الباب الخامس
الرسالة الأولى
الرسالة الأولى هي التي وقع في حقها التبيين بالتشريع وهي رسالة المؤمنين .. والمؤمنون غير المسلمين ، وليس الاختلاف بين المؤمن والمسلم اختلاف نوع ، وإنما هو اختلاف مقدار ، فما كل مؤمن مسلم ، ولكن كل مسلم مؤمن .
والإسلام بداية ، ونهاية . فكما أن الزمان والمكان لولبيان ، فكذلك الأفكار ، فإنها لولبية ، يسير الصاعد في مراقيها في طريق لولبي ، يرتفع في المراقي كلما يدور على نفسه ، حتى إذا تمت دورة على نقطة البداية ارتفع السالك سمتا فوقها ، وجاءت نهاية تلك الدورة على صورة تشبه البداية ، ولا تشبهها . فكذلك الشأن ، فإن السالك في مراقي الإسلام يسير على معراج لولبي ، ينضم نحو مركزه ، كلما ارتفع نحو قمته ، ويدور على نفسه دورة ، كلما رقى في سبع درجات ، أولها الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم الإحسان ، ثم علم اليقين ، ثم عين اليقين ، ثم حق اليقين ، ثم ، في نهاية الدورة ، الإسلام .
وأمة البعث الأول - أمة الرسالة الأولى - اسمها المؤمنون، لدى الدقة ، وإنما أخذت إسم المسلمين ، الذي ينطلق عليها عادة ، من الإسلام الأول ، وليس ، على التحقيق ، من الإسلام الأخير.
وأنت حين تقرأ قوله تعالى (( إن الدين عند الله الإسلام )) يجب أن تفهم أن المقصود الإسلام الأخير ، وليس على التحقيق ، الإسلام الأول ، ذلك بأن الإسلام الأول ليست به عبرة ، وإنما كان الإسلام الذي عصم الرقاب من السيف ، وقد حسب في حظيرته رجال أكل النفاق قلوبهم ، وانطوت ضلوعهم على بغض النبي وأصحابه - ثم لم تفر ضلوعهم عن خبئها ، وذلك لأن المعصوم قد قال (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ، عصموا مني دماءهم ، وأموالهم ، إلا بحقها ، وأمرهم إلى الله )) ولقد نشأ الإسلام بين القريتين : مكة والمدينة : بدأ في مكة ، فلما انهـزم فيها هاجر إلى المدينة ، حيث انتصر . وما كان له أن ينتصر في مكة ، ولم ينتصر . (( وتلك الأمثال نضربها للناس ، وما يعقلها إلا العالمون )) .
ما انتصر الإسلام ، وإنما انتصر الإيمان . ولقد جاء القرآن مقسما بين الإيمان ، والإسلام ، في معنى ما جاء إنزاله مقسما بين مدني ، ومكي . ولكل من المدني والمكي مميزات يرجع السبب فيها إلى كون المدني مرحلة إيمان ، والمكي مرحلة إسلام .
فكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ (( يأيها الذين آمنوا )) فهو مدني ، ما عدا ما كان من أمر سورة الحج ، وكل ما ورد فيه ذكر المنافقين فهو مدني ، وكل ما جاء فيه ذكر الجهاد ، وبيان الجهاد ، فهو مدني ، هذا إلى جملة ضوابط أخرى .
وأما المكي فمن ضوابطه أن كل سورة ذكرت فيها سجدة فهي مكية ، وكل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية ، سوى سورتي البقرة ، وآل عمران ، فإنهما مدنيتان ، وكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ (( يأيها الناس )) أو (( يا بني آدم )) فإنه مكي ، سوى سورة النساء ، وسورة البقرة ، فإنهما مدنيتان وقد استهلت أولاهما بقوله تعالى (( يأيها الناس اتقوا ربكم )) وفي أخراهما (( يأيها الناس اعبدوا ربكم )) والشواذ عن الضوابط ، بين المكي والمدني ، إنما سببها التداخل بين الإيمان والإسلام ، فإنه ، كما ذكرنا ، كل مؤمن مسلم في مرتبة البداية ، وليس مسلما في مرتبة النهاية ، وكل مسلم مؤمن ، ولن ينفك.
