بسم الله الرحمن الرحيم
10/12/1977
القرار
موجز الوقائع:
بتاريخ 31/5/1977م الساعة 10 صباحا كان الشاكي خيري أحمد خيري شاهد اتهام (2) ومعه اثنان من زملائه الجمهوريين وهما شاهدا اتهام (3) يوسف صالح أحمد وشاهد اتهام (4) عبد الله أحمد النعيم يعرضون كتب الفكرة الجمهورية للدعوة الإسلامية الجديدة على الناس في السوق العمومي. وبالقرب من بنك الخرطوم وجدوا جماعة من بينهم المتهم فعرضوا الكتب على واحد من هذه المجموعة فردّ عليهم بعربية فصيحة بأنه لا يريد شراء كتب الفكر الجمهوري وأنه مختلف معهم قلبا وقالبا وأنه قرأ كتب الفكر الجمهوري وكون فيها رأيا محددا. وقرر ألا يقرأ لهم مرة أخرى ثم ألتفت هذا الشخص وهو شاهد دفاع (1) الى المتهم وقال مشيرا إليه ولنا في مولانا أسوة حسنة، وما كان من المتهم الاّ أن قال وبادر بالمهاترة والسباب وشتم الأخوان الجمهوريين، ووصفهم بأنهم كفار.. وأنهم أولاد حرام وأن الأستاذ محمود محمد طه ود حرام وأنه قليل الأدب وأنهم ملاعين.. وأولاد كلب.. وأنهم أباحوا اللواط وحللوا المحرمات... ووصف الأخوات الجمهوريات بأنهن عاهرات ومطلوقات.. ولما شعر الشاهد خيري أحمد خيري أن الأمر سيتفاقم وأن الموضوع لا يستحق الوقوف عنده رأى من الأفضل أن يغادر ذاك المكان خوفا مما لا تحمد عقباه فلما همّ بالإنصراف وأدار ظهره سمع أحدهم ولعله شاهد دفاع (1) ينبهه بقوله لا.. لا.. فلما التفت ليرى ما قد يحدث فإذا بطرف عصاة المتهم تقع على ظهره.. وعلى هذا إنفض الشجار وأخذ شاهد دفاع (1) المتهم بعربته وأوصله الى بيته تفاديا لما قد يحدث.. وبعد ذلك اجتمع الأخوان الجمهوريون وقيّموا الأمر فبما بينهم وقرّ رأيهم على أن يفتح بلاغ فيما حدث وعلى هذا الأساس تقدّم الشاكي خيري أحمد خيري شاهد اتهام (2) بشكوى يوم 1/6/1977 تحت المواد 296 – 441 من قانون العقوبات وبعد سماع إفادات شهود الإتهام واستجواب المتهم تحت المادة 218 إجراآت توصلت المحكمة إلى أن مواد الإتهام الواجبة التطبيق هي المواد 435 – 296 من قانون العقوبات.. وحسب منطوق المادة 435 عقوبات فانها تنص على الآتي: -
((... كل من تصدر منه أو ينشر أخبارا كاذبة إما بكلام يجهر به أو ينقله بأي وسيلة آلية أو يراد أن يقرأه الناس واما بالإشارات أو بطرق التعبير المرئية قاصدا بذلك أو مع علمه أو وجود ما يحمله على الإعتقاد بأن هذه الأخبار الكاذبة قد تخدش سمعة أي شخص أو طبقة من الناس أو سمعة الدولة أو أي من مؤسساتها الدستورية أو هيئاتها الإدارية أو أجهزتها السياسية يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز سنتين أو بالغرامة أو بالعقوبتين مع...
))
ومن هذه المادة يمكن أن نلخّص عناصرها في الآتي: -
(1) أن يصدر عن الجاني أو ينشر أخبارا تتضمّن واقعة معينة أو وقائع معينة
(2) أن يحصل ذلك إما بكلام يجهر به أو أن ينقله الجاني بأية وسيلة آلية أو يراد أن يقرأه الناس أو بالإشارات أو بطرق تعبير مرئية..
(3) أن تكون العبارة أو العبارات الصادرة تتضمّن أخبارا كاذبة..
(4) أن تحيف العبارات الكاذبة بالأفراد أو الجماعات كمجموع..
(5) ان الجاني بهذه العبارات الكاذبة خدش سمعة أي شخص أو مجموعة من الناس وأن يوجد ما يحمل على الإعتقاد بأن هذه الأخبار كاذبة تخدش سمعة تلك المجموعة..
