الشريعة في خدمة الحرية الفردية المطلقة
شريعة العبادات كلها شريعة فردية لأن مدارها على الضمير المغيب ، ولا يطعن في هذا التقرير أن بعض العبادات تؤدى في جماعة ، وفي الحق ، أن كل أعمال الإسلام في العبادات ، والمعاملات ، تركز على الضمير تركيزا أساسيا ، ومن ههنا جاء قول المعصوم: (( نية المرء خير من عمله )) . فالنية تجري من العمل مجرى الروح في الجسد ، فإذا خرجت الروح من الجسد فسد ، وتحلل ، وأصبح هباء منثورا ، وإلى ذلك الإشارة الكريمة بقوله تعالى (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )) ذلك لأنه عمل لا روح فيه ، أو قل لا نية صالحة لوجه الله وراءه .
والخطيئة إنما تبدأ في الخاطر ، والخاطر هو حديث الضمير ، فإذا كان الضمير المحجب ينطوي على إثم فان خواطره تكون شريرة ، ثم لا تلبث هذه الخواطر أن تلح على صاحبها حتى ينطلق بها لسـانه ، فيكون كلامه شريرا ، ثم لا يلبث هذا الكلام الشرير أن يلح على صاحبه حتى يبرز إلى حيز العمل ، فيكون عمله شريرا أيضا ، فإذا كان الفرد يفكر بالشر في ضميره المغيب ، ويتحدث بالشر ، وتتحرك أعضاؤه بعمل الشر ، فقد وجب أن تسحب حريته ، وأن تصادر ، بيد أن هذه المصادرة يجب أن تكون لمصلحته هو أولا ، ثم لمصلحة الجماعة في المكان الثاني ، وهي إنما تكون لمصلحته إذا كان إنما يفيد منها تربية تجعله أهلا لاسترداد حريته من جديد ، مع المقدرة على حسن التصرف فيها .
ومما لا شك فيه ان التشريع ، سواء كان تشريع عادة ، أو تشريع عبادة ، إنما هو منهاج تربوي يرتفع ، بالمجتمعات وبالأفراد ، من الغلظة ، والجفوة إلى اللطف والإنسانية ، وكلما كان الناس غلاظ الأكباد ، بليدي الحس ، كلما شدد عليهم في التشريع ، وكبلوا بالقيود والأثقال . فلو أن الناس رعوا ما عليهم ، حق رعايته ، لما أعنتوا في أمر من أمور معاشهم ، ولا أمور معادهم ، والله تبارك وتعالى يقول (( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، وكان الله شاكرا عليما ؟ )) لكن حاجة الناس إلى التربية ، والتأنيس ، والترويض ، هي التي حرمت المحرمات ، وهي التي عزمت العزائم ، وجاءت المحرمات والعزائم وفق الحاجة إليها . وقد تحدثنا عن التشديد على الفرد عند نشأة المجتمع البشري في سحيق الآماد بما يكفي ، فإذا جئنا إلى العصور الحديثة ، عصور الديانات الكتابية التي نعرفها ، نجد أن القاعدة تطرد ولا تتخلف ، فهذا القرآن يحدثنا عن اليهود فيقول (( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهـم طيبات أحلت لهم ، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ، وأخذهم الربا ، وقد نهوا عنه ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما )) ويقول أيضا عنهم ، (( وإذ قال موسى لقومه يا قومي إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم ، فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم خير لكم عند بارئكم ، فتاب عليكم ، إنه هو التواب الرحيم )) .
فلغلظة أكبادهم ، وبلادة حسهم ، شدد عليهم ، فحرمت عليهم الطيبات ، وفرض عليهم ، في التـوبة ، أن يقتلوا أنفسهم قتلا حسيا ، وهو بسبيل مما تحدثنا عنه في أمر التضحية بالفرد البشري على مذابح العبادة في أول النشأة .
ولما تقدم الفرد البشري هوناً ما ، وأصبح لا يحتاج كل ذلك التشديد ليتربى ، خفف عنه ، فجاء التشريع في حق الأمة المحمدية يقول (( قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ميتة ، أو دما مسفوحا ، أو لحم خنزير ، فإنه رجس ، أو فسقا أهل لغير الله به ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، فإن ربك غفور رحيم )) وقال في حقهم أيضا ، (( يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، إلا أن تكون تجارة ، عن تراض منكم ، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )) .
