بســــم الله الرحمـن الرحيـم
مقدمـة الطبعـة الثالثة
هذه مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب (( الرسالة الثانية من الإسلام )) وكانت الطبعة الأولى منه قد صدرت في يناير من عام 1967، الموافق لشهر رمضان المكرم من عام 1386.. ثم صدرت الطبعة الثانية منه في إبريل من عام 1968، يوافق المحرم من عام 1388.. وعند صدور هذه الطبعة صرفتنا صوارف العمل عن تصديرها بمقدمة خاصة بها ..
هذا الكتاب - الرسالة الثانية من الإسلام - كتاب جديد من جميع الوجوه .. وهـو ، إلى جدته ، غريب كل الغرابة ، ولا غرو ، ذلك بأنه بشارة بعـودة الإسلام من جديـد ، وأي الناس ، من علماء الناس ، لا ينتظر الغرابة في عـودة الإسلام من جديد ؟ ألم يقل المعصوم: (( بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريـبا كما بـدأ ، فطـوبى للغـرباء ! قالـوا من الغـرباء يا رسول الله ؟ قال الذين يحيـون سنتي بعـد اندثارها )) ؟..
فالغرابة في أصل عودة الإسلام ، ولكن هذا كثيرا ما يغيب عن الذين يتصدون للكتابة عن الإسـلام ، ولقد تعرض لهذا الكتاب بعضهم فتورطوا في معارضة ما لم يحسنوا فهمه ، ولم يطيقوا الصبر عليه ، فجاءت معارضتهم مثلا من سوء الفهم ، وسوء التخريج ، وسوء القصد أيضا ، ولسنا بحاجة لأن نرد على هؤلاء ، فإن سوء صنيعهم يكفينا إياهم ، ولكننا نحب أن ننبه من عسى يحتاج إلى تنبيهنا من القراء إلى أن هذا الكتاب حق ، وأن الإطلاع عليه يقتضي الصبر ، والأناة ، ودقة النظر ، فإذا ظفر القارئ بأولئك فإنه سيتفتح ذهنه على فهم جديد ، للقـرآن وللإسـلام ، وسيحمد عاقبة صبره ، وطول أناته ، إن شاء الله ..
السنة والشريعة
ولقد ذكر النبي في حديثه الغرباء ، وقال إنهم هم الذين يحيون سنته بعد اندثارها .. وهم ، بالدعـوة إلي هذا الإحياء ، يصبحون غرباء بين أهليهم ، وذلك لما يصحب هذه الدعوة من خروج عن مألوف ما عليه الناس .. هم غرباء الحق بين قوم يغدو الحق بينهم غريبا لطول ما ألفـوا الباطـل فظنـوه حقا ، ولطول ما غفلوا عن الحق ..
إن مما ألف الناس أن سنة النبي هي قوله ، وإقراره ، وعمله .. والحق أن هذا خطأ ، فان قول النبي ، وإقراره ، ليسا سنة ، وإنما هما شريعة .. وأما عمله في خاصة نفسه فهو سنة .. نعم هناك من قوله قول يلحق بالسنة ، وذلك هو القول الذي ينم عن حال قلبه من المعرفة بالله .. أما أقواله التي أراد بها إلى تعليم الأمة في أمر دينها فهي شريعة ، والفرق بين الشريعة ، والسنة ، هو الفرق بين الرسالة ، والنبـوة ، أو هـو الفـرق بين مستـوى الأمـة ، مـن أعلاها إلى أدناها ، ومستـوى النبي .. وذلك فـرق شاسع وبعيد ..
السنة هي عمل النبي في خاصة نفسه ، والشريعة هي تنزل النبي ، من مستوى عمله في خاصة نفسه إلى مستوى أمته ، ليعلمهم فيما يطيقون ، وليكلفهم فيما يستطيعون .. فالسنة هي نبوته ، والشريعة هي رسالته .. وإنما في مضمار رسالته هـذه قال : (( نحـن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قـدر عقـولهم ))
الإسلام والإيمان
والناس ، اليوم ، لا يملكون القدرة على التمييز الدقيق بين الإسلام والإيمان ، فهم يعتقدون أن الإيمان أكبر من الإسلام ، وقد ورطهم في هذا الخطأ عجزهم عن الشعور بحالة الوقت ، ذلك بأن الوقت الذي كان فيه هذا الفهم صحيحا قد انقضى ، وأقبل وقت تطور فيـه فهـم الدين ، وانتـقل من مستوى الإيمان ، إلى مستوى الإسلام .. الأمر فحواه كالآتي :
الإسلام فكر يرتقي السالك فيه على درجات سلم سباعي ، أولها الإسلام ، وثانيها الإيمان ، وثالثها الإحسان ، ورابعها علم اليقين ، وخامسها علم عين اليقين ، وسادسها علم حق اليقين ، وسابعها الإسلام من جـديد .. ولكنه في هذه الدرجة يختلف عنه في الدرجة الأولية ، اختلاف مقدار ، فهو في الدرجة الأولية انقياد الظاهر فقط ، وهو في الدرجة النهائية انقياد الظاهر والباطن معا .. وهو في الدرجة الأولية قول باللسان ، وعمل بالجوارح ، ولكنه في الدرجة النهائية انقياد ، واستسلام ، ورضا بالله في السر والعلانية .. وهو في الدرجة الأولية دون الإيمان ، ولكنه في الدرجة النهائية أكبر من الإيمان .. وهذا ما لا يقوى العلماء الذين نعرفهم على تمييزه .. ولقد لبس على علماء الدين هذا الأمر حديث جبريل المعروف ، الذي رواه عمر بن