وعلى هذا يمكن للمحكمة أن تطرح على نفسها الأسئلة التالية: -
س1: هل العبارات التي صدرت تضمنت واقعة أو وقائع معينة؟ والمحكمة تجيب على ذلك بنعم. إذ أن المتهم وصف الأخوان الجمهوريين بأنهم كفار حسب افادة شاهد الإتهام (2) وأنهم أباحوا اللواط حسب افادة شاهد الإتهام (4) وأنهم حللوا المحرمات حسب إفادة شاهد الإتهام (3) وشاهد الإتهام (4) وأن بناتهم عاهرات ومطلوقات حسب إفادة شاهد اتهام (2)
س2: هل جهر المتهم بالعبارات الكاذبة التي ذكرها في حق الجمهوريين؟
والمحكمة تجيب على ذلك بنعم. اذن ان شاهد الاتهام (2) وشاهد الاتهام (3) وشاهد الاتهام (4) أكدوا على اليمين أنهم سمعوا المتهم يتفوّه بالألفاظ المذكورة في الفقرة (1)
س3: هل تضمنت العبارات التي صدرت من المتهم أخبارا كاذبة؟ والمحكمة تجيب على ذلك بنعم، إذ لم يستطع المتهم أن يثبت أن الأخوان الجمهوريين أباحوا اللواط أو حللوا المحرمات وأن بناتهم عاهرات..... الخ
))
س4: هل قصد الجاني بالعبارات المذكورة آنفا خدش سمعة الأخوان الجمهوريين كمجموعة مع علمه بكذبها؟
والمحكمة تجيب على ذلك أيضا بنعم، إذ أن المتهم أراد إيذاء سمعتهم وتنفير الناس منهم وإزدراءهم في الوسط الذي يعيشون فيه بنشره تلك الأوصاف القبيحة التي ذكرها مع علمه بأن ما قاله ليس صحيحا بدليل أنه لم يستطع أن يورد البينة على صحته.
أما المادة 296 من قانون العقوبات فإنها تنص على الآتي: -
((كل من يتهجّم على أي شخص أو يستعمل معه القوة الجنائية من غير أن يصدر من هذا الشخص استفزاز شديد مفاجيء يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تزيد على عشرة جنيهات
))
فالمتهم قد تهجّم على الشاكي حسب التعريف الوارد عن التهجّم في متن المادة 295 عقوبات واستعمل معه القوة الجنائية حسب التعريف الوارد في متن المادة 294 عقوبات.
وعلى هذا يمكن أن نلخّص عناصر استعمال القوة الجنائية في المادة 294 "أرجع للقانون" والتهجّم في المادة 295 "أرجع للقانون" في الآتي: -
1) أن يستعمل الجاني القوة بمعناها الوارد في المادة 293 عقوبات ويكفي فيها مجرّد الملامسة التي تؤثر في الشعور..
2) أن يكون ذلك دون رضا المجني عليه..
3) أن يكون ذلك عمدا..
4) أن الا يكون حصل استفزاز شديد مفاجيء..
أما التهجّم فعناصره تتلخّص في الآتي: -
1) أن يصدر عن الجاني ايماء gesture أو تحفّز provocation لاستعمال القوة..
2) أن يكون الجاني قد أتى هذا الإيماء أو التحفّز في حضور الشخص المقصود به..
3) أن يكون الإيماء أو التحفّز سببا لخوف المجني عليه من أن الجاني يوشك أن يباشر القوة الجنائية عليه..
4) أن يقصد الجاني من التحفّز أن يلقي في روع المجني عليه أنه يوشك أن يستعمل القوة الجنائية معه أو احتمال أن يسبب فعله ذلك الخوف..
وعلى ضوء هذه العناصر تثير المحكمة الإستفسارات التالية:
س1 هل تعمّد الجاني استعمال القوة الجنائية مع الشاكي دون استفزاز شديد ومفاجئ؟
والمحكمة تجيب على ذلك بنعم إذ أن شاهد اتهام (2) وشاهد اتهام (3) وشاهد اتهام (4) أكدوا على اليمين أن المتهم أهوى عمدا بعصاه على ظهر الشاكي خيري أحمد خيري وان ذلك لم يكن نتيجة استفزاز شديد ومفاجئ إذا اعتبرنا أن معيار الاستفزاز موضوعي..
فالمتهم يدفع بأن الفكر الجمهوري في مجموعه يستفزه لأنه يحمل الغريب من الأفكار بالنسبة للدعوة الإسلامية ولكن الدفاع من خلال مناقشاته لم يفلح في إثبات عنصر الاستفزاز إذا اعتبرنا المعيار موضوعي...