والاختلاف بين المكي والمدني ليس اختلاف مكان النزول ، ولا اختلاف زمن النزول ، وإنما هو اختلاف مستوى المخاطبين . فيأيها الذين آمنوا خاصة بأمة معينة . ويأيها الناس فيها شمول لكل الناس . فإذا اعتبرت قوله تعالى (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم )) - وقوله تعالى (( إن الله بالناس لرؤوف رحيم )) وأدركت فرقا ، فاعلم أنه الفرق بين المؤمن والمسلم ، وهو مستوى كل من الخطابين. وورد خطاب المنافقين في المدينة ، ولم يرد في مكة ، مع أن زمن النزول في مكة ثلاث عشرة سنة ، وفي المدينة عشر سنوات ، أو يقل ، وذلك لأنه لم يكن بمكة منافقون . وإنما كان الناس إما مؤمنين ، أو مشركين ، وما ذلك إلا لأن العنف لم يكن من أساليب الدعوة بل كانت آيات الاسماح هي صاحبة الوقت يومئذ ، (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين )) وأخواتها ، وهن كثر .
وحين تمت الهجرة إلى المدينة ، ونسخت آيات الاسماح ، وانتقل حكم الوقت إلى آية السيف ، ونظائرها ، (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم ، واحصروهم ، واقعـدوا لهم كل مرصـد ، فإن تابوا ، وأقامـوا الصلاة ، وآتـوا الزكاة فخلـوا سبيـلهم ، إن الله غفور رحيم . )) ودخل الخوف في ميدان الدعوة ، واضطرت نفوس إلى التقية ، أسرت أمرا وأعلنت غيره ، ودخل بذلك النفاق بين الناس .
وكون ذكر الجهاد ، وبيان الجهاد ، من ضوابط الآيات المدنية ، لا يحتاج إلى تعليل .
وأما كون المكية من ضوابطها ذكر السجدة ، فذلك لأن السجدة أقرب إلى الإسلام منها إلى الإيمان . وفي حديث المعصوم: (( أقـرب ما يكـون العبـد لربه وهـو ساجد )) وفي القـرآن الكريم (( واسجد واقترب )) وفيه سر عظيم من أسرار السلوك إلى منازل العبودية .
ومنها أن تفتتح السور بحروف التهجي ، وهذا باب عظيم ، وفيه سر القرآن كله ، والحديث عنه لا يتسع له هذا المقام ، وإنما نكتفي منه بما نحن بصدده من بيان الفرق بين رسالتي الإسلام . وعدد الحروف التي جرى بها الافتتاح أربعة عشر حرفا ، وهي بذلك نصف الحروف الأبجدية . وقد افتتحت بها تسع وعشرون سورة ، على أربع عشرة تشكيلة ، هي :-
ألم ، المص ، الر ، المر ، كهيعص ، طه ، طسم ، طس ، يس ، ص ، حم ، حم – عسق ، ق ، ن . وكل هذه التشكيلات ورد بعدها ما يفيد أنها القرآن ، وأوضح شئ في ذلك قوله تعالى من سورة البقرة : (( ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين )) ذلك إذا وقفت على (( فيه )) ، أو شئت وقفت على (( لا ريب )) فجاءت الآيتان هكذا : (( ألم * ذلك الكتاب لا ريب ، فيه هدى للمتقين )) وفي كلتيهما فإن الإشارة بذلك إلى (( ألـم )) .
ومعنى الحرف أنه من كل شئ طرفه ، وشفيره ، وحده ، ومنه (( حرف الجبل )) وهو أعلاه المحدد الرفيع .