فضاقت دائرة المحرمات في التشريع الأخير ، واختصرت إلى أربعة ، كلها خبيث ، ثم تجاوز حتى عن هذه الأربعة للمضطر ، إذا لم يكن باغيا ، ولا عاديا على أحد .
ونهى عن قتل النفس ، حين أصبحت تستجيب بأقل من هذا العنف فقال (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )) وهو إنما كان ، في شريعته ، بنا رحيما لأننا أصبحنا رحماء (( كما تدين تدان )) .
وتواصل القاعدة اطرادها في المزيد من التخفيف على الناس كلما أصبحوا من رهافة الحس بحيث لا يحتاجون الشدة ليتعلموا .. ويبلغ من أمر هذا التخفيف أن ينتقل التحريم من الأعيان الحسية إلى صور السلوك المعنوية ، فاسمع القرآن الكريم يحدثنا فيقول : (( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ، ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ قل هي للذين آمنوا ، في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون * قل إنما حرم ربي الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، والإثم ، والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )) ويقول ، (( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم ، إلا ما اضطررتم إليه ، وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين * وذروا ظاهـر الإثـم وباطنـه ، إن الذين يكسبون الإثـم سـيجزون بما كانوا يقتـرفون )) .
فإذا المحرم حقا ، وفي آخر الأمر ، هو عيب السلوك ، ونقص الأخلاق ، وإنما حرم المحسوس من الأعيان المحرمة كوسيلة لشفاء النفوس من عيوب السلوك ، ومن نقص الأخلاق ، وذلك على القاعدة الحكيمة التي تطالعنا بها هذه الآية الكريمة ، (( سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟ )) وحين ينسحب التحريم من الصور الحسية الغليظة إلى الصور المعنوية الدقيقة في عيوب السيرة بين الناس ، يواصل هذا الانسحاب حتى يصل خفايا السريرة ، وما يحوك فيها من خواطر الإثم ، وحين قال (( وذروا ظاهر الإثم وباطنه )) إنما جاء الأمر بترك ظاهر الإثم في مكان الوسيلة ، وجاء الأمر بترك باطن الإثم في مكان الغاية . فكأنه قال : أتركوا ظاهر الإثم لتتمكنوا من ترك باطنه ، لأنه هو مصدر كل الشرور .. ويصل القرآن بمطاردة الإثم إلى أغوار السريرة حين يقول (( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ، يحاسبكم به الله )) وحين يقول (( وعنت الوجوه للحي القيوم ، وقد خاب من حمل ظلما )) والظلم هنا الشرك الخفي ، وإليه يرجع كل الشر ، في جميع صوره ، وإنما يكون الشرك الخفي في سر السريرة ، وأخفى منه ما يكون في سر السر ، كما يقول أصحابنا الصوفية والقرآن في ذلك يقول (( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى )) أخفى من السر ، وهو سر السر . فأسلوب القرآن في شفاء النفوس من الخطيئة أسلوب عكسي ، يبدأ من الخارج ، ويسير إلى الداخل . (( سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد ؟ )) قوله (( سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم )) يعني ، في جملة ما يعني ، أن السالك في طريق الله ، يراقب نفسه ، في أول أمره ، ويحاسبها ، لتترك عيوب العمل ، في حين أنها متورطة ، في هذه الأثناءة ، في عيوب القول ، ولكنه يسمح بذلك كنوع من التدريج للنفس ، ثم هو ، إن استقام له أمر نفسه في ترك عيوب العمل ، وكان ذلك منها في سلاسة بينة وانقياد ، زحف بها إلى تكليفها ترك عيوب القول ، في حين أنها متورطة ، في هذه الأثناءة ، في عيوب الخواطر ، فهي مشوشة الخواطر ، كثيرة الثرثرة الباطنية ، ولكنه يسمح لها بذلك سياسة لها وتدريجا ، إذ كلفها أمرا شاقا في ترك ثرثرة اللسان ، ثم هو ، إن استقام له أمره على ما يحب في ضبط لسانه ، بعد ضبط جوارحه ، يكون كل أولئك قد ترك أثرا حميدا في تهذيب الخواطر فيصبح عليه أن يزحف نحوها في ثبات وثقة ، يهذبها بعد تشويش ، ويسكنها بعد جيشان ، فإن هو استقام له أمره على خير ما يحب ، وسلم صدره من الوساوس وتنقت السريرة ، فقد يبدأ ، بصورة جلية ، الأسلوب الطردي ، بعد أن وصل الأسلوب العكسي إلى هذه المرحلة المتقدمة ، ويجئ دور قوله تعالى من الآية السالفة الذكر: (( أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد ؟ )) ويكون أغلب نظر الإنسان بعد ذلك إلى داخله بعد أن كان مشغولا ومهووسا بالخارج . وعند ذلك توشك المطابقة أن تتم بين السيرة والسريرة ، فإن نقاء السريرة ينعكس في استقامة السيرة ، ويبلغ صاحب هذه السيرة عتبة الحرية الفردية المطلقة . وكلما تنقت السريرة ، كلما استقامت السيرة ، فضاقت لذلك دائرة المحرمات ، وانداحت دائرة المباحات ، على قاعدة الآية الكريمة ، (( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكرا عليما ؟ )) فإذا استمر السير بالساير إلى نهايته المرجوة ، وهي تمام نقاء السريرة ، وكمال استقامة السيرة ، عادت جميع الأعيان المحسوسة إلى أصلها من الحل ، وانطبقت الآية الكريمة ، (( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ، إذا ما اتقـوا ، وآمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقـوا ، وآمنوا، ثم اتقـوا، وأحسنوا، والله يحب المحسنين )) .
وهذه مرتبة متقدمة من مراتب الحرية الفردية المطلقة ، التي قد طوع كل تشريع الإسلام ليبلغها الأفراد ، ومن أكبر آيات هذا التطويع أن التشريع كله ، وفي كل صوره ، مبني على المعاوضة ، أو قل القصاص (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ، لعلكم تتقون )) والقرآن أيضا يقول ، (( ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوء يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ، ولا نصيرا )) ويقول (( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين ، إن شاء ، أو يتوب عليهم ، إن الله كان غفورا رحيما )) ويقول (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وهاتان الآيتان هما قوام الأمر كله ، في مبنى الشريعة ، وفي مبنـى الحقيـقة .. يعني في عقـوبة الدنيـا أو ثوابـها ، وفي عقـوبة الآخـرة أو ثوابها .
والقرآن يقول (( ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما )) فسئل عنها شيخ الطائفة الصوفية ، أبو القاسم الجنيد فقال (( يسأل الصادقين ، عند أنفسهم ، عن صدقهم ، عند الله .)) والصدق عند الله مطلق ، والصدق عند الخلق نسبي ، فيجزي كل صاحب صدق بما يبلغ صدقه بالقياس إلى الصدق المطلق ، كما قال (( ليجزي الصادقين بصدقهم )) وهذا الجزاء قصاص في الشريعة ، وقصاص في الحقيقة أيضا ، كما وردت إلى ذلك الإشارة (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )) حياة هنا تعني زيادة معرفة . فحين تجازون بالخير على ما عملتم من خير ، على قاعدة الحسنة بعشر أمثالها ، أو تضاعف ، وحين تعاقبون على السيئة بمثلها ، أو يعفى عنها ، تزيدون حياة على حياتكم السابقة ، بارتفاع مدارككم ، وصفاء عقولكم ، وبسلامة قلوبكم .
