كوستي 4/7/1966م ص. ب. 71
عزيزي الأستاذ الفاتح . تحية طيبة، مبـــاركة
أما بعد، فإني أشكرك على كتابك الكريم الذي وافاني منذ حين، وكنت، ومازلت، شديد الاحتفاء به، والحرص على أن أفصل الرد عليه تفصيلاً يناسب الأسئلة الذكية التي طفح بها، ومن أجل ذلك أرجأت الرد عليه طوال هذه المدة، وكنت أنتظر أن يقل إلحاح العمل على شيئاً ما، ولما تراخى الزمن، واستيأست من أن أجد من الفراغ بعض ما أحب، أقدمت على الكتابة حتى لا أبطئ عليك أكثر مما أبطأت..
المثالية و الواقعية
وأول ما أشير إليه هو أنه قد سرني كثيراً رأيك في رسالة الصلاة، ولكنك تقول بأنه: "فيها كثير من المثالية التي لا أعرف إن كان من الممكن أن تتحقق في الأرض" والمثالية إنما تكون معيبة حين تصبح حلماً من أحلام اليقظة، أو تمنياً من حديث النفس البطالة.. أما حيث توضع الوسائل العملية، وحين تستحث النفس لتعمل على هدي هذه الوسائل العملية، فإن الأمر لا يصبح مثالية، وإنما يصبح غاية عليا، تشد إليها الرحال، وتبلغها الهمم..
الله معك، فهل أنت معه ؟
وأنت تخبرني بأنك أحياناً تشعر شعوراً عميقاً بأن الله معك، وأن هذا الشعور يصحبه قلق، وحالة غير طبيعية.. ولست أرى في ذلك مدعاة للخوف، بقدر ما أرى فيه مدعاة للسرور.. فإنه بداية تفتح النفس بشعورها بالمسئولية.. ولقد كان الصوفية يعملون عملاً متصلاً، ويحتالون بشتى الحيل ليصلوا إلى هذا الشعور.. فقد حكى أبو القاسم الجنيد أن خاله السري السقطي، أخبره، وهو يافع، أن يقول، كلما بدل ملابسه، أو كلما تعرى للحمام: "الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهد" وذلك استجلاباً لحالة الحضور مع الله، وحالة الشعور بأن الله معك.. والشيخ المتصوف الذي نصحك بأن تبعد هذا الإحساس عنك ما أحسن، ولا أجمل، وهو متوهم في أمره، يكشف ذلك قوله لك: "إن الله موجود حتى مع إبليس" نعم ! إن الله موجود مع كل شيء، ولكن العبرة بأن نكون نحن معه كما هو معنا.. هو موجود مع إبليس، ولكن إبليس غير موجود معه.. وهو موجود مع الغافل من الناس، وموجود مع العارف، ولكن الفرق بين الغافل والعارف هو أن العارف موجود مع الله، أو، بعبارة أخرى، أن العارف شاعر بأن الله معه، وهو، بذلك، مقيد بشريعة، ومقيد بحقيقة، ولا يمرح كما تمرح السايمة.
"وأقيموا الوزن بالقسط، ولا تخسروا الميزان" إحدى كفتي الميزان الله، وثانيتهما نحن.. فإذا كان الله حاضراً، ونحن غايبين عنه، فإن الوزن غير مقام، لأن الميزان قد شال.. وإذا كان الله حاضراً ـــ وهو دائماً حاضر ـــ ونحن حاضرين معه، فإن الوزن يوشك أن يقام.. وبقدر حضورنا معه تكون إقامة الوزن بالقسط.. والمثل الأعلى: أن نكون معه، كما هو معنا.. وهيهات!!
فشعورك، إذن، شعور صحة، وليس شعور مرض.. وهو حالة عزيزة من حالات تفتح النفس فأرجو أن تستزيد منه، ولا تتخلص منه، كما نصح صاحبنا، عفا الله عنه..
