الفرد والكون في التفكير الفلسفي
وعجز الفلسفة الاجتماعية المعاصرة في إدراك العلاقة بين الإنسان والكون ، أكبر من عجزها عن أدراك العلاقة بين الفرد والجماعة ، ولكن أثره أقل ظهورا ، ذلك بأن علاقة الفرد بالجماعة واجهت التطبيق العملي ، في السياسة والتشريع والتنفيذ ، بينما لا تزال العلاقة بين الفرد والكون في الحيز النظري ، وما ذاك إلا لأننا لا نزال في قبضة غريزة القطيع ، لم يقو بنا الفكر حتى نبرز إلى منازل الفرديات . ولكن ، مما لا ريب فيه ، أن عهد الجماعة أصبح يخلي مكانه لعهد الفرد الذي أخذت شمسه تؤذن بشروق ، وسيحل يومه حين يتم نظريا ، ثم عمليا ، فض التعارض المتوهم بين الفرد والجماعة ، وهو أمر سنتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل ، إن شاء الله .
والفهم الدقيق للعلاقة بين الإنسان والكون ليس أمر فلسفة نظرية يمكن أن تلحق بالترف الذهني ، وإنما هو أمر عملي ، عليه يتوقف تحقيق الفردية ، في مضمار المجهود الفردي ، وفي مضمار تنظيم الجماعة لتكون والدا شرعيا للأفراد الذين يرجى لهم أن يحققوا فردياتهم .
وضلال الفلسفة الاجتماعية عن فهم العلاقة بين الإنسان والكون فهما صحيحا إنما يلتمس سببه في استقراء التاريخ البشري منذ بداياته ، ذلك بأن الإنسان الأول ، عندما وقف على رجليه لأول مرة ، واستقبل بعقله البيئة الطبيعية التي عاش فيها ، وجدها تزخر بالقوى الهائلة التي ، فيما يبدو له ، تتركب بطريقة تختلف عن تركيبه ، وتتصرف بأسلوب لا يستقيم مع تفكيره ومع رغباته ، وهي بعد لا تبالي بحياته أو موته ، بل إن كثيرا منها ليسعى في إهلاكه سعيا حثيثا ، والذين يشاركونه الحياة ، بين هذه القوى الصماء الهائلة ، هم بين صيد وصياد - صيد يصيد ويصاد ، وصياد يصيد ويصاد ، فكأن البيئة كلها ، أنياب زرق ، ومخالب حمر ، وأصبح عليه هو ، إذا كان لا بد له أن يحفظ مهجته ، أن يكيد أصناف الكيد ، وأن يحتال لنفسه ألوان الحيل .
ثم إن هذه القوى الصماء ، منها الهائل الرهيب الذي يعجز حيلته ، ويعيي عقله ، ومنها ما يغلب منه الضرر ، ومنها ما يغلب منه النفع ، فهدته حيلته إلى التزلف إليها جميعا ، بدوافع الخوف ، أو بدوافع الحب ، فتذلل ، وتخشع ، وقدم الهدايا ، وقرب القرابين ، ورسم مراسيم العبادات . ومن القوى التي تموج بها البيئة الطبيعية التي عاش فيها ، قوى تنالها الحيلة ، وتبلغ منها المناجزة ، فاحتال أفانين الحيلة ، فبنى البيوت فوق الأشجار ، وعلى قمم الجبال ، وعلى أعمدة اتخذها من سيقان الشجر وغرزها في أرض برك المياه ، وفي الأماكن المحصنة الأخرى . ثم هو باتخاذ الآلة ، من فروع الأشجار ، ومن قطع الأحجار ، قد مد في قدرته على المناجزة .
والإنسان ، بين العبادة والمناجزة ، تغلب عليه الوحشة ، ويساوره القلق بأنه وحيد من نوعه ، يحتوشه الأعداء من جميع أقطاره ، يتحينون منه الغرة ، ويتربصون به الدوائر ، ومن ههنا قام في خلد الإنسان أن مكانه من الكون مكان اللدد والخصومة .