الفكر الجمهوري أو الدعوة الإسلامية الجديدة كما يسمونها بشرت برسالة الإسلام الثانية فالرسالة الأولى في نظرهم هي مستوى التشريع الإسلامي لعامة الناس دون التشريع الفردي الذي كان يعيشه الرسول في خاصة نفسه وهو ما يسمى بمستوى السنّة أو الرسالة الثانية ومستوى السنّة الذي كان يعيشه الرسول في خاصة نفسه في نظرهم أرفع مكانا من مستوى الشريعة لذا أرادوا بدعوتهم الجديدة أن يعيدوا ما اندثر أو أحياء شريعة سيدنا محمد الفردية لتكون للناس عامة بتقليد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم....
والجمهوريون قسّموا القرآن الى أصول وفروع وذكروا أن آيات الفروع شريعة لعامة الناس وهي الرسالة الأولى.. أما الرسالة الثانية فقد إنبنت على آيات الأصول وعمل بها الرسول في خاصة نفسه وذكروا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم هو رسول الرسالة الأولى والثانية ولم يقولوا محمود محمد طه هو رسول الرسالة الثانية ولكنهم ذكروا أن الرسول صلى الله عليه وسلّم فصّل الرسالة الأولى وأجمل الرسالة الثانية وترك تفصيلها إلى يوم يتأذن الله فيه بذلك... والجمهوريون سعوا الى تطوير الشريعة الإسلامية وذلك بالإنتقال من نص فرعي في القرآن خدم عرضه على حد تعبيرهم الى نص أصلي مدّخر في القرآن الى أن يجيء وقته.. فمثلا في الزكاة أرادوا تطويرها من زكاة المقادير التي وردت في آيات الفروع إلى زكاة الرسول التي وردت في آيات الأصول وهي الإنفاق عما زاد من الحاجة وهي بالتأكيد مستوى أرفع من زكاة المقادير وقس على ذلك في كل ما دعوا اليه...
))
وعلى كل فالفكرة الجمهورية لم تخرج من القرآن الكريم ولا من تقليد الرسول صلى الله عليه وسلّم وكل ما جاء فيها منطقي ويقبله العقل لذا فلا أرى أن هناك استفزاز بالمعيار الموضوعي يوجب التهجّم واستعمال القوة الجنائية معهم..
س2: هل تحفز الجاني في حضور المجني عليه لاستعمال القوة الجنائية بقصد تخويفه؟
والمحكمة تجيب على ذلك بنعم، استنادا على بينة شاهد اتهام (2) وشاهد اتهام (3) وشاهد اتهام (4) على اليمين يؤيدهم في ذلك إعتراف المتهم بنفسه في يومية التحرّي بأنه رفع العصا للتخويف في ثورة غضب وأنه لا يدري إن وقعت العصا في الشاكي أم لا ولو أن البينة في يومية التحرّي ليست مقبولة في الإثبات حسب النص المادة 116 إجراءات لسنة 1974، الاّ أنه جاء في قضية حكومة السودان ضد حماد معلى جاد الله وآخرين م ع/ ط ج/56/74/ جاء في مذكرة المحكمة العليا بصفحة – 5- بالفقرة الرابعة ما يلي: -
((والأقوال الواردة في يومية التحرّي لا تلقى في البحر ولكن تؤخذ كخلفية لمقابلة الأقوال التي ترد أمام المحكمة، لأسباب منها.. أن الأقوال التي يدلي بها بعد الحادث مباشرة عادة لا تكون مشبوهة
))
وأما ما أثاره محامي الدفاع من دفوع وطالب في ختامها براءة ساحة المتهم بموجبها فالمحكمة ليست ملزمة وهي تتحرى الواقع في الدعوى أن تتابع المتهم في مناحي دفاعه الموضوعي وأن ترد استقلالا على كل جزئية أو قولا يبديه أو حجة يثيرها ما دام الرد عليها مستفادا ضمنا من أدلة الثبوت التي أوردتها المحكمة، وفي طرحها لما عداها معناه أنها لم تر في غيرها ما يصح الركون اليه وما أثاره المتهم لا يخرج عن كونه جدلا.
لكل ما تقدّم فالمحكمة تجد المتهم مذنبا تحت المواد 435، 296 بعد أن بينت وقائع الدعوى بما تتوافر فيها العناصر القانونية للجريمة مستندة في ذلك الى الأدلة التي أوردها الإتهام والتي من شأنها أن تؤدي إلى ما رتب عليها، وطرح دفاع المتهم للإعتبارات السالفة التي ذكرتها.
وعليه تجد المحكمة أن المتهم مذنب تحت المواد السالفة الذكر.
توقيع
عبد العزيز صديق حمدتو 10/12/1977م