ولقد مرت على حروف التهجي حقب سحيقة وهي تتقلب في صور بدائية جدا ، قبل أن تأخذ شكولها الحاضرة ، ذلك بأن الحاجة إلى الكتابة إنما نشأت مع الحاجة إلى اللغة في وقت واحد ، وتلك حاجة سبقت الحاجة إلى العرف الذي سلفت إشارتنا إليه ، حين قلنا أن المجتمع الأول نشأ حول عرف قيد نزوات الفرد ، وأوجب رعاية حدود معينة ، واجبة الرعاية . فالحاجة إلى وسيلة التفاهم ، ونقل الأفكار ، حاجة أملتها ضرورة المعيشة في مجتمع . ولقد شعر بضرورة الاجتماع جميع أصناف الحيوان ، ولكن الإنسان هو وحده الذي ظفر منه بحاجته ، وذلك لمقدرته على التفاهم عن طريق (( تقليد )) أصوات الأشياء ، والأحياء ، ومحاكاة الحركات ، وقـد ساعده على ذلك إستواء قامته ، ولباقة حركات يديه ورأسه ، وارتقاء أوتار صوته. فإلى ملكة (( التقليد )) التي انفرد بتجويدها الإنسان عن سائر الحيوان ، يرجع الفضل في نشأة اللغة ، ونشأة الكتابة ، وفي اطراد ارتقائهما ، من بدايات بسيطة ، ساذجة ، إلى أدوات شارفت الاتقان في عصرنا الحاضر . بل إنه إلى هذه الملكة التي وهبها الله الإنسان ، يرجع الفضل في التعليم والإتقان . فإنه ، من أجل تجويد التقليد ، لا بد من استيعاب الأشياء المراد تقليدها استيعابا عقليا كاملا ، ثم لا بد من التناسق بين أدوات التقليد وبيـن العقل ، سواء كانت أدوات التقليد اليدين ، أو الرأس ، أو الوجه ، أو العينين . وإلى هذا المجهود المبذول في تناسق حركات التقليد يرجع الفضل في توحيد العقل والجسد . وهو توحيد لم يكتمل بعد ولا يزال يطرد .
ومع أن الحاجة إلى الكتابة ظهرت في نفس الوقت مع الحاجة إلى اللغة إلا أنها لم تكن في مستوى واحد من الإلحاح ، ومن الضرورة . ولقد أغنت الإشارة عنها إلى ردح طويل . ولقد بدأت الكتابة برسم الأشياء ، والحيوان المراد التعبير عنها ، أو ربما برسم حادثة برمتها يراد نقلها إلى أحد لم يكن شاهدها . ولقد كان رسم صورة الحيوان من مراسيم الصيد ، وهي مراسيم تتصل بالعقيدة والعبادة ، فكأن الصياد كان يعتقد أنه يحرز الحيوان في الصيد ، حين يحرز صورته في كهفه الذي يقيم فيه . وذلك للصلة التي اعتقدها بين الصورة والروح .
ثم تطور الفهم فأصبح الفنان يجتزئ برسم جزء معين للحيوان للتعبير عن سائره ، كأن يرسم رأس الثور فقط بدلا من رسمه كله . ثم اطرد التطور في تبسيط صور الأشياء والأحياء حتى جاءت الحروف الأبجدية الحاضرة ، في سحيق الآماد ، وبعد تطور بطئ ، طويل .
وعدد حروف التهجي يختلف في اللغات المختلفة ، وهو في لغتنا ثمانية وعشرون حرفا ، أولها الألف وآخرها الغين ، وهي في ذلك أكمل اللغات .
وإذ دفعت الضرورة إلى اللغة ، دفعت أيضا إلى الحساب ، وقد نشأ الحساب نشأة ساذجة ، وبدائية أيضا ، وأعان عليه ، وبعثه في الذهن ، أصابع اليدين والقدمين ، فإنها ظاهرة تبعث على التأمل ، والتعجب ، ولقد كان العدد ، ولا يزال ، يمارس على أصابع اليدين ، وهذا من الأسباب التي جعلت العشرة تتخذ أساسا للعد . ولم تظهر الأرقام التي نعرفها الآن إلا بعد زمن طويل من التطور من الصور البدائية للأعداد . ولقرينة الرمز ، والإشارة ونقل العبارة ، التي تربط بين اللغة والحساب استعملت أحرف الهجاء بدلا من الأرقام منذ زمن متقادم ، كما هو معروف في الأرقام الرومانية ، وهم قد كانوا مسبوقين إلى ذلك باليونانيين . ولقد سرى هذا الاستعمال إلى اللغة العربية ، فجعلت الأحرف التسعة الأولى لتنوب عن الآحاد التسعة ، والحرف العاشر وما بعده يدل على العقود ، إلى الحرف الثامن عشر ، ومن الحرف التاسع عشر وإلى الثامن والعشرين تدل على المئات ، فأصبح بذلك الرقم المقابل لنهاية الأبجدية الألف ، وهذا هو الذي جعلنا نقول أن اللغة العربية أكمل اللغات ، وذلك لما للرقم (( ألف )) من قيمة روحية (( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون )) أو حين يقول (( إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر )) وهي تعني ألف عام. وحين يقول (( من الله ذي المعارج * تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )). والقرآن كله ذو شكل هرمي .. له قاعدة ، وله قمة ، وهو يتفاوت بين القاعدة والقمة في معان تدق كلما ارتقت نحو القمة . فهو تفاوت بين حسن وأحسن . وفي قمة القرآن الحروف الهجائية التي افتتحت بها السور ، وهذه الحروف، في ذاتها، ذات شكل هرمي أيضا ، يتفاوت بين قاعدة وقمة . فالحروف على ثلاث درجات :
