إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

بعد أربعين سنة من الغياب: مشروع الأستاذ محمود محمد طه الفكري وواقع البلاد المؤلم!!

د. جعفر الماحي


٢٧ يناير ٢٠٢٥

قد شجاني مصابه محمود *** مارق قيل وهو عندي شهيد
دكتور/ عبد الله الطيب


تمرّ علينا هذه الأيام الذكرى السنوية الأربعون لاغتيال الأستاذ الجليل محمود محمد طه. هذا ولا تزال هذه الحادثة المؤسفة، تشكل للكثيرين من محبي الأستاذ أمثالي، مصدراً للحزن والأسى، ومعيناً لا ينضب للتفكير والتأمل رغم تطاول الأيام. ولا أبالغ ان قلت ان تأثيرها علي شخصياً، ظل باقياً معي كل هذه السنين، ملك علي نفسي وصبغ وجداني. إذ يندر ان يمر يوم دون ان تخطر على بالي أو تطوف بخاطري رهبة المشهد.

غرابة الحدث!!


لقد بدت لي الحادثة وقتها، كما هي اليوم، ولأسباب عديدة، غريبة، كأشد ما تكون الغرابة. ذلك أن الأستاذ محمود هو صاحب دعوة دينية قوامها الإسماح والحكمة والتي هي أحسن في القول والعمل. رجل سلام من طراز رفيع، دعا له وبشر به وعمل من أجله آناء الليل وأطراف النهار. فهو القائل بعودة الإسلام نوراً بلا نار. وهو المؤمن إيماناً لا يهتز بمستقبل الإنسان الزاهر وغده المرجو الذي تملأ فيه الأرض سلاماً وعدلاً كما ملئت جوراً. ولأجل هذا اليوم كان الأستاذ محمود يعمل. فأدرك باكراً، وقبل الآخرين، بعيد الحرب العالمية الثانية، أن حاجة البشرية المعاصرة للسلام، هي حاجة حياة أو موت. ثم نظر بعين البصيرة وفهم أن الإسلام لينهض بهذا التحدي، يجب أن يخرج العنف بكل اشكاله من معادلة التغيير الاجتماعي. ويقتضي ذلك تطوير التشريع بالانتقال من نص في القرآن قدم خدم غرضه إلى آخر جاء وقته. تحديداً، الانتقال من القرآن المدني الذي قام عليه التشريع (آيات الفروع)، إلى القرآن المكي (آيات الأصول). عندها تصبح تشريعات الجهاد، والرق، والطلاق، وعدم المساواة بين الرجال والنساء شرائع مرحلية خاطبت حاجة مجتمع الأمس. فكانت حكيمة، كل الحكمة في وقتها. لكنها، بكل تأكيد، قاصرة عن قامة بشرية اليوم. فتنسخ، وتحل محلها آيات الأصول التي نستلهم منها روح الإسماح في الدعوة، وينظم فيها المجتمع الإنساني على أساس من الديمقراطية، والاشتراكية لنصل به إلى يوتوبيا المساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المرجوة بين أفراده. هذه، باختصار شديد، ملامح من أطروحة الأستاذ محمود الفكرية والتي ظل ينافح من اجلها بالكلمة المسموعة والمكتوبة طوال حياته. والتي دفع حياته ثمناً لها في نهاية المطاف. وهنا يلح السؤال؛ ألا يبدو غريباً والحال هكذا، أن يقتل رجل كان سلاحه الوحيد الكلمة، وجوهر دعوته السلام؟ رجل آمن بقدر الإنسان وحظوظه من الكمالات الإلهية، وبشره بأنها هي ميراثه؟ أيكون جزاء من وقف حياته كلها لنصرة الإسلام وإعادته لينتظم حياة الناس بعد أن كاد ان ينصل منها، أن يقتل؟! هذا ويزيد الأمر غرابة علمنا ان التاريخ البشري، قديمه وحديثه، لا يخلو من نماذج لهذه الجرائم البشعة التي طالت كبار المفكرين والمصلحين الاجتماعيين عبر العصور. نذكر من هؤلاء على سبيل المثال سقراط، جاليليو جاليلي، السيد المسيح، سير روبرت مور، الحلاج، السهروردي، المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كنج. فكأن في موت هؤلاء حياة لما ظلوا ينادون به من أفكار. وكأن انتصارهم لها اقتضى التضحية بحياتهم.. ولله الحكمة البالغة..
وجه آخر لغرابة الجريمة في حق الأستاذ محمود يتمثل في أنها قد تمت جهاراً نهاراً وعلى مشهد من الجميع، وفي وطنه الذي أحب؛ السودان. إن ما وقع على الأستاذ محمود لظلم عظيم تتحمل وزره المؤسسة الدينية التقليدية وجماعة الاخوان المسلمين والوهابية وبعض المتصوفة في داخل وخارج السودان. فقد حالت هذه المؤسسة المتكلسة بين الأستاذ محمود وبين الناس. فعملت جهدها في تشويه اراءه وافكاره وكتبه، ونقلتها لهم نقلاً مخلا مغرضاً. فلم يسمع له إلا القليل. لقد نجحت هذه المؤسسة وإلى حد كبير في خلق رأي عام وسط العامة والبسطاء من الناس مهيأ ولو نظرياً لتقبل هذا العمل المشين الذي لحق بالأستاذ الجليل. إن خصوم الأستاذ محمود الذين ذهبوا به لحبل المشنقة، هم أحد رجلين: إما جاهلْ بما كان يقوله الرجل، أو مغرض. وكلاهما قد باء بإثم عظيم على تفاوت بينهما في ذلك.
لقد كان الأستاذ الجليل شديد الاعتداد بسودانيته، محباً للشعب السوداني، ساعيا لسعادته، ذو اعتقاد راسخ فيه، مؤمناً بقدره ومبشراً بما ينتظره من كمالات قد ادخرها الله له. أسمعه يقول في ذلك:
" أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم، وأن القرآن هو قانونه وأن السودان، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن، وحاجة الفرد إلى الحرية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يهولن أحداً هذا القول، لكون السودان جاهلاً، خاملاً، صغيراً، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء".
أو إن شئت، فأقرأ السطر الأول، من منشوره الشهير 'هذا أو الطوفان' الذي يبدأ هكذا 'غايتان شريفتان وقفنا، نحن الجمهوريين، حياتنا، حرصاً عليهما، وصوناً لهما، وهما الإسلام والسودان'. وهو المنشور الذي حوكم بسببه. إن الأستاذ محمود لهو ابن السودان البار بحق وحقيقة. ملأ حبه للسودان عليه جوانحه، واستبد بأصغريه. فسعى جهده لإسعاد أهله، ثم حين دعا الداعي قدم روحه فداءً لإنسانه. أو ليس من الغريب، أن يقوم نفرٌ من قومه وبني جلدته بالتآمر عليه. يتربصون به الدوائر ويترصدون الفرص للتخلص منه جسدياً، لما رأوا فيه من مهدد مباشر لمشروعهم السياسي الخاسر؟ إنه مما يدعو للأسف أن يكون من بين أبناء شعبه الذي أحبه كثيراً، من يكيد له ويسعى بالسوء إليه، ويسترخص سفك دمه، ثم هو يفرح ويهلل لمصابه في منظر يهز ضمير كل إنسانٍ سوي على ظهر هذه البسيطة. فطوبى للأستاذ محمود في عليائه..

