بين الشريعة والدين
إن قومنا من دعاة الفكر الإسلامي ، في جميع مدارسه ، يخلطون خلطا ذريعا بين الشريعة والدين ، وهم من أجل ذلك يتناقضون ، وعندما يشعرون بالتناقض يحاولون التهرب ، أو التعمية والتمويه ، فلا يبلغون طائلا . وقد أوردنا لك كيف حاول الدكتور حسن الترابي أن يتهرب عن الإجابة حتى حوصر ، فاضطر إلى المواجهة اضطرارا لم يملك معه منصرفا ، ذات اليمين ، ولا ذات الشمال .. وكيف أن الهيئة القومية للدستور الإسلامي الكامل حاولت أن تغرق مسائل حيوية في تعمية تلبس بهرج الأسلوب ، ولتدس فيه عبارة خاطئة من أولها لآخرها ، وذلك قولها "3- يتساوون مع المسلمين في الحقوق والواجبات الأخرى" ثم ذهبت تسوق في حججها آيات منسوخة ..
أول ما تجب الإشارة إليه هو أن الشريعة الإسلامية ليست هي الإسلام ، وإنما هي المدخل على الإسلام .. هي طرف الإسلام الذي نزل إلى أرض الناس منذ أربعة عشر قرنا ، وهي في بعض صورها تحمل سمة "الموقوتية" وهي من ثم قابلة للتطور ، وهي في تطورها تنتقل من نص فرعي، في القرآن، تنزل، لأرض الناس من نص أصلي . وقد اعتبر النص الأصلي منسوخا ، بمعنى أنه مرجأ إلى يومه ، واعتبر النص الفرعي صاحب الوقت ، يومئذ . فتطور الشريعة الإسلامية ، في بعض صورها ، إذن ، إنما يعني انتقالها من نص ، إلى نص ، في القرآن .. فآية السيف ، وأخواتها ليست ، في الإسلام ، أصلا وإنما هي فرع .. وقد تنزل الفرع ، عن الأصل ، بفعل الضرورة ، ليكون قريبا لأرض الناس ، حتى ينقلهم ، على مكث ، إلى الأصل .. فالأصل هي الآيات المنسوخة والفرع الآيات الناسخة .. فإذا كنا نتحدث عن الشريعة الإسلامية فيجب ألا نزج بآية " لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي" إلا إذا كنا ندعو إلى أن تتطور الشريعة ، من آيات الإكراه ، إلى آيات الإسماح . وهو أمر لا يدعو إليه ، بل ولا يعقله دعاة الإسلام عندنا ، إلى الآن .
وهناك أمر خطير يجب تقريره هنا ، وهو أن الشريعة الإسلامية ليست ديمقراطية ، ولا هي اشتراكية ، وإنما هي تقوم ، في السياسة ، على آية الشورى ، وهي آية حكم الفرد الرشيد ، الذي جعل وصيا على قوم قصر ، وقد طلب إليه أن يحسن تربيتهم ، ورعايتهم ، وترشيدهم ليكونوا أهلا للديمقراطية . ويومئذ تتطور شريعتهم لتنتقل من فروع القرآن إلى أصوله - من آية الشورى إلى آيتي " فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر " فتكون بهذا التطوير أدخل في الإسلام من سابقتها . أو قل منها قبل أن تتطور .
ومثل هذا يقال عن الاشتراكية ، فإن شريعة الإسلام الحاضرة ليست اشتراكية ، وإنما هي رأسمالية ، أريد بها أن تكون مرحلة تسير الأمة السالفة إلى منازل الاشتراكية . ويومئذ تتطور الشريعة الحاضرة ، بأن تنتقل من فروع القرآن إلى أصوله - من آية الزكاة الصغرى (الفرعية) " خذ من أمولهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم " إلى آية الزكاة الكبرى (الأصلية) " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " .
ففي الشريعة الحاضرة ليست هناك ديمقراطية ومن ثم ليس هناك دستور إسلامي .. وكل حديث عن الدستور الإسلامي من الذين لا يرون تطوير الشريعة الإسلامية إنما هو جهل مزدوج - جهل بالإسلام ، وجهل بثقافة العصر .. وهو ما يقوم عليه أمر دعاة الإسلام عندنا . ونحن نحب أن نقول لهم في ختام هذه المقدمة أنكم إن لم تفهموا حقيقة الإسلام ، وطبيعة ثقافة العصر الحاضر ، فمن الخير أن تكفوا عن الدعوة إلى الإسلام .. وإلا فإنكم تحملون وزر تعويق الدعوة إليه بجهالات تحاولون أن تلصقوها به ، وهو منها براء .. وستكون حصيلة محاولتكم تأخير قافلة الدعاة الحقيقيين بعض الوقت . وبحسب المرء من الشر أن يعوق بجهالته ، دعوة الخير ، ولو لحظة واحدة ، وهو يعلم .