الفصل الحادي عشر
لا كـهـنــوت
لا كهنوت في الإسلام!! مافي ذلك أدنى ريب.. ولله الحمد..
وإنما كان الكهنوت مرذولا لأنه ادعاء وصاية على الناس، والقيام بينهم وبين ربهم إلى الحدود التي تدعي التحدث بلسان الله.. وتقوم بتحرير صكوك الغفران لبعض الناس، وحرمان البعض الآخر من رحمة الله الواسعة.. وليس هناك دين يقوم في أصله على الكهنوت.. لا!! ولا المسيحية!! وإنما اشتهرت المسيحية بالكهنوت لأن فيها أسرارا دقيقة، ومعاني رفيعة، وكان الجهل سايدا بين الناس، والكلمة المقروءة عسيرة، والكتب المتداولة قليلة.. فأصبح تعليم الدين محصورا في دوائر ضيقة، وعند رجال بأعيانهم فاتخذوا منه حرفة، وحفوه بالمصاعب، وجعلوه مهنة يرتزقون منها، ويتسلطون عن طريقها على رقاب العباد..
وفي الإسلام، مامنع من الكهنوت بالمعنى الذي عرف في النصرانية مثلا، إلا وجود القرآن، كتابا مقروءا، ومحفوظا في الصدور، وإلا بساطة التعاليم التي تجد كل تعبيرها في كون الإسلام دين الأميين: رسوله أمي، وأمته أمية.. فهو واضح، كل الوضوح، بسيط كل البساطة.. يبدأ من أرض الناس، ولا يكلف أمرا يستحيل على الإنسان العادي فهمه أو إتيانه في يسر، وسهولة.. هذا للرجل العادي.. ثم أنه، للذين يتعمقونه، من هذه البدايات يسير في طريق مطروق، واضح المعالم، هو طريق المعصوم.. فأنت، إن كنت مسلما، صاحب شريعة، عاديا، فما تكلف إلا يسيرا.. وإن كنت صاحب طريقة، تركب العزائم، فإنك مهدي بنهج سليم واضح، قد سار عليه من قبل الهادي، المهدي – محمد النبي، الأمي، الأمين..
ومع ذلك فإن عصور إنحطاط المسلمين قد شهدت، ممن يسمون أنفسهم (رجال الدين)، محاولات نحو رتب الكهنوت.. ولا تزال هذه المحاولات قائمة باسم حماية الدين.. وما علموا أن حماية الدين، وحتى التبشير بالدين، إنما يتم على خير الوجوه، بأن تعيش أنت الدين، في تطبيق صادق، ونظيف، وأمين، حتى تكون حياتك تجسيدا لكمالاته، وفضائله، فتكون دعوتك إليه، وحمايتك إياه، بلسان حالك، قبل لسان مقالك.
ومهما يكن من الأمر، فليس هناك، منذ اليوم، خوف على الناس من الكهنوت، ما دامت العقول سايرة في طريق النضج والفهم.. وما ينبغي أن يدفعنا الخوف من الكهنوت أن نجنح إلى طرف الشطط الثاني، فنتورط في خطأ آخر، قد بدا لي طرف منه في قولك: (إن الصلة بين الإنسان وربه صلة مباشرة.. وأن الله يرعى شؤون مخلوقاته مباشرة بدون مجلس إدارة وبدون سكرتارية وبدون وسطاء..
"قل لله الشفاعة جميعا"
"وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان").. هذا قولك، من صفحة 220.. وهو قول يسير إلى الشطط الآخر.. فإن الوسطاء قائمون، ولكن قيامهم مرحلي.. فأنت لا تستطيع أن تعرف الله إلا بواسطة العارفين به.. فما كان يمكنك الإستغناء عن وساطة محمد، مثلا، وما كان لمحمد أن يستغني عن وساطة جبريل.. ولكن، بعد أن إرتفق محمد بجبريل في المرحلة، أمكنه أن يسير إلى ربه بدون جبريل، كما هو محكي في قصة المعراج حين تخلف عنه جبريل عند سدرة المنتهى.. هذا وقول الله من الآية التي سقتها أنت للتدليل على سقوط الوسطاء أصلا، وهي قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا)، لا ينهض بقضيتك.. أليست (قل) هذه، في حد ذاتها، وساطة؟؟ وفي الآية الثانية، التي سقتها أنت أيضا: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان".. أليست وساطة التعليم فيها ظاهرة؟؟
إن إخواننا يقولون: (إنما أفلح من أفلح بصحبة من أفلح).. ومهما يكن من الأمر، فإن الوساطة موجودة، ولكنها مرحلية لحين يتم، عن طريقها، اللقاء بين العبد والرب، فيكون حينئذ، التلقي بلا واسطة.. ولكن يجب أن نكون دقيقين، حتى لا يقع تخليط بين وساطة النظاف، الأنقياء، الأتقياء، الموسلين، الموصلين، وبين كهنوت كلاب الدنيا، الذين يقطعون على السالكين طريق الوصول، ويدنسون الدين بسخائم نفوسهم، ويستغلونه لمآرب دنياهم.. إن الوسيلة قائمة، ومطلوبة.. وأن الكهنوت موضوع، ومرفوض.. والفرق بينهما واضح.. وعلى من يريد التمييز الدقيق أن يأخذ دينه ممن استقاموا، وألا يأخذه ممن قالوا!!
ولما كان هذا الفصل ليس بالفصل المهم فإني ما أحب أن أطيل في متابعته، وبخاصة أن الكتاب قد طال.. ولكن ما ينبغي أن أختم تعرضي له، في مقامي هذا، قبل الإشارة إلى خطأ أساسي قد تورطت فيه أنت، وذلك حين قلت، من صفحة 224: (أما الضجة التي أثيرت والكلام الذي قيل حول إقامة الحد في القرآن بقطع يد السارق فهي ضجة مفتعلة.. لأن الآية تفسح المجال للعفو عن التائب فمن يسرق ويقل صادقا تبت ولن أسرق بعد الآن يعطي لولي الأمر مجالا لرفع الحد عنه "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم").. فإن قولك هذا قول غير صحيح، ذلك بأن أمر السرقة، إذا بلغ ولي الأمر، وقامت أركان الحد فإنه لا يستطيع أن يعفو، ولا أن يرفع الحد عن السارق.. لا يستطيع أحد أن يرفع الحد عمن قام به الحد.. لا يستطيع ذلك أحد، حتى ولا النبي الكريم..
ما أحب لك أن تعتذر للإسلام، فتبرره، أمام الذين يهاجمونه بغير علم من المستشرقين، بمحاولة التنصل عن الحدود، أو عن الرق، كما فعلت، وكما فعل كثير من جهلاء المسلمين الذين حاولوا الدفاع عنه بمثل هذا الأسلوب.. إن الإسلام مبرر بما يكفي، ولو فهمنا نحن المسلمين دقائق حكمه، فأبرزناها، لكان في ذلك الإقناع، كل الإقناع.. والإفحام، كل الإفحام..