إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود .. اتساق الفكر وأناقة التصور

عادل إسماعيل


٢٤ يناير ٢٠٢٥

كان الأستاذ محمود محمد طه يتسم بسماحة التفكير الذي ينسجم مع بعضه البعض ، كأنه يخرج من ذات ملمومة ومضمومة غير متناثرة ، وهو أمر مثير للإعجاب بالفعل .
شعر الأستاذ محمود ، منذ وقت باكر ، بالخلل الكبير في تناول الفكر الإسلامي المألوف مع فوران المجتمع البشري وسيره الحثيث في التفاعل مع الحياة وضرورة التطور الذي يدفعه باستمرار إلى بلورة تشاريع تفسر حركته وتضبطها .
و لما كان القرآن هو أهم “كتاب” يستمد منه المسلمون تشاريعهم ، جاءت ضرورة الغوص في محتواه الذي يبدو بعيدا عن دينامية حركة المجتمع التي أرتقت لتساوي بين الناس من حيث هم بشر . إذ تطلع إنسان القرن العشرين لصوغ هذه المعاني ، التي وصلها عبر طريق وعر رصفته أشلاء و دماء ، فجاءت حقوق الإنسان و ما جاورها من حقوق .

اكتشاف الرسالة الثانية


غاص الأستاذ محمود في تجربة روحية كبيرة ، محاكيا طلائع الأنبياء ، في العكوف على استطلاع أزقة النفس وطرقاتها ، بعد “حرمانها” من مألوف الطعام والشراب الذي يشدها إلى الواقع اليومي ، فسمت نفسه ، وشعت سناء ، وشحذت حواسه فصار بصره حديدا ، ليرى ذات الأمور المألوفة بطريقة مختلفة .
نظر الأستاذ محمود إلى القرآن بتلك العين التي جلتها تجربته الروحية الكبرى ، فرأى خطابين داخل النص القرآني ، لا خطابا واحدا . ورأى تشريعين ، لا تشريعا واحدا . ورأى رسالتين لا رسالة واحدة ..
وكما ترى ، فالمستويان ، في الخطاب القرآني ، واضحان بشكل يجعلك تسغرب لماذا لم يرهم أحد من قبل وهما بهذا الوضوح !! ولذلك أطلقنا عليه اكتشاف لأنه شيئ موجود بالفعل ولم يخترعه الأستاذ محمود .
استنتج الأستاذ محمود أن إحدى الرسالتين (عبر عنها القرآن المدني عموما) قد استنفدت أغراضها وأصبحت مثل الدواء الذي فقد صلاحيته ، فلم يعد معالجا لأدواء إنسان اليوم ولا متسقا مع متطلباته .. فلم يبق ، إذن ، إلا الرسالة الثانية (عبر عنها القرآن المكي عموما) ، أو البحث عن فلسفة أخرى تتناول قضايا إنسان اليوم بشكل أكثر مضاء و نجاعة .

