وراء استمراره، والبديل هو التربية والعمل على نشر قيم العفّة والصون بين الرجال والنساء..
وفى هذا الصدد تجيء وصية الأستاذ محمود محمد طه للرجال والنساء من كتاب: (تطوير شريعة الأحوال الشخصية)، فهو للرجال يقول:
* أعينوا النساء على الخروج من مرحلة القصور، ليستأهلن حقهنّ الكامل في المسئولية حتى تنهض المرأة وتتصرف كانسان، لا كأنثى.
* غاروا على النساء.. ولا يكن مصدر غيرتكم الشعور بالامتلاك، كما هي الحالة الحاضرة.. ولكن غاروا على الطهر، وعلى العفة، وعلى التصون، لدى جميع النساء.. وسيكون من دوافع مثل هذه الغيرة أن تعفوا، أنتم أنفسكم، فإنه وارد في الحديث: ((عفوا تعف نساؤكم))
وفى الوصية للنساء جاء: -
* اعلمن أن الغيرة الجنسية هي من أكبر أسباب تسلط الرجال على النساء.. وستظل غيرة الرجال على النساء قائمة.. ومن الخير أن تظل قائمة، لأنها هي صمام العفة، وضمانها. والعفة أعظم مزايا النساء، على الإطلاق.. وما جعلت قوامة الرجـل على المرأة إلا من أجلـها، في المكان الأول.. فكن عفيفات، صينات، تكن لكن القوامة على أنفسكن.
* اعلمن أن جمالكن، في المكان الأول، ليس في جمال أجسامكن، وإنما هو في كمال عـقولكن، وخـلقكن، وديـنكن.. فكن عوالات على هـذه.. ولتطالع هـذه الكمالات منكن من تلقين من الرجال من الوهلة الأولى للقائكن بهـم..)
انه قد آن الأوان لزوال جميع صور الوصاية، والكبت، الواقعة على النساء بسبب الغيرة الجنسية.. وإنما يكون ذلك بالعمل بأصول الإسلام في التشريع الجماعي، والعمل بمنهاج السنّة في السلوك الفردي، بما يرد الناس إلى أصول الأخلاق ويغنيهم عن كل صور التشاريع، والممارسات المرحلية، ويجعل العفّة أمرا ثابتا في الصدور، وهذا أمر كائن لا محالة، وقد جاءت البشرى بقرب أوانه. فقد جاء في كتاب الأستاذ محمود محمد طه: (القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري) ما نصه: (سيجيئ وقت، قريبا، إن شاء الله، تكون فيه العفّة، والصون أمرا ثابتا في صدور النساء والرجال.. ويكون جميع النساء، إلا امرأة واحدة، لدى كل رجل، كأنهن أخواته، أو أمه.. فلا تتحرّك فيه رغبة جنسية لإحداهن، على الإطلاق.. ومثل هذا يقال عن المرأة بين الرجال، إلا رجلا واحدا، هو زوجها.. فكأن التحريم الشرعة اليوم في الدوائر المحرّمة هو مقدمة لتلك الحالة التي يصحب مجيئها مجيء الموعود الذي سيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.. وحالة العفّة هذه هي من ضمن العدل الذي ستملأ به الأرض يومئذ..) انتهى..