ما هي صورة البعث الاسلامي؟
أول ما يجب تقريره هو أن "المسلمين" اليوم ليسوا على شىء! هم ليسوا الاّ على قشور من الإسلام، والاّ على قشور من الحضارة المادية الغربية.. صاروا لا يصنعون التاريخ، ولا يسهمون في صنعه، وإنما هم يعيشون على هامشه! صاروا غثاء كغثاء السيل لا يبالي الله بهم، كما هي نبوءة النبي الكريم حين قال: (يوشك أن تداعي عليكم الأمم كتداعي الأكلة على القصعة، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير!! ولكنكم غثاء، كغثاء السيل، لا يبالي الله بكم!!).. وهناك دلالتان واضحتان على نصول "المسلمين" اليوم، عن دينهم.. أولاهما مفارقاتهم الأخلاقية له.. فلم تعد معاملاتهم، فيما بينهم، وفيما بينهم وبين غيرهم، إسلامية.. مع أن "الدين المعاملة" كما هو التوجيه النبوي الكريم. وثانيتهما ما خرجوا به في حروبهم المتوالية مع إسرائيل من الهزائم المنكرة، حيث كانت إسرائيل تحارب بضراوة المتعصب لدينه، المتمكن من المعرفة بوسائل الحرب الحديثة، بينما كان العرب يحاربون بقلوب خواء.. مع أن الله تعالي قد تكفّل بنصرة المؤمنين فقال ((وكان حقا علينا نصر المؤمنين)).. ووعد الله غير مكذوب.. فلم يبق الاّ أن المسلمين اليوم خلو من الإيمان..
وهذا الحال يقتضي بعثا جديدا للإسلام، بعد أن مات في الصدور، فأنقلب سوءا في المعاملات.. هذا الحال يقتضي بعث "لا إله الاّ الله" من جديد، لتعود لها حرارتها، ونقاوتها، وبساطتها، يوم أن صدع بها محمد، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، في شعاب مكة، فصنع بها التاريخ من جديد، ووجّه مجرى الأحداث، وأخرج مدنية جديدة، في وقت استطاعت أن تنفخ الروح في الحضارة المادية التي كانت تمثلها الدولة الفارسية، في الشرق، والدولة الرومانية في الغرب، وأن تفض، في داخلها، هاتين الكتلتين، ولكن ماذا نعنى ببعث الإسلام؟
لقد فصّلنا ما نعنى ببعث الإسلام في كتب "الدعوة الإسلامية الجديدة" التي يبشر بها الأستاذ محمود محمد طه، وخلاصة هذه الدعوة أن القرآن أصول وفروع، قامت أصوله وهي القرآن المكي، على الديمقراطية ((فذكر انما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر))، وعلى الإشتراكية ((ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو))، وعلى المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة))، بينما قامت فروع القرآن، وهي القرآن المدني، (والمعروفة عندنا بالشريعة الإسلامية الموروثة) على الوصاية، أو الشورى في السياسة ((وشاورهم في الأمر .. فاذا عزمت فتوكل علي الله))، وعلى الرأسمالية الملطفة في المال ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، وتزكيهم بها، وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم))، وعلى قوامة الرجال على النساء في الاجتماع ((الرجال قوامون على النساء..)) الآية.
وقد وقع النسخ على الأصول من الفروع، فجاءت الشريعة الاسلامية الموروثة حكيمة وصالحة لوقتها، إذ كان المجتمع البشرى قاصرا عن مستوى الحرية الفردية، والمسئولية الفردية، الذي تتطّلع اليه بشرية اليوم، فأدّخر الله لها هذا المستوى في هذه الأصول. وهو ما نعني بالمستوى العلمي من الإسلام حيث تتوفر أصول الإسلام على الحقوق الأساسية للإنسان، وحيث يصير بها الإسلام "دين الفطرة" الذي يخاطب الفطرة البشرية، وهي العقل والقلب، من حيث هي بشرية بغض النظر عن الاختلافات العقيدية، والعنصرية، والجنسية.. والإسلام بهذا المستوى ليس دينا بالمعنى المألوف للأديان، وإنما مرحلة العقيدة فيه مرحلة إنتقال الى المرحلة العلمية منه.. هو بهذه الصورة جماع الأديان.. هو نقطة إلتقاء جميع الأديان..
هذا وكل محاولة "لتحكيم" الشريعة الاسلامية الموروثة في حياة "المسلمين" اليوم إنما هي ضرب من الجهل بحقائق الإسلام، وبحقائق العصر، ثم هي محاولة مقضي عليها بالفشل الذريع فلا بد من الفهم الواعي للإسلام حتى يتم البعث الاسلامي في مستوى أصول الإسلام التي تستوعب مقدرات الإنسان المعاصر الهائلة، وتستجيب لتطلعاته الجديدة، التي لم يسبق للبشرية بها عهد من قبل على مدى تاريخها الطويل..