جمال التفكير و أناقة التصور


والمدهش في الأمر ، كما لاحظ أحد الأصدقاء القدامى من اللادينيين ، أن عامة المسلمين الذين يرفضون مثل هذا التصور المبسط الذي يجعلهم مساهمين في إيجاد حلول عملية لبشرية اليوم ، كأنما هم يرفضون من يقذف لهم بطوق النجاة من الغرق في لجة التلاشي و العدم .
والتصور البسيط إنما هو صنو الأناقة والجمال ، وهو عند العالم أينشتاين دليل على صحة النظرية . فقد جاء في أدبيات التاريخ العلمي وبحثه المستمر لفكرة توحيد القوى الفاعلة في الوجود في معادلة واحدة ، والذي يقول لو إنك أرجعت شريط الوجود إلي الوراء ، فلا بد أن كانت هذه القوى الفاعلة ملمومة ومضمومة في نقطة واحدة فريدة قبل أن تخرج هذه القوى وتتناثر لتبدو كأنها ذات نوع مختلف – جاء في هذه الأدبيات ، إن مجموعة من العلماء ، زاروا أينشتاين في منزله (في التاسع والعشرين من مايو لسنة ألف وتسعمائة وتسعة عشر ، وهو تاريخ الكسوف الكلي للشمس في بعض المناطق كالبرايل وتنزانيا ، وكانت المراصد حينها تفرك عينيها لاختبار صحة نظرية اينشتاين) ، وقالوا له ماذا تقول إن لم تصح نظريتك عند التجربة ؟؟ . قال أينشتاين ، عندها كنت سأعتذر لرب العالمين ، وتبقى النظرية صحيحة لأنها شديدة الأناقة والجمال .
ولك أن تتصور الشمس وهي تجلس على ملاءة الفضاء ، فتحدث فيه تقوسا تحتها ، فيرسل نجم بعيد ضواي أصابعه الذهبية نحو الشمس ، ولن تجد هذه الأصابع بدا من الإذعان لهذا الانحناء حتى تلامس تخوم جسد الشمس ، فيبدو لنا النجم البعيد الضواي على امتداد هذا التلامس ، في غير مكانه الحقيقي الذي ولد وترعرع فيه .. واااااو ، يا للبهاء .

محاولة الإفلات من المأزق


حاول عديدون “تحديث” الفكر الإسلامي ليتعايش مع متطلبات الحاضر ، أهمهم إسلاميون سودانيون ، وذلك للحاجة الملحة لتحديث الفكر الإسلامي في السودان أكثر من أي مكان في محيطه ، وذلك أيضا فرضته ضرورة التنوع الوعر الذي ظل دقداقا في أرض السودان ، فحاول هؤلاء التحديثيون تسويته بالعنف حينا إن ظنوا أنهم أقوياء ، وحينا آخر بالدغمسة إن أكتشفوا ضعفهم .
ولأنهم تعاموا عن ما نادى به الأستاذ محمود ، راحوا يتقافزون بين النصوص القرآنية ، بشطارة بهلوانية ، علها تسعفهم في مأزقهم الأبدي . فها هم يتغنون بالحرية والديمقراطية ، ويستدعون الآيات التي تدعمها وهم خارج السلطة ، ويدغمسون أمر “الجهاد” و يتغافلون عن الآيات التي تحض عليه . ثم ها هم يتغنون بهذا “الجهاد” ، وهم داخل السلطة ، ويدغمسون أمر الحرية والديقراطية ، في بهلوانية معكوسة هذه المرة . فعلى سبيل المثال ، سأل الصحفي الكبير بشير محمد سعيد ، في برنامج تلفزيوني ، الدكتور حسن الترابي عن رأيه في “الجهاد” ، فأجابه قائلا إن “الجهاد” أمر تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث . وبعدها ، نحو ثلاثة أعوام ، انقلب ذات الترابي على ذات الحرية والديمقراطية وغنى لذات “الجهاد” !! وذلك إنما هو عدم الاتساق في أقبح تجلياته . وقس على ذلك أقوال كل من يتصدى للتفكير في الشأن الإسلامي من العالم الإسلامي وغيره ، ولا يسع المجال لإيراد العديد من الأمثلة في هذا المقال .
أما عند الأستاذ محمود ، فالأمر بسيط وأنيق . فالجهاد والرق ودونية المرأة وغير المسلم ، إنما هي تشريعات للمجتمعات القاصرة ، ولم يعد لها وجود , وتلك عنده هي مفاهيم الرسالة الأولى (القرآن المدني) . أما عالم اليوم الرشيد ، في العديد من وجوهه ، إنما تستوعب قضاياه الرسالة الثانية (القرآن المكي) ، حيث تشريع الحرية والمساواة .
وكما ترى ، فالمسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في مشروع الأستاذ محمود لأنه يخرجهم من عزلة داعش وأمثالها ، ويجريهم مجرى الإنسانية العام ..