وهذه الزيادة في المدارك ، لدى القصاص في الشريعة ، لا تحتاج إلى عميق فكر ، فهي ظاهرة ، وذلك أن الفرد لا يتعدى على حريات الآخرين ، أثناء ممارسته لحريته ، إلا لجهل ، وغباء ، وقصور تخيل .. فمن قلع عين أحد ، أثناء ثورة غضب ، مثلا ، لا يفعل ذلك وهو متخيل تماما لمبلغ الألم ، وفداحة الضرر ، الذي يلحقه بضحيته . فإذا ما اقتص منه ، فوضع في موضع الضحية ، وقلعت عينه معاوضة منه لفعله ذلك ، فقد تحقق غرضان في آن معا ، أولهما حفظ حق الجماعة ، بردع المعتدي في نفسه ، وبجعله نكالا لغيره ، وثانيهما إحراز حاجة الفرد إلى سعة التخيل ، حيث أعطي الفرصة ليعيش التجربة الأليمة التي فرضها على غيره لقصر في تخيله شدة الألم ، وفداحة الخسـارة ، اللذين تسبب فيهما ، وإنه لمما لا ريب فيه أن مثل هذه التجربة الأليمة تجعل من يتعرض لها أكثر إنسانية ، في مقبل أيامه ، منه في سابقتها ، فهو لا يمكن أن يسقط من اعتباره نتائج تصرفه على الآخرين . وهو ، على أيسر تقدير ، سيكف أذاه عن الآخرين ، وقد يحتمل أذاهم أيضا ، وسيكون ، على التحقيق ، كثير الاعتبار لهم ، حين يتصرف ، وقد يقوده هذا الصنيع ، معانا بالعبادة ، إلى الكلف بتوصيل الخير اليهم ، وهو خليق أن يجد في ذلك رضا نفسه ، وطمأنينة قلبه . فإن هو بلغ ذلك فقد وقف على أعتاب الحرية الفردية المطلقة ، بفضل ما أصاب من الوعي وسعة التخيل اللذين أفاده إياهما القصاص . وإن هو لم يبلغ هذا المبلغ فحسبه أن يكون واعيا لحدود حريته وحدود حريات الآخرين ، وفي ذلك خير كثير . والمعاوضة في حد الزنا تقوم على الرجم ، أو على الجلد ، حسب مقتضى الحال ، وذلك أن الزاني حين ذهب يبحث عن اللذة ، حيث كانت ، ومن غير اعتبار لشريعة ، أذيق الألم ليرده لصوابه ، فإن موقع الألم من وادي النفس يقـوم على العـدوة القصـوى ، حيـن تقـوم اللذة على العـدوة الدنيا ، وفي شـد النفس إلى الألم ، حيـن تتـهافت على اللـذة المحـرمة ، إقامـة للوزن بالقسـط مـما يعينها على الاعتـدال ، ويجعـلها أبعد من الطيش والنـزق.
وحد الخمر يقوم على نفس الأصل ، وذلك أن صاحب الخمر حين يسعى في إلغاء عقله ، إنما يريد أن يهرب من واقعه ليعيش في دنيا من صنع أوهامه ، وأخيلته المريضة ، فأريد بألم الجلد أن يرده إلى واقعه المرير ليعمل عقله في تغييره ، فإن الواقع لا يتغير بالهروب منه ، وإنما يتغير بمواجهته ، وإعمال الفكر في تغييره ، والله تعالى يقول (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) .
ثم إن العقل ، وبه وحده استحق الإنسان الكرامة على الحيوان ، هو الإبن الشرعي للقاح اللذة بالألم ، منذ سحيق الآماد ، وعبر رحلة الحياة الشاقة ، فإذا حاف عليه صاحبه ، في لحظة من لحظات الضعف ، فإن في لذع الألم لما يعينه على استعادة مكانه من قيادة السفينة في خضم الحياة الصخاب ، حتى يبلـغ بها بـر السـلامة .
وقانون المعاوضة ـ القصاص ـ قانون ينبع من أصل في الحياة أصيل ، فهو ليس قانون دين بالمعنى المألوف في الأديان ، ونحن حين نقرر أن تشاريع الإسلام مبنية على القصاص ، إنما نعني الإسلام في حقيقته ، لا في عقيدته ، والإسلام في حقيقته ليس دينا بما ألف الناس عن الأديان ، وإنما هو علم ، وما مرحلة العقيدة فيه إلا مرحلة انتقال إلى المرحلة العلمية منه .. مرحلة الشريعة فيه مرحلة انتقال إلى مرتبة الحقيقة حيث يرتفع الأفراد ، من الشريعة الجماعية ، إلى الشرائع الفردية ، التي هي طرف من حقيقة كل صاحب حقيقة .
(( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ؟ ، * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ، نبتليه ، فجعلناه سميعا بصيرا )) .. (( هل )) تعني هنا قد و (( الإنسان )) تعني جنـس الإنسان . (( لم يكن شيئا مذكورا )) تعني أنه كان يتقلب في المستويات الدنيا من الحياة ، لم يظهر فيه العقل ، الذي عليه انبنى التكليف ، وبه رفع الذكر . و(( نطفة أمشاج )) تعني الماء الصافي المخلوط بالطين ، ومنه نشأت الحياة في ظلمات الدهر . وأما قوله (( نبتليه )) فهو روح الآية ، لأنه يشير إلى الصراع في البيئة الطبيعية ، بين الحي والقوى الصماء ، وبينه وبين إخوانه في الحياة ، وهو ما سبقت الإشارة الى جانب منه ، حين تحدثنا عن نشأة المجتمع البشري ، وهذا الصراع ، قبل ، وبعد نشأة المجتمع البشري ، كان ولا يزال ، قانونه المعاوضة (( القصاص )) .
قوله (( فجعلناه سميعا بصيرا )) إشارة إلى العقل ، والى كون العقل وليد الصراع الذي يهتدي بقانون المعاوضة (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) ووردت بعد الآيتين السالفتين من سورة الدهر الآية (( إنا هديناه السبيل ، إما شاكرا ، وإما كفورا )) .. (( إما شاكرا )) تعني مصيبا ، (( وإما كفورا )) تعني مخطئا ، وهكذا يرتجح العقل في أرجوحة الخطأ والصواب . وفي ذلك كماله (( إن لم تخطئـوا وتستغفـروا ، فسيأت الله بقـوم يخطئـون ويستغفرون فيغفـر لهم )) كما قال المعصوم .
وقانون المعاوضة على مستويين : مستوى الحقيقة ، ومستوى الشريعة ، وبينهما اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع .. فقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة قوامه قوله تعالى (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وقانون المعاوضة في مستوى الشريعة قوامه قوله تعالى (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )) .
وقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة هو الإرادة التي بها قهر الله العوالم فأبرزها إلى الوجود وسيرها إلى الكمال ، وهو الحق الذي ورد كثيرا في القرآن (( ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون )) وهو يقول أيضا ، (( خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون )) ويقول (( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون )) فالحق هو هذا القصاص الذي تحكيه أحكم حكاية الآيتان ، (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وعبارة (( لاعبين )) في الآية السابقة تشير إلى ما تشير إليه الآيتان من قوله تعالى ، (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق ، لا إله إلا هو رب العرش الكـريم )) وتعني أن العـوالم لا بـد راجعة إلى الله بفعل قانون المعاوضـة هـذا (( ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سـوء يجز بـه ، ولا يجـد له من دون الله وليا ولا نصيرا . ))
وقانون المعاوضة في مستوى الشريعة محاكاة محكمة لقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة ، وهـو يسير معه سيرا مصاقبا ولكنه ، في سبحاته العليا ، أكمل منه وأدق ، وهو يقع على ثلاث مستويات ، ويحكيه قولـه تعالى (( إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى )) والعدل هو القصاص في مستوى (( العين بالعين ، والسن بالسن )) ، (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) . والإحسان هو العفو عن المسئ ، (( فمن تصدق به فهو كفارة له )) كما ورد في آية القصاص ، (( وإيتاء ذي القربى )) تعني صلة الرحم في معناها الواسع ، وهو رحم الحياة . وهذه المستويات الثلاث تحكيها هذه الآية ((وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين )) قوله (( وجزاء سيئة سيئة مثلها )) مستوى العدل من درجة التناصف ، وإنما سماها سيئة ليرغب عنها ، حيث أمكن ذلك (( ولمن صبر وغفر ، إن ذلك لمن عزم الأمور )) وأما قوله (( فمن عفا )) فهو مستوى الإحسان بترك المسئ ، وهو فوق العدل . واما قوله (( وأصلح )) فهـو يعني المرحمة بالمسئ ، والتعطف عليه ، والتلطف به ، والمحبة له ، وذلك قمة الصلاح والإصلاح ، وهو أعلى مستويات قانون المعاوضة في الشريعة.
ولما كان قانون المعاوضة ، في مستوى الحقيقة ، مرادا به تسيير العوالم إلى الله عن طريق الجسد ـ عن طريق القهر ، فإن قانون المعاوضة ، في مستوى الشريعة ، مراد به تسيير البشر إلى الله عن طريق العقل ـ عن طريق الحرية ، وفي ذلك الكرامة ، كل الكرامة ، للإنسان . وفي هذا المقام يجئ حديثنا عن العلاقة بين الإنسان والكون .