إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

القدر وسر القدر


هناك القضاء، وهناك القدر.. وقد وردت الإشارة إليهما في قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر * وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)..
(الأمر) الذي ورد في قوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) يقع على مستويين: مستوى خارج الزمان، عند الذات.. ومستوى داخل الزمان، مما يلي الذات، حيث يدق الزمان.. وإلى هذا الأخير وردت الإشارة بالتشبيه: (كلمح بالبصر).. وأما (القدر) الذي ورد في قوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، فهو واقع في الزمان، على تفاوت درجاته.. فأما القضاء، الذي هو خارج الزمان، فيسمى سر القدر.. وما القدر إلا تنفيذ هذا السر في حيز الواقع، منجما، وعلى مكث.. والتنفيذ يجري في مضمار ما تحدثنا عنه آنفا من القانون العام، والقانون الخاص..
هناك ما يسمى بالسابقة، وما يسمى باللاحقة، فإن لكل إنسان سابقتين، ولاحقة: سابقة في سر القدر، حيث لا حيث.. وسابقة في القضاء الذي تنزل إلى طرف الزمن، مما يلي الذات.. وقد أشرنا إليه آنفا.. وهذه منطقة مشتركة بين القضاء، والقدر.. هي أدخل في منطقة القدر، منها في منطقة القضاء، لأنها تتسم بالثنائية، في حين أن القضاء الذي هو سر القدر منطقة وحدة مطلقة.. فأما السابقة التي هي في سر القدر فهي خير محض، وهداية بلا غواية، وعلم بلا جهل، وحرية بلا قيد.. وهذه السابقة مكتوبة لكل إنسان من حيث أنه إنسان، يبلغها في المآل، مهما كان حظه في الدنيا من الهدى، أو الضلال.. وأما السابقة التي هي في القضاء المتنزل، أو قل في منطقة القدر، مما يلي القضاء، فهي إما خير، وإما شر – إما هدى، وإما ضلال.. فمن كتب له فيها الهدى فلا يخرج من الدنيا إلا وقد أهتدى.. ومن كتب عليه فيها الضلال فلا يخرج من الدنيا إلا وقد ضل.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل، فلن تجد له وليا مرشدا)..
والسابقتان مغطيتان، إلا على الذين أوتوا العلم.. وأما اللاحقة فهي قد كشفت بالشريعة..
وبكشف اللاحقة بالشريعة انقطعت حجة المحتج بالسابقة، بمعنى أن الذي يتورط في شرب الخمر، مثلا، لا يقبل منه أن يعتذر بأن إرادة الله هي التي ساقته إلى الشرب، ويؤخذ بالشريعة، وقد لزمته الحجة، ذلك بأنه يعلم شريعة الله في تحريم الخمر، ولا يعلم ما سبق له في قضاء الله من هدى، أو ضلال.. وعن القضاء: (سر القدر الذي هو خارج الزمان)، وعن القضاء المتنزل إلى طرف الزمان، وعن القدر، وردت الإشارة في قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء، ويثبت.. وعنده أم الكتاب).. قوله: (يمحو الله ما يشاء، ويثبت)، حكاية عن تقليب الصور، في منطقة القدر، تنفيذا لأمر القضاء.. (وعنده أم الكتاب)، يعني القضاء، في منزلتيه.. فإذا كان القدر هو تنفيذ سر القدر، فإنه، لا محالة، نافذ، حيث توجه، ولا راد له.. وبذلك يكون الإنسان مسيرا.. ومسيرا إلى الخير المطلق، في ذلك، – إلى الحرية المطلقة – ومن دقائق أسرار الألوهية أن يكون الإنسان مسيرا إلى الحرية، ثم إنه، في التسيير، يشعر أنه حر.. ولقد أشرنا إلى ذلك السر عندما ذكرنا أن التسيير إنما يجري عن طريق العقل.. يعني عن طريق قانون المعاوضة.. فإن العقل قد كفلت له حرية الخطأ، والصواب.. فهو يعمل بحرية ظاهرة، فإذا أخطأ عوقب، وإذا أصاب أثيب.. وهو، حين الخطأ، وحين العقاب، يتعلم من خطئه كيف يصيب.. وهو بين الخطأ، والصواب، إنما يمارس حريته في العمل: (إعملوا ما شئتم!! إنه بما تعملون بصير).. وبتصحيح الخطأ في العمل تنمو الحرية، بزيادة العلم بكيفية العمل وبصحة وجوه العمل.
فتكون الحكمة وراء العقوبة، إذن، هي أن يزيد علمنا، فتتسع حريتنا.. فالعقوبة هي ثمن الحرية..
هل الإنسان مخير؟؟ أم هل هو مسير؟؟ هو مسير إلى التخيير.. هو مسير فيما يجهل، ليكون التسيير وسيلته إلى العلم، حيث، بفضل الله، ثم بفضل العلم، يصبح مخيرا..
بإيجاز!! هو مسير إذا جهل، مخير إذا علم.. وأي علم هذا الذي يجعل المسير مخيرا؟؟ هو العلم بأسرار الربوبية، في مستوى حق اليقين، حيث يتم التأدب، مع الربوبية، بالأدب الواجب لها على العبودية – حيث يتم السير خلف الربوبية، لا أمامها، فإنه بذلك يتم حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة – ومن كان حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة لا يقع منه ما يوجب مصادرة حريته، فإنه ما على المحسنين من سبيل..