صدق داعش وتدليس المسلمين


الغريب في الأمر ، إن المسلمين في عالم اليوم ، يستنكرون “بشاعة” داعش وطالبان وأمثالها ويتبرأون منها بدعوى أن هذا “التخلف” ليس من الإسلام في شيء . وهؤلاء المنتقدون المسلمون إنما هم مدلسون ، ويحاولون أن يبدووا متحضرين . فلداعش فقهاء وعلماء بالسيرة مدركون لأفعالهم ويرونها منسجمة مع الإسلام ، وهذا صحيح وهم في ذلك أصدق من منتقديهم . وكل ما في الأمر أنهم يطبقون مفاهيم الرسالة الأولى من الإسلام كما سادت في دولة المدينة في الماضي .
وغني عن القول ، إن التقدم الهائل الذي يعيش فيه الإنسان اليوم ، يجعل المقارنة معدومة مع مجتمع المدينة في القرن السابع الميلادي . فعلى سبيل المثال ، فإن المرأة اليوم تفجر الثورات مع أخيها الرجل وتعيش معه الآمال والآلام في العالم الثالث ، وتقاسمه الضغط على الزر النووي في العالم الأول . فكمالا هارس نائبة الرئيس الأمريكي ، تتصدى لكل شيء في حالة غياب الرئيس ، حتى ولو أدخل المستشفى ، فتحتوي يداها الناعمتان “أرض الملعب” ، وهو الاسم الكودي للسلاح النووي ، ويمكنها بثلاث لمسات من أصابعها الرقيقة أن تحرر الجن النووي المسجون في قلب ذرة اليورانيوم والبلاتينيوم ، فتدمر الحياة وشروطها في كوكب الأرض ستة وعشرين مرة ، ولن تستطيع الأرض استقبال الحياة عليها من جديد إلا بعد مرور نحو سبعة عشر بليونا عاما ونيف تكون بالكاد استعدت خلالها لاستضافة حيوان الخلية الواحدة البدائي .. فكيف ، إذن ، يتسنى لك أن تطرح فكرة أنها على النصف من مرؤوسها في شهادتها للكونقرس وهى عائدة لتوها من رحلة بدون “محرم” ، وقعت خلالها تفاهمات يستفيد منها منكوبون يشملون رجالا مسلمين استولى على حقوقهم لصوص مسلمون ، أو أنها على الربع من زوجها حين تدخل بيتها ؟؟ .
مثل هذه الأسئلة ، ينبغي على المسلمين التفكير فيها و عدم الزوغان منها .

لغة الأستاذ محمود


تتسم لغة الأستاذ محمود بالجزالة (الجمال) و القوة (الاتساق) والاقتضاب (الأناقة) ، وهو الثلاثي المسئول عن مغناطيسية لغة الأستاذ محمود . فهي لغة مسددة و محتشدة نحو مركز الفكرة التي يطرحها . على سبيل المثال ، هذا التنوع الواسع في ساحات الوجود الذي يبدو لا نهائيا ، “إنما هو اختلاف مقدار وليس اختلاف نوع” عند الأستاذ محمود ، فلا تكاد تجد عبارة ضامة وأكثر احتواء منها للتعبير عن مقاصدها . أو “كل إنسان غاية في ذاته و لو كان أبلها” ، فلا تكاد تجد عبارة تعلوها تمجيدا لكرامة الإنسان وحقوقة في هذا المضمار .
وكما ترى ، ذات الاتساق والأناقة والجمال ينتظم كل كتاباتة ، حتى لو أنك استبدلت كلمة بأخرى ، ظهرت العبارة كأن بها رقعة وسرعان ما يتضح تطفلها على النص . انظر ، يا ابن ودي ، إلى هذا السبك الفخيم في هذه الفقرة من مفتتحات كتاب الرسالة الثانية :
“عندما استعلن النور الإلهي بمحمد الأمي من جبال مكة في القرن السابع الميلادي ، أشرقت شمس مدنية جديدة بها ارتفعت القيمة البشرية إلى قمة لم يسبق لها ضريب في تاريخ البشرية ” .

