خاتمة
أما بعد فان فيصل القول في أمر الرسالة الأولى ، والرسالة الثانية ، هو أن للدين شكلا هرميا قمته عند الله ، حيث لا عند ، وقاعدته عند الناس .. (( إن الدين عند الله الإسلام )) ، ولقد تنزلت هذه القاعدة من تلك القمة .. تنزلت إلى واقع الناس ، وحاجتهم وطاقتهم البشـرية ، والماديـة ، فكانت الشريعة .. وستظل قمة هرم الإسلام فوق مستوى التحقيق ، في الأبد ، وفي ما بعد الأبد ، وسيظل الأفراد يتطورون في فهم الدين ، كلما علموا المزيد من آيات الآفاق ، وآيات النفوس . والله تبارك وتعالى يقول (( سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟ )) ويقول (( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء )) وهو تبارك وتعالى يشاء لنا الزيادة من علمه كل لحظة ، وفي ذلك يقول (( كل يوم هو في شأن )) وما شأنه إلا إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. وهو تبارك وتعالى يعلمنا في ذلك فيقول (( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه ، وقل رب زدني علما )) وما الزيادة في العلم إلا ترق من قاعدة الهرم نحو قمته في تطور مستمر .. وحين يتطور الإنسان بفهم الدين ، في فهم الدين ، يطـور شريعتـه ، تبعا لحاجتـه ولطاقتـه ، من القاعـدة الغليظة إلى قاعدة أقل غلظة ..
فالأفراد يتطورون في فهم الدين فيدخلون في مراتب الشرائع الفردية ، والمجتمعات تتطور ، تبعا لتطور الأفراد ، فترتفع شرائعها من قاعدة غليظة إلى قاعدة أقل غلظة .. وذلك صعدا في سلم هرم قاعدته شريعة الرسالة الأولى ..
فإذا كانت قمة هرم الدين ، فيما يختص بالمال ، هي آية (( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) فان قاعدته هي آية (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ، وتزكيهم بها ، وصل عليهم ، إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم )) ، وعليها قامت شريعة الرسالة الأولى في الزكاة ذات المقادير ، وجعلت شريعة في المال ، وركنا في العبادة ، وذلك لأن الناس لم يكونوا يطيقون أفضل منها ، وترك أمر تحقيق قمة الهرم للأفراد ، كل حسب طاقته ، وورد الترغيب في التسامي في قول المعصوم حين قال (( في المال حق غير الزكاة )) وورد في قوله تعالى حين قال (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) وذلك لأن شريعته هو في المال ، وركنه في العبادة ، هو أقرب الى القمة ..
وإذا كانت قمة هرم الدين ، فيما يختص بالسياسة ، هي آيتا (( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر )) فإن قريبا من قاعدته آية الشورى (( فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين )) وقاعدته على الإطلاق هي آية السيف (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد ، فإن تابوا ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم )) .
وعلى هذه القاعدة قامت شريعة الجهاد ، وعلى آية الشورى قامت شريعة الحكم ، على أساس وصاية الفرد الرشيد على المجموعة ..
فقاعدة الهرم في هذه ليست ديمقراطية . وإنما هي أقرب ما تكون إلى الديمقراطية ، في وقت لم تكن الديمقراطية قد عرفت ، ولم يكن المجتمع مستعدا لممارستها .
وقاعدة الهرم في تلك ليست اشتراكية ، وإنما هي أقرب ما تكون إلى الاشتراكية ، في وقت لم تكن الاشتراكية ، بمضمونها العلمي ، قد عرفت ، ولم يكن المجتمع مستعدا لممارستها ..