الحروف الرقمية ، والحروف الصوتية ، والحروف الفكرية . فالحروف الرقمية هي الثمانية والعشرون المعروفة ، ومنها يتألف الكلام الظاهر: والحروف الصوتية لا حصر لها ، وهي ، المسموع منها ، وغير المسموع بالحاسة ، تؤلف الخواطر التي تجيش في العقل الواعي . وأما الحروف الفكرية فهي ملكوت كل شئ ، وهي كلمات الله التي قال عنها ، جل من قائل (( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا )) . ومن هذه الحروف الفكرية تتكون الخواطر المستكنة في العقل الباطن ، وفي سويدائه الحقيقة الأزلية ، وعلى حواشيه الدين . وإلى الحروف الرقمية ، والحروف الصوتية ، والحروف الفكرية ، الإشارة بقوله تعالى (( وإن تجهر بالقول ، فإنه يعلم السر ، وأخفى )) فالقول المجهور به يقابل الحروف الرقمية ، والسر يقابل الحروف الصوتية ، وأما الحروف الفكرية فيقابلها (( سر السر )) وهو المعبر عنه بكلمة (( وأخفى )) ومن هذه الحروف الفكرية ما لا يسمع الا بالحاسة السابعة .
وإلى هذه المراتب الثلاث أيضا الإشارة بقوله تعالى (( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا )) وهي آية في الجهر ، وفي السر ، أي في القول باللسان وفي الخواطر ، وأما سر السر فإن فيه قوله تعالى (( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما )) . والظلم هنا الشرك الخفي ، وهو الكبت الذي به انقسمت الشخصية البشرية إلى عقل واع ، وعقل باطن ، بينهما تضاد وتعارض .
ولقد تحدثنا عن الكبت فيما سلف من هذا الكتاب ، وقلنا أنه بفعل الخوف . وقلنا أن الحرية الفردية المطلقة تتطلب الحرية من الخوف ، ومن أجل الحرية من الخوف ، على إطلاقه ، وجب تنظيم المجتمع على صورة تؤمن الفرد من الخوف على الرزق ، والخوف من تسلط الحاكم ، والخوف من تعنت الرأي العام. ثم وجب إعطاء الفرد فكرة متكاملة عن علاقته بالبيئة ، وعن حقيقة البيئة التي عاش فيها أسلافه ، والتي لا يزال يعيش فيها هو ، حتى يستطيع أن يتحرر من العقد النفسية التي ترسبت في عقله الباطن ، وورثها صاغرا عن كابر ، في سحيق الآماد .
ولقد تحدثنا عن أسلوب القرآن العكسي ، في تعليم الانسان ، والطردي ، وذلك على غرار الآية الكريمة (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟ )) . وقلنا أن هذا يعني في السلوك أن السالك يجاهد في ترك مخالفات الأعمال ، وإن سمح للنفس في تلك المرحلة بمخالفات اللسان ، كتدريج لها ، فإن هو استقامت له المجاهدة في هذه المرتبة ، زحف إلى ترك مخالفات اللسان ، وإن ترك للنفس سعة ، في هذه المرحلة ، في مخالفة الخواطر في العقل الواعي ، بأن سمح بجولان الخواطر الشريرة فيه ، وذلك أيضا تدريج للنفس . ثم إن هو استقامت له المجاهدة ، في هذه المرتبة أيضا ، انتقل الى تحريم جيشان الخواطر في العقل الواعي ، وهكذا الى أن يصل الى تنقية خواطر العقل الباطن ، ويومئذ تتم سلامة القلب ، فيرى في صفوها الله العظيم ، ويبدأ من هناك الاسلوب الطردي في التعليم . ويكون السالك ههنا في سلام مع نفسه ، ومع ربه ، ومع الأحياء ، والأشياء . وهذا هو الإسلام في قمة وهو الذي أمر الله تبارك وتعالى المؤمنين به حين قال (( يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين )) فالسلم هنا هو السلام ، وهو الإسلام في قمة.