والشعور بأن الله معك يجب أن يجد كفايته في العمل.. فإنك، إذا كان الله معك، فأنت مراقب، وأنت محاسب: وقد وجب، إذن، أن تحسن كل عمل تقوم به، على سبيل أنك بعين الله، وهو ناظر إليك: فإذا وجدت هذه الطاقة التي تشعر بها متنفساً في إتقان العمل، فإن حالة القلق تزول، ويحل محلها حالة الاطمئنان بأنك جليس الحبيب، فيحل الأنس محل الوحشة.. إن القلق يصدر عن سوء ظن بالله، وعن اهتمام زايد بالنفس.. وكلا الأمرين جهل، من السهل التخلص منه..
الله كنه كل شئ
وفي حديثك عن صديقك الذي قال لك أنه لا يعرف كنه العقل تقول أنت: "إن آفتي البحث وراء ما وصل إليه، وهو ماهية العقل الذي قال أنه لا يعرفه".. وكُنه كل شيء هو الله.. وهو لا يُعرف معرفة إحاطة، وإنما يُعرف بأسمائه، وأفعاله، وصفاته، ويتم اليقين بوجود ذاته، وبكمال صفاته، مما يسوق النفس إلى الراحة، والاطمئنان، حين تعلم أن الله الكامل، كل هذا الكمال يعبأ بها، ويدبر أمرها، ويتولاها.. فتطرح عناء التدبير، وتتقلب في برد الرضا..
النار ليست خالدة
وأنت تقول أنك تمتعض لفكرة النار الخالدة.. والحقيقة أن النار ليست بخالدة، بل أن عمرها ليس طويلاً.. والجنة ليست خالدة، وإن كان عمرها أطول من عمر النار.. ولا بقاء إلا لله وحده: "كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك، ذو الجلال والإكرام".. فأما فكرة فناء النار فهي في أصل فكرة التوحيد، ذلك بأن الله خير محض، ولا يدخل الشر في الوجود إلا من جهة نظرنا نحن إليه.. فإنا، حين نختار أنفسنا، نقع في شقوة تدبيرنا، ونعذب بأعمالنا.. وحين نختاره هو لا نرى إلا الخير.. وعن هذا الخير ورد التعبير بعبارة الجنة.. وعن ذلك الشر ورد التعبير بعبارة النار.. وإلى كل تعبير عن النار وردت الآية التي أشرت إليها أنت في جوابك: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم، وآمنتم؟؟ وكان الله شاكراً عليماً"..
وعدم خلود الجنة غير معروف، إلا لدى القلائل من العارفين، وآيته من كتاب الله: "إن المتقين في جناتٍ، ونهر، في مقعد صدقٍ، عند مليك مقتدر" فتلك مراتب العارفين.. أولها جنات، ثم نهر، ثم مقعد الصدق، ثم "عند مليك مقتدر".. ومعلوم أن الجنة مكان.. فإذا ترقى أصحابها في المراقي فكانوا "عند مليك مقتدر" فإن عند هذه تكون "حيث لا عند" أي في غير مكان، فإن الله تعالى عن المكان، كما تعالى عن الزمان..
وقول الأستاذ شلتوت بعدم خلود النار وبخلود الجنة غير صحيح، على التحقيق، ونصوص الخلود واردة في القرآن عن النار، وعن الجنة، على السواء، ولكن العبرة بمعنى الخلود.. ذلك بأنه يقول "خالدين فيها أبدا".. والأبد زمن، وهو مخلوق.. ويقول "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض".. وذلك زمن، وهو محدود.. أما الخلود المطلق فممتنع عن الجنة، وعن النار.. ولكنه أبلغ امتناعاً في حالة النار منه في حالة الجنة..
معنى كون الله منتقما
وعلى حق أنت حين لم تتصور الله، سبحانه، وتعالى، منتقماً.. إنه غير منتقم.. لأنه لا يعصى مُراغمة، وإنما يعصى بأمره.. فهو في، المعصية، مطاع.. وحيث وردت الإشارة إليه بالمنتقم فإنما المعنى المقصود هو ما يفهم من عبارة "ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" أو من عبارة "كل نفسٍ بما كسبت رهينة".. فمعنى المنتقم، هنا، هو الذي يرد على الناس أعمالهم.. وإنما يكون عذابهم بأعمالهم.. والحكمة وراء العذاب بالأعمال إنما هي أن نتعلم من أخطائنا.. وهذا سبيل الحرية.. فالحر هو الذي يملك حق الخطأ، ويتحمل مسئولية خطئه، حين يخطئ.. وبذلك يصل إلى الصواب.. ولقد أجمل المعصوم هذه العبارة أحسن إجمال حين قال: "إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله بقومٍ يخطئون ويستغفرون، فيغفر لهم".
