أيام المأتم
إلى جانب أداء العزاء، وتلقيه، يجب أن يتحول المأتم إلى مجالس لقراءة القرآن، والإنشاد الديني، والذكر والفكر، على نحو ما يفعل الأخوان الجمهوريون، اليوم، في مآتمهم، بحيث تتوحد مجالس المأتم حول عمل من هذه الأعمال الدينية.. وذلك لئلا ينصرف الناس إلى الغفلة وتوزع الخواطر، والثرثرة، كما هي العادة في المآتم اليوم، وهي مناسبات تقتضي حسن التوجه بالترحم للميت، والاعتبار بحكمة الموت، واصطناع الجادة التي يجب أن يأخذ المرء بها نفسه في سائر أحوال حياته.. (الدنيا مطية الآخرة)، قولة النبي الكريم المأثورة التي ترسي أصلا من أمهات أصول الدين، إنما تدعونا الى إلغاء اختلاف النوع الذي يقوم في نفوسنا بين الدنيا والآخرة، وتدعونا إلى أن نتخذ من الأولى وسيلة إلى الثانية وقاعدة.. هذا المنهاج التربوي الفريد: (ما أصاب من مصيبة في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير* لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور).. فلا نذهب أنفسنا حسرات على ما نفقد، ولا يستخفنا الفرح بما نجد، وإنما هو الوزن القسط الذي يقرب الشقة بين أفراحنا وأتراحنا، فلا نأخذ أنفسنا بمظاهر الفرح الصارخة في أعراسنا، ولا بمظاهر الترح الساخطة في مآتمنا لأن كليهما تعبير عن الغفلة المستولية.. وفيما نحن بصدده من الحديث عن آداب المأتم يجب أن ندرك أن الموت ميلاد جديد، في حيز جديد، وبداية حياة جديدة لا تختلف عن حياتنا هذه الدنيا الاّ اختلاف مقدار وفي الموت نهاية لمشاكل الإنسان الديّن الخيّر.. ونقلة له من دار الغفلة الى دار الحضرة، وقرب له من الله تعالى أقرب.. فلا يجب أن يصدر منّا على الميت من الحزن إلاّ ما نستشعر به فراقه، ونستعيد ذكراه.. فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه ابراهيم، وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟؟ فقال: (يا ابن عوف، إنها رحمة!!) ثم اتبعها بأخرى فقال (إن العين تدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا!! وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري.. وعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبيّ فقال (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل!!) وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكثروا من ذكر هادم اللذات – يعني الموت – رواه الترمذي.. كما ورد (أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلاّ أحيا الله قلبه وهوّن عليه الموت) كما ورد (أكثروا ذكر الموت فان ذلك تمحيص للذنوب وتزهيد في الدنيا) وعن أبي هريرة أن النبي قال (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) رواه مسلم.. وروى ابن هشام في سيرته أن النبي نعى نفسه للمسلمين عندما مرض مرضه الأخير فقال: (إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فأختار ما عند الله). ففهمها أبو بكر وعرف أنه يريد نفسه، فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال (على رسلك يا أبا بكر)!! وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما أسمعه يقول: (إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره) فلمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول (بل الرفيق الأعلى من الجنة) قلت خيّر!! وإذن والله لا يختارنا!! ولمّا قالت فاطمة بنته، وهو على فراش المرض (واكرباه لكربك يا أبي!!) قال (لا كرب على أبيك بعد اليوم!!) يريد أنه إنما ينتقل من هذه الدار الى دار تنتهي فيها سائر الكروب.. وقال الشاعر يعزي عبد الله بن عباس في والده العباس: -
أصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية بعد صبر الرأس
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعبّــــاس
ولذلك ندعو نحن الأخوان الجمهوريين، لما نحن عليه في أفراحنا وفي أحزاننا من اتخاذ هذه المناسبات وسائل للاستزادة من الحضرة مع الله تعالى، لا من الغفلة عنه، وذلك بمظهر الفرح الموزون، أو بمظهر الحزن الموزون.. بحيث تقرّب الشقة بينهما.. وتتشابه بواعثهما، فلا إفراط، ولا تفريط!! وإنما هي مناسبات دينية، تتسم بمظهر الدين، وتتخلّق بأخلاق الدين، لتؤدي أغراض الدين..