سكنى ونفقة المعتدة بالوفــــاة
كانت الشريعة قد اهتمت بسكنى ونفقة المعتدات عموما ومعتدة الوفاة أيضا فكما كلفت بالحبس والإقامة في بيت الزوجية فقد تكفلت لها الشريعة بالسكنى والنفقة، كما يظهر مما يلي، قال تعالى: (والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجا، وصية لأزواجهم، متاعا إلى الحول، غير إخراج.. فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن، من معروف، والله عزيز حكيم).. قال جمهور العلماء إن هذه الآية منسوخة بالتي قبلها (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا).. وأورد ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد وعطاء (من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخا بالأربعة الأشهر وعشرا، وإنما دلّت على ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك.. ولهذا قال: (وصية لأزواجهم) أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله: (يوصيكم الله في أولادكم) الآية وقوله (وصية من الله).. وقيل إنما انتصب على معنى فلتوصوا لهن وصية.. وقرأ آخرون بالرفع وصية على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير.. ولا يمنع من ذلك لقوله: (غير إخراج) فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله (فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف) وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له) انتهى.. وأورد ابن كثير أيضا عن عطاء عن ابن عباس (في قوله "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة فنسختها آية المواريث) ولكنه علّق على ذلك بقوله (وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة.. وهما قولان للشافعي رحمه الله وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن اسحق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتهما أنها جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب عبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدم لحقهم فقتلوه، قالت فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في سكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله: (نعم) قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له فقال: (كيف قلت؟) فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله) قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به) ابن كثير الجزء الأول ص 525-26-27-28 ومما جاء في كتاب سبل السلام الجزء الثالث (ويجب لها السكنى في مال زوجها لقوله تعالى – غير إخراج – والآية وإن كان قد نسخ فيها استمرار النفقة والكسوة حولا فالسكنى باق حكمها مدة العدة وقد قرر الشافعي الاستدلال بالآية بما فيه تطويل)..
ومع ملاحظة الفرق الكبير بين بساطة السكنى في الماضي وتعقيدها الشديد في الوقت الحاضر، يتضح أن الزوج إذا لم يترك للزوجة منزلا يملكه أو منزلا مؤجرا لها، فإنها تواجه بضرورة الخروج من المنزل ويصبح ذلك من حقها..
وجوب نفقة العدة
جاء في كتاب سبل السلام الجزء الثالث (وعن جابر يرفعه في الحامل المتوفى عنها زوجها قال لا نفقة لها أخرجه البيهقي ورجال ثقاة لكن قال: المحفوظ وقفه وثبت نفي النفقة في حديث فاطمة بنت قيس كما تقدّم. رواه مسلم).. وتقدّم أنه في حق المطلقة بائنا وأنه لا نفقة لها وتقدم الكلام فيه والكلام هنا في نفقة المتوفى عنها زوجها وهذه المسألة فيها خلاف) انتهى.. سبل السلام.. ويلاحظ أن خبر جابر قال عنه (المحفوظ وقفه)، وحديث فاطمة بنت قيس الذي رواه مسلم قال عنه الإمام عمر: (لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري أحفظت أم نسيت)..
فقول الإمام عمر (وسنة نبينا) يعني أنه يعلم من سنة النبي أن للمعتدة النفقة والسكنى.. ويعضد ذلك حديث عمر الذي رواه النخعي – وإن لم يكن معاصرا لعمر.. ونصه (سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لها السكنى والنفقة) سبل السلام. وجاء في كتاب بداية المجتهد الجزء الثاني عن سكنى المطلقة ثلاثا ونفقتها إذا لم تكن حاملا (وأما الذين أوجبوا لها السكنى والنفقة فصاروا إلى وجوب السكنى لها بعموم قوله (أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم). وصاروا إلى وجوب النفقة لها لكون النفقة تابعة لوجوب الإسكان في الرجعية وفي الحامل وفي نفس الزوجية وبالجملة فحيث ما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة وروى عن عمر أنه قال في حديث فاطمة هذا لا ندع كتاب نبينا وسنته لقول امرأة يريد قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) الآية ولأن المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام أنه أوجب النفقة حيث تجب السكنى) انتهى..
ومن كل ذلك يتضح لزوم النفقة لمعتدة الوفاة وإن اختلف الفقهاء في ذلك وذهب جماعة منهم الى أنها لا نفقة لها سواء كانت حاملا أو غير حامل.. و(إلى هذا ذهبت الشافعية والحنفية).. (وذهب آخرون منهم الهادي إلى وجوب النفقة لها مستدلّين بقوله "متاعا إلى الحول".. قالوا ونسخ المدة من الآية لا يوجب نسخ النفقة ولأنها محبوسة بسببه فتجب نفقتها) سبل السلام الجزء الثالث.. وهذا هو الذي يناسب عناية الشريعة بالأرملة المعتدة (المحبوسة).. أما من لم تجد السكنى والنفقة في بيت زوجها فإن العدة تسقط عنها إلا فيما يخص استبراء الرحم فإنها لا تتزوج إلا بعد ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر أو وضع الحمل إن كانت حاملا.. وذلك لأن لزوم وإمكان العدة لا يمكن أن يتأتى بدون وجود السكنى والنفقة..
أما موقف بعض الفقهاء في رفض نفقة المعتدة بالوفاة فهو موقف بعيد عن روح الشريعة، وعن سماحة الدين، وهو موقف ليس غريبا منهم.. فقد جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة المجلد الأول أنهم يرون أنه لا يلزم الزوج حتى تكفين زوجته ولو كانت فقيرة: (المالكية والحنابلة قالوا لا يلزم الزوج بتكفين زوجه ولو كانت فقيرة) صفحة 513 وللمزيد من الأمثلة على بعد آراء الفقهاء عن سماحة الشريعة انظر كتابنا (خروج الفقه عن الدين)..
وحين راعت الشريعة في العدة اعتبار براءة الرحم فإنه لم تكن على الرجل الذي توفيت عنه زوجه عدة، ولا إحداد في الشريعة ذلك لأن براءة الرحم ليست قائمة في حقه.. ولكن في عدة الوفاة لم تقتصر الشريعة على مراعاة براءة الرحم وحدها وإنما أدخلت اعتبارا إنسانيا هو رعاية العشرة الزوجية والوفاء لمدتها بالإحداد.. ولذلك فإنه مما يتمشى مع روح الشريعة وقيم الدين ورعاية الرجل لحرمة العشرة الزوجية، أن يلزم زوج المتوفاة نفسه أخلاقيا بفترة من التبتل يبتعد فيها عن الانشغال بمظاهر الحياة السعيدة، ويأخذ نفسه بالذكر والفكر ورعاية حرمة الفقيدة، ومن ذلك ألا يستعجل الزواج مرة أخرى إلا بعد مرور فترة مناسبة، وإلا إذا اقتضت الضرورة الشديدة هذا الزواج، كأن تكون زوجته قد تركت له من الذرية ما يحتاج الرعاية العاجلة من زوجة تخلفها، لا سيما إذا كانت هذه الزوجة الجديدة أخت المتوفاة أو قريبتها..