عذاب الدنيا طرف من عذاب الآخرة
وأما أن عذاب الدنيا طرف من عذاب النار فهذا حق لا مرية فيه.. والحق إن الجنة موجودة، الآن.. والنار موجودة: "وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغائبين * وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئا والأمر يومئذ لله" فعبارة "وما هم عنها بغائبين" تؤيد القول بأن عذاب الدنيا وألمها طرف من عذاب النار التي تكون في الآخرة، وهو موجود الآن في هذه الحياة الدنيا.. ولما كان عذاب الدنيا طرفاً من عذاب الآخرة فإن من يقع عليه يكون كفارة له عن عذاب الآخرة، ذلك بأن الله لا يعذب مرتين.. وأنت لا شك تذكر القصة المشهورة في التاريخ.. في حرب الجمل حين خرجت عائشة، رضي الله عنها، على علي بن أبي طالب، وكان أخوها محمد بن أبي بكر في الجيش، فلما هزم أصحاب عائشة، أقبل محمد على هودجها، وأدخل يده عليها، وهي لا تراه، فقالت: "من هذا الذي يريد العبث بحرم رسول الله؟ أحرقه الله بناره.. فقال محمد بن أبي بكر: إنه أنا يا أختاه.. قولي نار الدنيا.. فقالت: نار الدنيا".. فكأن محمداً علم أن دعوة أخته مستجابة.. وقد استجيبت في حقه، فلما قالت: نار الدنيا، سرى عنه.. وقد كان من أمره، بعد الفتنة الكبرى، أنه قتل في مصر، وأحرقت جثته في جوف حمارة.. كما يحدثنا التاريخ..
وجودك ذنب
وأنت تقول: "ولو أنني لا أعتقد أني مذنب ذنباً يتكافأ مع العذاب الذي أعيش فيه" والصوفية، عطر الله ذكرهم، يقولون: "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب" ويعنون شعورك بإرادة مستقلة عن إرادة الله هو الذنب الأكبر.. وهذا لا يخلو منه أحد.. وهو يبدو جلياً في قلقك على مصيرك، واهتمامك بنفسك، فلكأنك أنت خالقها، ولكأنك أنت مدبرها... وهذا ينطبق علي، كما ينطبق عليك.. فنحن نحمل على عاتقنا حملاً ثقيلاً، لولا جهلنا لأرحنا أنفسنا منه.. وقد أشير، في حق المعصوم، إلى ذلك في قوله تعالى: "ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك"..
وكما قلت آنفاً، فإني لا أرى، في جميع ما ورد في خطابك، أمراً يدعو إلى القلق.. بل على النقيض من ذلك، فإني مسرور لك، غاية السرور، ذلك بأن ما تشكوه إنما هو تفتح نفس ذكية، ونبضات قلب يريد أن يخرج عن قشرته.. وطريقك قريب، قريب !!
حياتي ظلال ، وعيشي ملال ونفسي مغلفة بالعذاب
ولا خير في نفس ترضى العذاب قبل أن تبلغ كمالها، ذلك بأن العذاب سوط نساق به إلى القرب.. فكلما شعرت بأمر يسوؤك فأعلم أنك غير ملتصق بالله، تمام الالتصاق، وأن بينك وبينه مسافة مملوءة بالأغيار، فأخرج ما سواه عما بينك وبينه، ينقلب عذابك نعيماً، وألمك لذة ـــ وما سواه الذي يجب أن يخرج من بينك وبينه، هو نفسك ـــ نفسك التي عبر عنها المعصوم حين قال: "إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك".. يعني جهلك، وزيادة حرصك، ومبالغتك في التوقي، واتهامك الله فيما يسوق إليك من المصائب..