إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
تلح على نفسي رغبة لحوحة لكتابة خاطرة عن أستاذنا محمود محمد طه، إلا أني أخاف ألا تسمو خواطري للوصول إلى مراقي قامته، ويتعريني قلق أن تمس وضاعة لفتي سموه، ويتابني خزى وخجل يلازمني، لتطاولي لمن سما بعلمه وذاته واستشهاده وروحه.
إلا أنني سأكتب، فأعذروني!
الأستاذ/ محمود محمد طه، لم يسعدني حظي بلقائه، رغم أني كنت أسكن الحارة التاسعة، طالع ونازل بشارع الثورة بالنص! أول ما شد إنتباهي إليه، وأنا بالدمازين متابعتي عبر التلفزيون لمحاكمته الجائرة، فشدني إليه جلاله ووقاره ... هدوؤه وثباته.. فرغم عدوانية القضاة وفظاظة وركاكة حججهم ولغتهم، فقد أسرني إليه، وشد انتباهي.. ويوم اعدامه جثا على قلبي حزن قاتم السواد، إلا أنني كنت أحس أن روحه تناثرت نجوما مضيئة في سماء ليلنا الحالك، ومن ضياء نجيماته تتبعت سيرته...
ولا أنسى الراحل رجل الأعمال خليل عثمان حين إلتقاه تلفزيون السودان بعد انتقاضة مارس - أبريل 1985م وخواطر عن رفقته له بزنازين سجن كوبر، ذكر أنه كان يفيض حنانا ومحبة حتى على أبسط خلق لله.. فحدثنا عن قصته حين داس بإصبعه على نملة مرت بينهما، فقتلها، فتضايق الأستاذ فترجاه بأدبه الجم والحزن طاغ على وجهه ألا يفعل ذلك مرة أخرى. حينها أنتابني شعور أنه يعيش في حالة سلام مع ربه ونفسه والخلق أجمعين وأن مشاعره تتناسق تناسقا يحتويه الحب مع كل ما في الوجود.
أيضا لا أنسي وقوفه أمام المحكمة، وإقراره بشجاعة تلهم الضعاف على الصمود في وجه جلادهم... رأيناه جبلا لا تهزه رياح الظلم والقهر والعنجهية، و كان استشهاده إيذانا بدفن نعش النظام المايوي، وغرس بذرة الشجاعة والثبات في وجدان شعبنا، ورسخت رفض النظام المايوي وإقتلعته.
أثار مقتله الضمير الإنساني في العالم أجمع، وحرضت أحزان استشهاده المفكرين والمثقفين والشعراء، فتداول الناس أشعارهم وكتاباتهم عنه سرا... فكانت مدخل لنا لنتعرف عليه وعلى مساهماته في كشف ما يخطط له أصحاب الردة الظلامية السوداء. فكم عصف الحزن بقلب البروفسير عبد الله الطيب وبقلوبنا حين رثاه بقصيدة قال في بعض أبياتها يصف لحظة تنفيذ حكم الاعدام:-
جعلـوه يرقى به الَّدرج الصاعد نحـو الهــلاك خـطــو وئــيد
كشفوا وجهــه ليُعرف أن هـذا هــو الشخــص عينــه محمود
قرىء الحكم ثم صاح به القاضى ألا مثــلـه اقتلـوه أبيــدوا
كـبـّر الحاضــرون للحـدّ مـثل العيــد إذ جمعـهــم له محشود
وأراهم من ثغره بسمة الساخر والحـبـل فوقـه مـمــدود
وعلى وجهــه صفــاء وإشراق أمـام الردى وديــع جـليد
وإذا بالقضـاء حـُمَّ وهــذا جسمـه طـاح فى الهواء يميد
ثم جــاء الطـبيب يعلن بعد الجـس أن مات، ما لحىٍّ خلــود
ثم طارت طـيـارة تحمــل الجثة لم يـُدرَ أىَّ فـجٍ تريــد
قـيـل لــن يقبــروه إذ فارق الملّة هـولٌ يشيب منه الوليـد
يــا لــهــا وصمة على جبهة القطر ســتـبــقى وعارها لا يبيـد
أما د. منصور خالد فقد ارتبط اغتيال الأستاذ عنده بعهد ترسخ فيه التشهير بالنساء وعهرت مبادئنا السامية وزئبقية الاسلاميين:-
(كان اغتيال محمود محمد طه، الحدث الذي طعن السودان في خاصرته، وطعن أهل السودان في واحدة من أمجد خصائصهم (التسامح). وكان ذلك الحدث قمة لأحداث متتاليات من التحقير للرجال والتشهير بالنساء، والتعهير للمبادئ السامية، وهل أسمى عند المؤمنين من مبادئ دينهم؟ في ذلك التحقير والتشهير والتعهير لم يكن النميري وحده، كان معه "الأخوان المسلمون" الذين سعوا لأن يجدوا للجنون نسباً مع الدين وهم يتوسلون بفقه التبرير الزائف. وكان معه الزئبقيون من العلماني اسلاميين الذي دخلوا في "ديانة" النميري أفواجاً، كاذباً وراء كاذب . وكان معه أيضاً رجال هم عدته وعديده في تنفيذ أحكامه الجائرة المشتطة ومن هؤلاء من حُمل جثمان محمود الطاهر بأمرهم وتحت أعينهم ليدفن في مكان قصي)