إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد أشار صاحب (الصيحة) بخبث ظاهر حين اتهم الجمهوريين المتحركين بدعوتهم بالردة، مالم يقروا بأنهم تركوها واختاروا اسما آخر لحزبهم، والهدف من هذا الكلام هو أنه يحاول أن يوحي للقراء بأن محاكمة الأستاذ محمود كانت دينية بسبب معتقداته، مع إن معظم زملائه في الحركة الإسلامية اعترفوا بأنها قتل عمد في صراع سياسي استخدم فيه القضاء أداة لتنفيذ الجريمة ولا علاقة له بتهمة الردة، وسأفصل في الحلقة الأخيرة..
تتناول هذه الحلقة، قضية في غاية الأهمية في الوقت الراهن، وهي رؤية الرسالة الثانية للدستور والحكم الدستوري، بعد أن ألقينا بعض الضوء على مسألة تنظيم الاقتصاد، فالمجتمع لا ينهض إلا بجناحي الديمقراطية والاشتراكية في جهاز حكومي واحد.. وكلنا نعلم أن الجنوب انفصل لقناعة أبنائه بأن الشمال المسلم لا يملك فهما للدستور يمكنه من إعطاء غير المسلمين حقوقا متساوية، طالما أنه تبنى (الشريعة) الإسلامية السلفية منهجا للحكم تحت انقلاب الإنقاذ، إذ أنه معلوم للجميع، أن تلك الشريعة لا تساوي بين المسلم والكتابي، ولا بين المرأة والرجل، أكثر من ذلك فإن اللاديني ليست له حقوق دستورية وإنما خياره الوحيد هو الدخول في الإسلام وإلا يقتل.. وبالرغم من أن التنظير في الدستور الانتقالي 2005م، كفل الحقوق الأساسية للجميع ونص على حقوق المواطنة المتساوية، إلا أن التطبيق خلال الفترة الانتقالية كان مخالفا لذلك التنظير بصورة مخجلة، والسبب هو أن الفهم السلفي هو المسيطر على العقول، وبذلك لم تكن الوحدة خيارا جاذبا للجنوبيين، فاختاروا الانفصال..
وفي الحقيقة، لم يغب تأثير العقيدة الدينية السلفية عن الساحة السياسية، منذ أن بدأت البلاد تخطو نحو الاستقلال، ,وقد اتخذ أشكالا مختلفة، فيما بعد، ففي الحكم العسكري الأول 58-1964م، اتجه العساكر إلى فتح الخلاوى بالجنوب، وتأسيس المساجد، ثم قاموا بطرد بعثات التبشير المسيحي ليجدوا التأييد الشعبي بالغطاء الديني.. وفي الديمقراطية الثانية 64-1969م، بعد ثورة أكتوبر، اتفقت الأحزاب الطائفية والأخوان المسلمون والسلفون عموما، على حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان، ثم شرعت في طرح الدستور الإسلامي حسب فهمها السلفي مما فاقم من مشكلة الجنوب، وقد كثف الحزب الجمهوري نشاطه لكشف مفارقة ذلك الدستور للإسلام، تحت لافتة (الدستور الإسلامي المزيف) فردت تلك الأحزاب بإقامة مهزلة محكمة الردة عام 1968م لمصادرة حق حرية التعبير للأستاذ محمود.. ولما وصلت محاولة إجازة الدستور الإسلامي المزيف، مرحلة القراءة الثالثة، في الجمعية التأسيسية قام إنقلاب مايو، ودخلت البلاد في مرحلة حكم عسكري..
وفي الربع الأخير من فترة مايو، لجأ نميري إلى فرض قوانين سبتمبر باعتبارها (الشريعة)، ليوفوِّت على الأخوان المسلمين فرصة القضاء على سلطته، وقد كانت تضغط بقوة مستغلة الدين لاحتواء نظامه وتفكيكه، مما أدى إلى تصعيد الحرب في الجنوب وتأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983م.. وعندما سقطت مايو، فشلت الحكومة الانتقالية، وجميع حكومات فترة الديمقراطية الثالثة، في إلغاء قوانين سبتمبر 1983م، والسبب هو الحساسية الدينية المتعلقة بتلك القوانين.. فالأحزاب الطائفية والأخوان المسلمون، لا يملكون فهما للإسلام يجنبهم الوقوع في نفس الفتنة التي وقعت فيها مايو، ولذلك عجزوا عن إلغاء قوانين سبتمبر إلى أن قام انقلاب الحركة الإسلامية عام 1989م، فتفاقمت مشكلة الجنوب وتحول الجنوب إلى دار حرب حسب (الشريعة) يجب إخضاعها بالسلاح حسب زعم السلطة.. وقد كان الأستاذ محمود يجمع قتلى الطرفين ويقول نحن الشعب السوداني فقدنا كذا من أبنائنا بسبب الجهل، وكانت المحصلة النهائية انفصال الجنوب، والسبب الأساسي لجميع هذه التداعيات هو غياب الفهم الإسلامي المستنير..