ويمتد هذا السبك الفخيم حتى في توظيف الحقائق العلمية الجافة كارتقاء الحيوان على الجماد ، لتخدم الغاية عنده ، فها هو يضع الحقيقة العلمية الجافة في عبارة أخاذة ، كأنها نغمة مخبوءة في وتر تهيأ ليضوع منه لحن باق . اسمعة يقول :
“والكرامة عند الله للبشر وليست للسموات ولا للأرض ، بل إن النملة عند الله أكرم من الشمس ، لأن النملة دخلت في سلسلة من الحياة والموت ، لم تتشرف بها الشمس ، وهي تتطلع إليها ، وترجوها بشق النفس” .


انسجام القول والعمل عند الاستاذ محمود


ولعل الذات الملمومة والمضمومة غير المتناثرة التي أشرنا لها ، في بداية هذا المقال ، تقف خلف هذا الاتساق . فهو يقول كما يفكر ويعمل كما يقول . فقد كان يتصدى للعمل بنفسه . وكان يبرز لمقام المسئولية عندما يتم اعتتقال تلاميذه ويعلن أنه خلف هذا الموضوع لا أن يوفر نفسه بحجة الحفاظ على “القلب النابض للحركة” . وكان تعامله مع الناس ممزوجا بتفكيره من أنهم غايات في ذواتهم وليسوا وسائل تتخذ لتحقيق أي شيء آخر ، وكان يعيش هذا المعنى دما ولحما فيسكب عليه ، من ذاته المتصالحة مع نفسها ، تبجيلا ممتدا للإنسان من حيث هو إنسان ، ويسوقه لكل أؤلئك إدراك صاف للأحياء والأشياء . على سبيل المثال ، قيل أن رجلا ، أكل مرض الجزام المعدي بعضا من أطرافه ، زاره في بيته المفتوح دوما ، وعندما جاء الطعام ، عاف الحاضرون مشاركة الأكل مع الزائر ، إلا صاحب الدار ، سمح النفس ، الذي برز وحيدا لمقام إنسانيته وقاسمه اللقمة ، وقال لاحقا إنه يكن تقديرا عاليا لهذا الرجل لأنه فداه ، وذلك لأن هذا المرض أرسله الله لأهل الأرض ، فتلقاه هذا الرجل نيابة عنا !! ما هذا ؟؟ أي طين قد منه الأستاذ محمود ؟؟ .

يوم الرحيل


حكم على الأستاذ محمود بالقتل بتهمة الردة عن الدين الإسلامي . وكان قضاته الرسميون وغير الرسميين يعبرون عن تيارين سائدين . فأما التيار الأول ، فكان يظن أن الأستاذ محمود يعمل على تخريب الدين الإسلامي ، ويرى أن طرحه كان غريبا . وهؤلاء لم يصبروا عليه ، رغم أن الغربة إنما هي كسر للمألوف الذي لا يكون الارتقاء إلا به . فهكذا تشهد مسيرة الإنسان في رحلته الطويلة من وحشة الغابة إلى أنس المدينة .. وأما التيار الثاني ، فكان يرى في الأستاذ محمود تهديدا كبيرا لمشروعهم . وهؤلاء كانوا وما يزالون يبثون “السم” الإسلامي لسجن العقول والأفئدة لتقبل أن تكون وسيلة لغاياهم ، بينما يبث الأستاذ محمود “الترياق” الإسلامي لتحرير هذه العقول والأفئدة ليكونوا هم غايات في ذواتهم.
وأما الأستاذ محمود .. فقد أدرك ، حينها ، أن هذه الذات الملمومة والمضمومة غير المتناثرة لا يتسنى لها أن تلج داخل عتبات الكمال إلا بمعانقتها لغيب ظلت دوما تشتاق إليه. فخرج وحيدا للملأ في ثوب عرسه ، يوم الثامن عشر من يناير لسنة ألف وتسعمائة وخمسة وثمانين ، فمشى بخطى وئيدة مطمئنة ، وقيود في قدميه كأنها وضعت لدوزنة خطاه ، لا خبب ترى فيها ولا فتور ، ثم صعد سلمه اللولبي وأرسل ابتسامة طرية رددت صفحات المكان نداها ، وتكات الزمان صداها ، ومضى حينها منتشيا كأنه جسيد الوجود ..