فإذا كانت البشرية ، في مدى أربعة عشر قرنا قد قطعت أرضا شاسعة نحو النضج ، وأصبحت تستقبل عهد الرجولة ، وتستدبر عهد الطفولة .. وأصبحت ، بفضل الله ، ثم بفضل هذا النضج ، تطيق ، ماديا وفكريا ، الاشتراكية والديمقراطية ، فقد وجب أن تبشر بالإسلام على مستواهما ، وهذا يعني الارتفاع من قاعدة شريعة الرسالة الأولى الغليظة إلى قاعدة أقل غلظة ، ترتفع هونا ما نحو القمة ، وستظل القمة دائما في منطقة الفرديات .. وأدنى منازل القاعدة الجديدة هي المدخل على الاشتراكية ، وذلك بتحريم تمليك وسائل الانتاج ، ومصادر الإنتاج على الفرد الواحد ، أو الأفراد القليلين في صورة شراكة .. فإن هذا يفتح أبواب التشريع على الاشتراكية ..
وأدنى منازل القاعدة الجديدة هي المدخل على الديمقراطية وذلك بوجوب حق الانتخاب لكل مواطن ، ولكل مواطنة ، بلغ وبلغت سنا ، معينة مثلا ، وكذلك حق الترشيح .. فإن هذا يفتح أبواب التشريع على الديمقراطية .
وهذا الصنيع هو ما يسمى بتطوير التشريع .. فهو ارتفاع ، من نص فرعي ، يستلهم أكثر ما يمكن من التسامي نحو نص أصلي .. هو ارتفاع من نص إلى نص .
وهناك تشريع متداخل بين الرسالة الأولى والرسالة الثانية كتشريع العبادات ، وهذا لا يدخل فيه ، من التطوير ، إلا ما يجعل قمته مفتوحة على منازل الشرائع الفردية ، لكل فرد تسامى ، بفضل الله ، ثم بفضل إتقان التقليد ، إلى تحقيق فرديته التي ينماز بها عن أفراد القطيع .
فالشريعة الجماعية ليست أصلا، وإنما الأصل الشريعة الفردية ، ذلك ، وبنفس القدر الذي به الجماعة ليست أصلا ، وإنما الأصل الفرد .. ولكن الناس لكثرة ما ألفوا المعيشة في الجماعة ، ولشدة أثر غريزة القطيع عليهم ، ظنوا الأمر بعكس ذلك . فأنت تراهم يستغربون ، ويستوحشون عندما تكلمهم عن الشرائع الفردية . ولأمر آخر أيضا ، فإن الشريعة الفردية مرتبة رجولة ، ومرتبة مسئولية . والناس لا يزالون أطفالا ، يحبون أن يحمل غيرهم عنهم مسئوليتهم ، ويطيب لهم أن يظلوا غير مسئولين .. أو هم إن احتملوا المسئولية فإنما يحتملونها في القطيع ، وعلى الطريق المطروق . أما أن يكون المسئول وترا ، وأن يطرق طريقا بكرا ، فإنه أمر مخيف ، ولا يجد في النفوس استعدادا ، ولا ميلا .
والمدخل على الرسالة الثانية الرسالة الأولى . إلا ما يقع عليه التطوير من تشريعها .. ولا يقع التطوير في أمر العبادات إلا على الزكاة ذات المقادير ، وما ذاك إلا لأنها ليست ركنا تعبديا إلا لعلة أن الناس لم يكونوا يطيقون أفضل منها ، وإلا فإن الركن التعبدي إنما هو زكاة المعصوم . ولا يقع التطوير على تشريع المعاوضة ، وما ذاك إلا لأنه أصيل ، وقد بني على الأصول الثوابت من الدين . وإنما يقع التطوير في تشريع المعاملات ، كالحقوق الأساسية للأفراد ، وكالنظم الاقتصادية والسياسية ، إلى آخر ما يرتبط بتحولات المجتمع ، وما يسرع إليه التغيير من هذه النظم التي يجب أن تواكب المجتمع في حيوية ، واقتدار على التجدد ، والنمو ، والتطور ، وقد سبقت إلى كل أولئك الإشارة في هذا الكتاب .