إن مشكلتنا الأساسية، التي لازمتنا منذ الاستقلال، ليست مشكلة (هياكل) وإنما هي أزمة (فهم)، فالقضية الأساسية التي يجب أن نركز عليها، جميعا، هي أن ثقافة الدستور والحقوق الدستورية تكاد تكون غائبة في الميدان السياسي من الناحية العملية في جميع مراحل الحكم الوطني.. والسبب هو إننا نحن ـ السودانيين ـ في جملتنا لم نظفر إلى الآن ولو من ناحية التنظير، على فكر نابع من ديننا يجعلنا نحترم الدستور، وننسج حوله رأيا عاما يوجه، ويضبط من ينتهكون حقوق الآخرين باسم الدين، وكل معارفنا حول تلك الحقوق، إنما تسربت إلي عقولنا من خارج الإسلام، وتحديدا من الثقافة الغربية ولذلك لا وزن لها من ناحية الدين..
إن الإسلام مستويان، المستوى العلمي والمستوى العقائدي، ولقد قامت الشريعة السلفية على المستوى العقائدي، وآياته من القرآن هي الآيات المدنية "الفروع"، أما الشريعة المطورة وهي الرسالة الثانية التي هي موضوع هذا البحث، إنما تقوم على المستوى العلمي وفق الآيات المكية "الأصول".. والفرق بين المكي والمدني في القرآن، ليس مكان أو زمان النزول وحسب، وإنما الفرق الأساسي هو أن المكي يخاطب الناس على أنهم مسئولين، وأن المدني يخاطب الناس على أنهم قصّر محتاجون إلى وصي رشيد يدرجهم نحو المسئولية.. ولما كان الدستور يقوم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات، لا فرق بين مواطن وآخر بسبب العقيدة، أو اللون أو الجنس، فإن مصدره لا يمكن أن يكون (الشريعة) السلفية لأنها مرتكزة على التمييز بين المواطنين على تلك الأسس.. فالدستور (أصل) والشريعة (فرع) فرضته الضرورة ولا يمكن أن يكون الفرع مصدرا للأصل..
ما هو الدستور؟؟ وما هي الآيات التي تسنده من القرآن المكي؟؟
الدستور كلمة فارسية، تعني القاعدة التي يجب أن يسير عليها الناس.. والأساس الذي ينبني عليه الدستور، هو كفالة الحقوق الأساسية لجميع المواطنين، دون تفريق بينهم بسبب العقيدة، أو اللون أو الجنس، ولذلك فإن الدستور يعرّف بأنه القانون الأساسي، لأنه ينص على هذه الحقوق الأساسية.. والحقوق الأساسية هي حق الحياة وحق الحرية وما يتفرع عليهما من حقوق مكملة، وقد سميت حقوقا أساسية، لأنها ليست معطاة من أحد، فهي هبة الله للإنسان منذ أن يولد.. ولذلك لا يحق لأحد أن يسلب آخر هذه الحقوق في شرعة العدل، فهي كالهواء، منحة ربانية وحق أساسي مقدس، وهي باختصار روح الدستور.. وأي دستور لا ينص علي هذه الحقوق في مواده بدرجة تجعلها غير قابلة للتعديل، ليس بدستور على الإطلاق، وإنما هو تزييف للدستور وخداع وتسويغ لنزوات الأفراد في الحكم المطلق.. وقد أخفق كثير من أساتذة الفقه الدستوري في فهم هذه النقطة الأساسية الجوهرية، فصاروا يتحدثون عن أنواع الدساتير من غير تمييز دقيق بينها، على هذا المقياس العلمي، حتى وثائق الملك الوراثي في الحكم الملكي العضوض، المطلق، سميت دساتير!! والدستور بهذا المعنى أصل، والقانون فرع ولذلك لا بد أن يعمل القانون على تحقيق أهداف الدستور، ومن ثم يكون قانونا دستوريا، وإلا يصبح باطلا.. فالقانون الدستوري إذن، هو الذي يحمي الحقوق الأساسية للأفراد ويحفظ الأمن للمجتمع في آن واحد، وذلك بمصادرة حرية من يتعدى علي حريات الآخرين، وبعبارة أدق، هو الذي يحقق حين يطبق حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة..