سودان ما بعد الجريمة!!


هذا المقال هو بمثابة زيارة ثانية لهذا الحدث الجلل والمفصلي في تاريخ السودان الحديث. أدفع فيه بفرضيّة هامة مفادها ان السودان، غداة ذلك اليوم المشهود، لم يعد هو الوطن الذي ألفناه. فلا الأشياء هي الأشياء، ولا الأخلاق، الأخلاق. فقد أشرقت علينا شمس اليوم التالي للجريمة، وإذا بنا أمام سودانيين؛ سودان ما قبل التنفيذ، وسودان ما بعده. ودخلت البلد بذلك ما يمكن ان نطلق عليه بعصر 'الطوفان' الذي ورد في نذارة الأستاذ محمود في منشوره 'هذا أو الطوفان'، والذي كان بمثابة النذير العريان لما ينتظرها من فتن نعيش فصولها اليوم. لقد برهنت لنا الأيام أن اغتيال الأستاذ محمود، بتلك الطريقة له ما بعده. فهو لا يمكن ان يكون حادثاً عرضياً يطويه النسيان مع تقادم الزمان. فقد كان الحادث ملمح لخلل كبير في عقلية البعض منا. عقلية تولت أمرنا في غفلة من الزمان، تستسهل ان يعلق الناس على أعواد المشانق لآرائهم. فقد وضح أن للحادثة تداعيات خطيرة على مستقبل السودان في المديين القريب والبعيد. إن ما يشهده السودان اليوم من مآسيٍ تفتك بأهله إنما هو، في رأيي، الطوفان الذي حذر منه الأستاذ محمود، متراخياً في الزمن. فقد جاء في التنزيل الحكيم (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وأما على المستوى المنظور، فخراب أمير في موت فقير، كما جرى بذلك المثل.
كان الأستاذ محمود أول من جاهر برأيه، حين خنس الآخرون، في قوانين سبتمبر ١٩٨٣. من أنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام ونفرت عنه. فتنة هددت وحدة البلاد بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب. وقد اثبتت الأيام، رجاحة رأي الأستاذ محمود وبعد نظره فيما ذهب اليه. إذ لم يمض وقت طويل حتى قفز الإخوان المسلمون على السلطة في إنقلاب مشؤوم في يونيو ١٩٨٩ كان بكل المقاييس كارثة على البلاد والعباد. لوثة قوضت اركان الدولة، أخطر ما فيها أنها غيرت طبيعة الحرب في جنوب السودان من حرب مطلبية إلى دينية، أعلنت فيها الدولة السودانية الجهاد على مواطنيها في ذلك الجزء من البلاد. فكان من الطبيعي ان يقاوم الجنوبيون هذا التوجه الذي يجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم، كما وانفتح بذلك الباب واسعاً، أمام التدخل الخارجي في الشأن السوداني. ودخلت في الصورة جماعات الضغط العالمية -ساسة ورجال دين- في أوروبا وأمريكا. فخططت وضغطت لأجل فصل الجنوب عن البلاد لما رأته من اضطهاد لغير المسلمين في الجنوب. أعانهم في ذلك قصر نظر خطاب وممارسات حكومة الإنقاذ حينها، وقلة حنكة المفاوض السوداني. فانتزع منهم حق تقرير المصير للجنوب، انتزاعاً. فكان لهذه الجماعات ما أرادت، وكانت كارثة الانفصال التي لم تكسب البلد عافية بعدها. تمظهر ذلك في التدهور المريع في الأحوال الاقتصادية والمعيشية لسواد الشعب بعد ان ذهب بترول الجنوب. فعانى الناس من المسغبة وشظف العيش. وخرجت أطراف البلاد على الحكومة. وحمل الناس السلاح ضدها في دارفور، وجبال النوبة والنيل الأزرق. ولما عجزت الحكومة من أن تنهض بحروبها المتعددة هذه عمدت إلى استغلال التناقضات الاجتماعية في هذه الأقاليم لمصلحتها. تحديداً الصراع على الموارد بين العرب والزرقة في إقليم دارفور. فأنشأت المليشيات المختلفة لأجل ذلك. وقننت لها، ورعتها وأغدقت عليها المال. غير أنها لم تكن تدري أنها بفعلتها تلك قد بذرت بذرة ما نعيشه اليوم من حرب أهلية طالت كل البلاد.
ان الأربعين عاما التي مضت على انتقال الأستاذ محمود مثلت ابتلاء عظيماً للشعب السوداني. فهي فترة شهدت فيها الدولة السودانية انحطاطاً شاملاً وفي كل المجالات.. في التعليم، الاقتصاد، الصحة، الخدمات، والأمن. فترة تراجعت فيها العلوم والفهوم وأخذ الخط البياني العام لحياتنا في الانحدار. إن حال الشعب السوداني اليوم، هو كحال بني اسرائيل وهم في التيه غير أنه لا موسى له. لقد صدقت علينا نبوءة ابن خلدون في مقدمته وهو يصف أسباب سقوط الدولة الحديثة حين قال:
"عندما تنهار الدول يكثر المنجمون، والمُتسوِّلون، والمنافقون والمُدَّعون والكتبة والقوالون والمغنون النشاز، والشعراء النّظامون، والمُتصعلكون، وضاربو المنّدل، وقارعو الطبول والمتفقهون، وقارئو الكف والطالع والنازل، والمُتسيّسون والمدّاحون والهجاؤون وعابروا السبيل والانتهازيون. يسودُ الرعبُ ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب، وتعمُّ الإشاعة، ويتحوَّل الصديق إلى عدو، والعدو إلى صديق، ويعلو صوت الباطل ويخفق صوت الحق، وتظهر على السطح وجوهٌ مريبة وتختفي وجوه مؤنسة وتشح الأحلام، ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل، وتضيع ملامح الوجوه، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقاً، وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء".

فهل هنالك وصف أبلغ لحالنا اليوم من هذا؟

وبعد
لقد شاءت الأقدار ان ملكت امر بلادنا في هذه الفترة من تاريخها، ذهنية غريبة عجيبة أوردتها المهالك.. هي ذات الذهنية التي سمحت لنفسها ان تقتاد شيخاً في السادسة والسبعين من عمره إلى المقصلة، وهي ذات الذهنية التي فصلت جنوب السودان، وأشعلت فتنة دارفور وتسببت فيما تشهده البلد اليوم من إقتتال أهلي بشع، سفكت فيه الدماء وهجرت فيه الناس من ديارها، وانتهكت حرماتها، ودمرت مقدرات البلد. هذا ولن ينصلح امرنا حتى تهزم هذه الذهنية. ان المشروع الفكري الذي طرحه الأستاذ محمود، في اعتقادي، كان سيحفظ على البلد وحدتها ولحمتها الوطنية، ويجنبها الحرب الأهلية التي تعصف بها اليوم لو أخذ الناس به ووجد فرصته في التطبيق.. لقد ذهب الأستاذ محمود إلى ربه، راضيا مرضيا، ولسانه يردد قول السيد المسيح 'كلمتي لا ترجع اليّ فارغة'..