فالأصل في الرسالة الثانية الحيوية والتطور ، والتجدد ، وعلى السالك في مراقيها أن يجدد حياة فكره ، وحياة شعوره كل يوم ، بل كل لحظة ، من كل يوم ، وكل ليلة .. مثله الأعلى في ذلك قول الله تبارك وتعالى في شأن نفسه (( كل يوم هو في شأن )) ثم هو (( لا يشغله شأن عن شأن )) .
فهو حين يدخل من مدخل شهادة (( ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله )) يجاهد ليرقى بإتقان تقليد المعصوم إلى مرتبة (( فاعلم أنه لا إله إلا الله )) ثم يجاهد بإتقان هذا التقليد حتى يرقى بشهادة التوحيد إلى مرتبة يتخلى فيها عن الشهادة ، ولا يرى إلا أن الشاهد هـو المشهود ، ويطالع بقوله تعالى (( شهد الله أنه لا إله إلا هو ، والملائكة ، وأولو العلم ، قائما بالقسط ، لا إله إلا هو ، العزيز الحكيم )) وعندئذ يقف على الأعتاب ، ويخاطب كفاحا ، بغير حجاب (( قل الله ! ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )) ، و (( قل )) هنا تعني (( كن )) وههنا مقام الشرائع الفردية . وحين يرقى السالك في مدارج الرسالة الثانية من مدخل الرسالة الأولى على النحو الذي بينا يكون قد قطع درجات السلم السباعي ، من درجة الإسلام ، إلى الإيمان ، إلى الإحسان ، إلى علم اليقين ، إلى عين اليقين ، إلى حق اليقين ، إلى الإسلام من جديد ، ثم يبدأ من جديد ، على مستوى جديد ، دورته الجديدة ، وهكذا دواليك .
إن الإسلام سلم لولبي ، أوله عندنا في الشريعة الجماعية ، وآخره عند الله ، حيث لا عند ، وحيث لا حيث .. والراقي في هذا السلم لا ينفك في صعود إلى الله (( ذي المعارج )) فهو في كل لحظة يزيد علمه ، ويزيد ، تبعا لذلك ، إسلامه لله . وتتجدد بكل أولئك حياة فكره ، وحياة شعـوره .. ودخول العارج ، في هذه المراقي ، على مرتبة الشريعة الفردية ، أمر محتم ، وليس هو بالمقام البعيد المنال ، وإنما محك الكمال ، الذي تقطع دونه الأعناق ، هو أن تكون حقيقتك عند الله وأن تكون شريعتك الفردية طرفا من حقيقتك هذه . وهيهات !! هيهات !!. فإن ذلك سير في الإطلاق .. وليس في هذا القول مثالية ، لأنه في طرفه العملي ، قد تنزل إلى أرض الناس ، وأخذ يشدهم إلى المطلق ، على تفاوت في التحصيل بينهم ، كل حسب مبلغه من العلم . فهم في سلم صاعد ، عدد درجاته بعد الأنفس ، و (( فوق كل ذي علم عليم )) إلى أن ينتهي العلم إلى (( علام الغيوب )) .
إن هذا يعني أن حظ الانسان من الكمال لا يحده حد ، على الإطلاق . موعود الإنسان من الكمال مرتبة الإله . ومع ذلك فإن النهج إلى تحقيقه لا يقوم على المثالية ، وإنما يقوم على الواقعية الملموسة في مسلك العبادة ، وفي مسلك المعاملة ، وقد سلفت إلى كل أولئك التفاصيل .. وبحسب الانسان أن الله قد ادخـر له مـن كمال حيـاة الفكر ، وحيـاة الشعـور ، ما لا عيـن رأت ولا أذن سمـعت ، ولا خطـر على قلب بشر.
لك الحمد اللهم كما أنت أهله ، حمدا كثيرا ، طيبا ، مباركا فيه .
من أجل البعث الإسلامي
من أجل استيعاب فكرة البعث الإسلامي هذه نوصي ، بالإضافة الى قراءة هذا الكتاب ، بقراءة الكتب الآتية :-
رسالة الصلاة - الإسلام - لا اله الا الله - طريق محمد .
قراءة طريق محمد تمامها بالعمل به (( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم )) ..