الدستور بهذا المعنى الأصولي في حقيقته، إنما هو صورة تحاول أن تصاقب الدستور الالهي الذي تأسست عليه قصة الخلق، قال تعالى: " قال: فمن ربكما يا موسى ؟ قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ".. يعني حدد النهايات المبتغاة، ووضع خطة السير لتحقيقها من بدايات بسيطة، فالله خلق كل إنسان حي وحر ابتداء، ثم دفعه في خط التطور الطويل بين الحياة والموت، قال تعالى في ذلك: " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ".. فالحياة منه هو، والحرية منه هو، وليس لنا الحق في التأثير على حياة إنسان إلا بالقدر الذي يحقق هذه المقاصد الربانية.. قوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" يعني ليمكنكم أن تحسنوا التصرف في الحرية الفردية من خلال التجربة المحكومة بالدستور..
الدستور إذن، كالمرآة، يرى فيه كل مواطن تطلعاته وآماله في الحياة، له ولذريته من بعده ولبلده.. إن وضع الدستور وإجازته مسئولية العارفين والحكماء المنتخبين من عامة الشعب، أما القانونيون، فمهمتهم فنية لإحكام الصياغة وضبط المواد لسد الثغرات التي يمكن أن تستغل للالتفاف وانتهاك الدستور عند المحكات.. والجمعية التأسيسية إنما سميت بهذا الاسم لأنها إنما تجيز القانون الأساسي وهو الدستور، وهي تنتخب مرة واحدة في البلد المعين لتضع الدستور، ثم تتحول إلى برلمان أو جمعية تشريعية.. الأغلبية ليس لها أي سلطان على الدستور فيما يختص بمواد الحقوق الأساسية لأنها ،كما أسلفنا، هي روح الدستور ولذلك فهي غير قابلة للتعديل، فالأقلية حقوقها مقدسة في الدستور، فإذا فازت أغلبية معينة بالسلطة، فلا يحق لها بحكم الدستور، أن تنتقص من حقوق الأقلية، وإذا حدث ذلك تصحح المحكمة الدستورية العليا الأمر بالقانون.. ولنا مثال جيد في سابقة حل الحزب الشيوعي في الديمقراطية الثانية 64-1969م، فقد عدلت الجمعية التأسيسية المادة 5/2 من دستور56، بتخطيط من جبهة الميثاق والأحزاب الطائفية.. وهي المادة التي تعد بمثابة روح الدستور، لأنها تنص على الحقوق الأساسية، كحق التعبير، وحق التنظيم، وقد عدلت لتحرم الحزب الشيوعي من حقه الأساسي في التعبير.. ولما حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية ذلك التعديــل وبطلانه (مجلة الأحكام القضائية 1968م) أعلن رئيس الوزراء آنذاك، السيد الصادق المهدي: (إن الحكومة غير ملزمـة بأن تأخذ بالحـكم القضائـي الـخاص بالقضيــة الدستورية !!.. الرأى العام 13/7/1966م).. فتعرض القضاء السوداني بذلك، لصـورة مـن التحقيـر لم يتعـرض لـها في تاريخه قط!! ولما رفعت الهيئة القضائية مذكرة إلى مجلس السيادة تطلب فيها تصحيح الوضع بما يعيد للهيئة مكانتها (الرأى العام 27/12/1966م)، وصف مجلـس السيادة حكم المحكمة العليا بالخطأ القانوني !!(الأيام 20/4/1967م) مع إنه من أبجديات المعرفة بأساس أعمال القضاء أن حكم محكمة لا يمكن تخطأته إلا من محكمة أعلى منها، وليس من حق رئيس السلطة السيادية التدخل وتقييم أحكام القضاء من الناحية القانونية.. ونتيجة لهذه التدخلات في شئون الهيئة القضائية، استقال رئيس القضاء السيد بابكر عوض الله، وجاء في استقالته: (إنني لم أشهد في كل حياتي القضائية اتجاها نحو التحقير من شأن القضاء، والنيل من استقلاله كما أرى اليوم.. إنني أعلم بكل أسف تلـك الاتجاهات الخطـيرة عنـد قــادة الحكم اليـوم، لا للحـد مـن سلطـات القضـاء في الدستـور فحسب، بل لوضعـه تحت إشـراف الهيئة التنفيذية!!).. هذه صورة لفشل التجربة الديمقراطية النيابية في بلادنا، بسبب غياب ثقافة الحقوق الدستورية، مما حولها إلى دكتاتورية مدنية، فهدد الاستقرار السياسي، حتى جاء انقلاب مايو بمثابة إنقاذ للبلاد!!
القرآن والدستور:
الإسلام في مستواه العلمي أسس الفهم الوارد للدستور أعلاه، منذ القرن السابع الميلادي، والسند لذلك، إنما يلتمس في آصل أصول القرآن في إقرار مبدأ المسئولية الفردية أمام الله.. قال تعالى: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) وقال:(ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) وقال (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) وقال أيضا: (كل نفس بما كسبت رهينة).. ولما كان الإنسان رجلا أو إمرأة، مسلما أو غير مسلم، مسئول ومحاسب بصورة فردية بهذه الدقة، وهذا الشمول، فلا بد أن يكون الإنسان حرا، وإلا، فلا معنى للحساب.. ولذلك فقد أعطى القرآن في أصوله الحرية كاملة للإنسان، لكي يتصرف، بلا حدود، بشرط ألاّ يتعدى على حريات الآخرين، ويتحمل مسئولية تصرفه أمام القانون، ثم دعم الفرد بالمنهاج التربوي ليقوى عقله فتزيد باستمرار مقدرته على إحسان التصرف..