الخطاب ، قال : (( بينا كنا جلوسا عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يعرفه منا أحد ، ولا يرى عليه أثر السفر ، فجلس إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع يديه على فخذيه ، ثم قال : يا محمد أخبرني عن الإسلام .. قال الإسلام أن تشهد ألا اله إلا الله ، وان محمدا رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وأن تصوم الشهر ، وأن تحج البيت ، إذا استطعت إليه سبيلا .. قال صـدقت . فعجبنا له ، يسأله ويصدقه !! ثم قال فأخبرني عن الإيمان .. قال الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر ، خيره وشره ، واليوم الآخر .. قال صدقت .. ثم قال فأخبرني عن الإحسان .. فقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. قال صدقت .. ثم قال: أخبرني متى الساعة ؟؟ فقال ما المسئول عنها بأعلم من السائل !! قال فأخبرني عن علاماتها .. قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة ، العراة ، رعاء الشاة يتطاولون في البنيان .. قال صدقـت .. ثم انصرف ، فلبثنا مليا .. ثم قال رسول الله ، صلى الله عليـه وسلم ، يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلت الله ، ورسوله ، أعلم.. قال هذا جبريل ، أتاكم يعلمكم دينكم !! )).. هذا الحديث لبس على علماء الدين الأمر فظنوا أن مراقي ديننا إنما هي الإسلام ، والإيمان ، والإحسان .. ولما كان واردا في القرآن قول الله تعالى عن الأعراب (( قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا : أسلمنا.. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. )) فقد أصـبح واضحـا أن الإيمـان أعلى درجـة من الإسـلام.. وما علموا أن الأمر يحتاج إلى نظـر..
جلية الأمر
وجلية الأمر أن الإسلام ، كما هو وارد في القرآن ، قد جاء على مرحلتين : مرحلة العقيدة ، ومرحلة الحقيقة أو سمها مرحلة العلم .. وكل مرحلة من هاتين المرحلتين تقع على ثلاث درجات ..
فأما مرحلة العقيدة فدرجاتها الثلاث هي : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان .. وأما مرحلة العلم فدرجاتها الثلاث هي : علم اليقين ، وعلم عين اليقين ، وعلم حق اليقين .. ثم تجئ ، بعد ذلك ، الدرجة السابعة من درجات سلم الترقي السباعي ، وتلك هي درجة الإسلام ، وبها تتم الدائرة .. وتجئ النهاية ، تشبه البداية ، ولا تشبهها .. فهي في البداية الإسلام ، وهي في النهاية الإسلام . ولكن شتان بين الإسلام الذي هو البداية ، وبين الإسلام الذي هو النهاية .. وقد سبقت إلى ذلك الإشارة ..
ومرحلة العقيدة هي مرحلة الأمة المؤمنة .. وهي أمة الرسالة الأولى ..
ومرحلة العلم هي مرحلة الأمة المسلمة .. وهي أمة الرسالة الثانية .. وهذه الأمة لم تجئ بعد، وإنما جاء طلائعها ، فرادى ، على مدى تاريخ المجتمع البشري الطويل . وأولئك هم الأنبياء ، وفي مقدمتهم سيدهم ، وخاتمهم ، النبي ، الأمي ، محمد بن عبد الله ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .. وهو قد بشر بمجئ هذه الأمة المسلمة ، كما جاء برسالتها ، مجملة في القرآن ، مفصلة في السنة ، وقد أسلفنا الإشارة إلى معنى السنة .. وحين تجئ هذه الأمة المسلمة فإنها لا تبدأ إلا بما بدأت به الأمة المؤمنة ، وهي مرحلة العقيدة ، ولكنها لا تقف في الدرجة الثالثة من درجات السلم التي وقف جبريل في أسئلته عندها ، وإنما تتـعداها في التطـور إلى ختـام الدرجات ، فتـكون بذلك صاحبة عقيـدة ، وصاحبة علم ، في آن معا ، فهي مؤمنة ، ومسلمة ، في حين أن الأمة الأولى مؤمنة ، وليست مسلمة ، بهذا المعنى النهائي للإسلام ..
ويجب أن يكون واضحا فان جبريل إنما وقف ، في أسئلته ، عند نهاية درجات العقيدة لأنه إنما جاء ليبين للأمة المؤمنة دينها ، ولم يجئ ليبين للأمة المسلمة ، التي لما تأت بعد ..
إن محمدا رسول الرسالة الأولى ، وهو رسول الرسالة الثانية .. وهو قد فصل الرسالة الأولى تفصيلا ، وأجمل الرسالة الثانية إجمالا ، ولا يقتضي تفصيلها إلا فهما جـديدا للقـرآن ، وهو ما يقوم عليه هذا الكتاب الذي بيـن يـدي القـراء ..
إن هذا الكتاب يهدي الطريق ، ولكنه لا يمكن من نفسه إلا الذين يقبلون عليه بأذهان مفتوحة ..
عند الله نلتمس التسديد ، ونجح المراد .. انه نعم المولى ..