ولقد انتهت الفلسفة ببعض أبنائها الآن إلى أن يقرروا أن التدين ، الذي دفع إليه الإنسان الأول ، بالعوامل الطبيعية التي جرى ذكرها آنفا ، إنما هو لازمة من لوازم الطفولة ، وأن الدين ، حيث وجد والى اليوم ، إنما هو ظاهرة طفولة ، إذ لجأ الإنسان الأول إلى إله تخيله ليسد به حاجة الطفـل فيه إلى أب يحميه . وأن الأصل في مواجهة البيئة هو المناجزة ، لا التمليق ، وما دفع الإنسان إلى التمليق إلا العجز عن المناجزة ، والآن ، وبتطويره لسلاحه الأول ، من فروع الأشجار وقطع الأحجار ، إلى أن بلغ به القنبلة الهيدروجينية ، فإن مقدرته على المناجزة اكتملت ، أو كادت ، ويجب إذن أن يقلع عن التمليق ، أو قل عن التدين ، وعن الأديان ، وعـن الله.
وإلى خروشيف ينسب قول ، زعموا انه قاله ، وهو أن قاقارين عندما دار في الفضاء الخارجي وكان ذلك لأول مرة في تاريخ تقدم العلم الحديث ، لم يجد ذلك الكائن الذي يدعونه الله ، فكأن خروشيف لا يتصور الله إلا من نوع المادة التي يزعم أنه يعرفها ، وفي الحق ، أن فلسفتهم ، حين عجزت عن تصور شئ وراء المادة ، اتخذت من عجزها فضيلة ، فأنكرت وجود كل شئ وراء المادة ، وذلك لكي يستقيم لها القول بأن الإنسان ، أثناء مناجزته لبيئته المادية ، يتطور في فهمه لها ، ويحسن من وسائله في مناجزتها ، حتى يتم له قهرها وتسخيرها ، ويصبح بذلك سيد مصيره .
إن الضلال في فهم علاقة الإنسان بالكون لم يبلغ ، في أي وقت من الأوقات ، هذا البعد الذي بلغه على عهد الشيوعية ، وباسم العلم والفلسفة ... والشيوعية هي طليعة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة ، وهي صاحبة الدور التقدمي ، الذكي ، في المدنية الغربية الآلية الحاضرة .. على أيسر تقدير ، هذا ما يبدو للشعوب الآن .
أم تقولون أن الغرب المسيحي يختلف في مسألة الدين ، وفي أمر الله ، عن الشرق الشيوعي .
قد يكون هذا حقا من الناحية التقليدية ، ولكنه ليس بحق من الناحية العملية ، وليس في فكرة الغرب عن الدين ، وعن الله ، ما يعصم الغرب من أن يصبح شيوعيا ، ولقد كانت روسيا ، قبل الثورة الشيوعية ، مسيحية ، وكانت أورثوذكسية في ذلك .
وفي الحق ، ان الدين ، سواء كان مسيحية أو إسلاما ، إن لم يستوعب كل نشاط المجتمع ، ونشاط الأفراد ، ويتولى تنظيم كل طاقات الحياة الفردية والجماعية ، على رشد وعلى هدى ، فإنه ينصل من حياة الناس ، ويقل أثره ، ويخلي مكانه لأية فلسفة أخرى ، مهما كان مبلغها من الضلال ، ما دامت هذه الفلسفة قادرة على تقديم الحلول العملية لمشاكل الناس اليومية ، أو حتى ما دامت قادرة على تضليل الناس، إلى حين ، باسم خدمة مصالحهم المعيشية ، فإن الناس ، ما داموا أصحاب معدات وأجساد ، يجب ألا تهمل دعوتهم إلى الفضيلة حاجة معداتهم وأجسادهم ، بل إن المعرفة بطبائع الأشياء تقضي بأن تكون دعوتهم إلى الفضيلة عن طريق معداتهم وأجسادهم .
مهما يكن من الأمر بين الشرق الشيوعي ، والغرب المسيحي ، فان المدنية الغربية الآلية الحاضرة ليست مسيحية ، وهي قد عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة ، كما عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والكون ، وهي من جراء هذا العجز قد منيت بالقصور العملي عن الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية وذلك أكبر مظاهر فشلها .
ولسنا نحن الآن بصدد الزراية عليها ، ولا بصدد التقليل من شأنها ، وإنما نحن بصدد دراسة علمية لها ، تضعها في موضعها ، وتعـرف لها حقها ، وتـدعو إلى سـد النقـص فيها لتغـدو مدنية بعد أن أصبحت حضارة .