والآيات التي أسست مبدأ الحرية نزلت في مكة: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)..الخ.. ذلك هو المفهوم العلمي للدستور، وهذا هو السند من أصول القرآن..
هذه الأصول لم يستجب لها المجتمع الجاهلي، فتآمر المشركون علي حياة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فاجتمعوا في دار الندوة بمكة، ودبروا مكيدة لاغتياله، وكانت الخطة بأن يتجمع عدد من الشبان الأقوياء حول بيته في إحدى الليالي، فيضربوه ضربة رجل واحد، ليتفرق دمه بين القبائل، فلا يعرف من القاتل فيقبل بنو عبد مناف بالدية.. وشرعوا في تنفيذ الخطة يوم الهجرة، بالصورة المعروفة في التاريخ، فكان ذلك انتهاكا صارخا للدستور، وتعدي علي حقوق النبيِّ الكريم الأساسية، وعلى ذلك، ثبت عمليا، قصور المجتمع وعدم أهليته للحكم الدستوري.. ومن ثمّ نسخ الدستور ونسخت الآيات المؤسسة له واستبدلت بالآيات المدنية بعد الهجرة، وجعل النبي وصيا على الأمة بموجب آية الشورى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله) وفرضت الجزية على أهل الكتاب، وفرضت قوامة الرجل على المرأة بموجب الآية: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ).. وجعل المسلمون عامة أوصياء على المشركين بموجب آية السيف: (فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ).. وهكذا قامت الشريعة الإسلامية في المدينة علي الجهاد لإخضاع الخارجين علي الدستور والقانون من أهل الكتاب والمشركين بالسيف، كمرحلة إعداد للمجتمع ليتأهل للحكم الدستوري ـ الذي نسخ للضرورة ـ في المستقبل.. وبهذا الأسلوب العنيف انحصر الناس جميعا داخل حوش الإسلام بغض النظر عن مستوى قناعتهم، فدخل المنافقون خوفا من السيف، ويذلك أمكن انتزاع الحقوق الأساسية للضعفاء اجتماعيا، كحق الطفلة في الحياة الذي انتزع بإنهاء عادة وأد البنات على سبيل المثال..
على هذا الفهم الجديد ووفق التسلسل الواضح للأحداث أعلاه، يبدو جليا وبلا أدنى شك، أن الإسلام قد أسس مفهوم الدستور في أصوله وأرسى دعائم الحقوق الأساسية من قبل أن يعرف الناس شيئا عن هذه الحقوق، وما منع التطبيق إلا قصور الناس عن مستواها وفي كلمة: حكم الوقت.. ولكي نكون أكثر وضوحا، وتحديدا، فإن الشريعة الإسلامية التي طبقت في القرن السابع في المجتمع الجاهلي، تتعارض مع الدستور الإسلامي الذي نسخ، والذي يساوي بين الناس في الحقوق وفي المسئولية.. والدستور بهذا المستوى حين يطرح لا يسمى إسلاميا بالمعنى العقائدي للإسلام، وإنما هو دستور إنساني تلتقي عنده جميع المعتقدات وتتوافى عليه جميع الملل والنحل، لأنه دستور الفطرة السليمة، جاء في الحديث: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"..
ولما كانت فكرة تطوير الشريعة على النحو الذي أوضحناه حول الدستور، غائبة عن أذهان السلفيين عموما، فقد ظلوا يعيشون تناقضا مزريا بين البقاء في غرفتهم السلفية وبين الوفاء بحاجة العصر إلى تأسيس مبادئ حقوق الإنسان.. ولقد عطل هذا التناقض طاقاتهم وجنى على ملكاتهم، ولذلك تظهر مواقفهم باستمرار مخجلة، ومخيبة للآمال كلما برز على السطح حوار حول ضرورة مبادئ حقوق الإنسان.. أسوأ من ذلك فإن التقارير التي تعرض من وقت لآخر، حول الأوضاع في بلادنا في أغلب الأحيان غير مشرفة..
الشاهد في الأمر إن الإسلام عندما رفع رايات الحقوق الدستورية في مكة، كان يواجه بيئة خالية من أي دعوة للحكم الدستوري، واليوم كل المجتمعات تبحث عن وسائل تدعم بها ثقافة حقوق الإنسان، ولكننا نحن المسلمين، نقف عاجزين عن اكتشاف أعظم ما في ديننا فنظل في قوائم الدول التي تدعم الارهاب!!