إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود محمد طه ... الرجل الذي أستعصى على الإرهاب الديني !!
بثينة تروس
تحل علينا الذكري السنوية ال 32 لاستشهاد الاستاذ محمود محمد طه في يوم 18 يناير 1985، وذكري ذلك الامر الجلل، الذي جمع كل قوي الارهاب الديني في صعيد واحد لإدانة منشور سياسي بتآمر بينهم علي الجمهوريون ( لقد أتاحوا لنا فرصة تاريخية للتخلص منهم) !!
ولقد ورد في ذلك المنشور موقف ثابت للاستاذ محمود من الارهاب الديني (( اما الهوس الديني ، والتفكير الديني المتخلف ، فهما لا يورثان هذا الشعب إلا الفتنة الدينية ، والحرب الأهلية ) ، كما حوي المنشور وضوح في المواجهة التي لم تترك لهم غير خيارين ( هذا او الطوفان) ! وبالفعل كان الطوفان، الذي لم يمهلهم في الحكم سوي 76 يوماً! اذ كان كل يوم يقابل عاماً من عمر الرجل.
وظلت كلمته الخالدة امام المحكمة المهزلة، والتي جسدت معاني بطولة الثبات عند المواقف ، وكتب آخر كتبه عملياً للشعب السوداني وشبابه ( تعلموا كيف تعتصمون ) .
فلقد اعتصم مقاطعاً للقوانين الجائرة ومحاكمها ((ومن أجل ذلك ، فإني غير مستعد للتعاون ، مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر ، والتنكيل بالمعارضين السياسيين))
لقد خاض الاستاذ محمود معركته ضد الارهاب الديني والسياسي، منذ ان دخل سجون المستعمر، كأول سجين في الحركة الوطنية 1946 ، حين رفض المساومة بين ان يمضي تعهد بعدم المقاومة ضد المستعمر وبين حريته، فاختار السجن، واستمر به الحال بين سجون الأنظمة لاتتكسر له عزيمة..
وطوال عهد الحكومات التي تعاقبت علي السودان، لم يختار الاستاذ محمود كراسي الحكم والبرلمان ، لكنه اختار الشعب السوداني، سكن بيت جالوص في حي شعبي ، وهو المهندس منذ الأربعينات !! واكل كسرة الناس اليابسة، وزهدت نفسه عن اكل اللحم الذي يشتهيه الفقراء ولايجدون اليه سبيلا.
واختار السهر علي راية الوعي بخطورة الهوس الديني وارهاب دعاته، وفطن الي ان هذا الشعب، سوف تقوده محبته الفطرية للدين الي ان يستغل عاطفياً، فكان فارس المواجهة للجهل الديني ، فالتصق بإنسان السودان العادي ، ورفع من شان نسائه في المساواة مع الرجال للدعوة الي الدين ، وكان بروز المراة الداعية في نموذج الأخوات الجمهوريات وكتب الكتب، وأرسل تلاميذه وتلميذاته، في حملة كتاب في الاسواق، والميادين العامة، وجميع دور الحكومة ويحدثون الناس عن محتواها، واقام المحاضرات، وطاف بالوفود جميع أنحاء السودان بتلاميذه وتلاميذاته ، شمال ، وجنوب ، شرق وغرب ،القري والمدن، يقيمون اركان النقاش، والمنابر الحرة، في سبيل إشاعة الوعي والاستنارة ، لكافة السودانيين دون تمييز بينهم ، وصبروا في جميع تلك الاعمال علي جهالات الاخوان المسلمين والمهووسين، وغيرهم من المضللين!!
وتاتي الذكري لهذا العام والسودان يمر بمرحلة تحولات تاريخية كبيرة في ساحة السياسة السودانية!
فامريكا ! من تحت (مركوب) !! السيد الرئيس! (ما بننكسر الا لله وما بنطلب الا من الله سبحانه وتعالي ، يعني الرزق وين يا جماعة؟ في السماء، ماعند أمريكا ،ولا عند فرنسا، ولا عند بريطانيا، ولاعند أوربا .. وكلهم يا جماعة كلهم تحت مركوبي دا) وبالطبع ذلك قبل ان يتبعثر المشروع الاسلامي اشلاء ..
الي محطة الفرح بالعلاقة مع الأمريكان الآن، بعد اعلان رفع الحصار الاقتصادي ، والتباهي بالرضوخ للسياسات الامريكية وهي تقلبهم كيف شاءت!! بعد مقاطعة عشرين سنة، وحتي موعود بمولد مبتسر بعد ستة أشهر!! (سعيدين وما بندس وما خجلانين من ذلك) انتهي قولهم.
في البداية أحب ان أؤكد ان الشعب السوداني حقيق بان يفرح، ولو بأمل مستقبلي في الانفراج الاقتصادي، وليس هنالك ما يعيب في الأمل! بحق مستحق في الأماني، بكهرباء ومياه مستدامة، ومشروع ( الجزيرة ) الزراعي ينتج ويسدد ديون مواطنيه، وينعش اقتصاد المنطقة، وأمل في طرق معبدة وآمنه، ولقمة عيش نظيفة ، وسدود حقيقة، وديون تسدد لكي تحفظ ما تبقي من صورة وطن!!
وشباب ينفض عنه غبار التبطل والعطالة ، ونازحين غلابة ، يحلموا بقرب عودة طوعية لعشائرهم، ومهاجرين المنافي وعودة لكي يسندوا ظهر البلد ، وكل ما هو مشروع في حلم بناء وطن!!
لكن الحكمة تقول انه ليس بزاهيات الأماني تبني البلدان، وان التجربة التي لاتورث حكمة تكرر نفسها!! وأكثر من ربع قرن من حكم الإسلاميين ، فترة حكم كافية لفضح زيف حكومة الاخوان المسلمين، وفسادهم وفشلهم الاقتصادي، و ( انهم يفوقون سؤ الظن العريض) ولابد انها تجربة تجعل السودانيين محصنين بداهةً !! من ان تضللهم حكومة الاخوان المسلمين بشعارات جوفاء!!
لذلك فليفرح الشعب السوداني بالأمل الاقتصادي، وليظل مرابطاً عند محطة، انه لا عدو خارج أراضيه! ولايوجد عدو حالي غير حكومته!! وليظل يقظاً كالسمك ينام وعيناه مفتوحتان!
لانه مازالت الحكومة وبجميع أحزابها في خانة الفساد!! ومازالت البنوك، والوزارات ، ومواقع صنع القرار الاقتصادي في أيدي المفسدين! وقد أكدت حكومة الاخوان المسلمين ان سياساتها لاصلاح هذا الفساد هو ( التحلل وفقه السترة)!!!
و لقد كان الاستاذ محمود كدأبه في الحرص علي هذا الشعب، اول من أطلق صافرة الانذار، لخطورة السياسات الاقتصادية للأخوان المسلمين ، وأسلمة البنوك والمصارف ، وقدم تحليلاً باكرا لخطورة تلك البنوك المسماة إسلامية! وتعرض للتجربة من اصولها، في المملكة العربية السعودية، ومروراً بتجربة بنك فيصل الاسلامي السوداني، والذي تهلل له الاخوان المسلمين ، كالنصر في معركة بدر الكبري!! فكتب الاخوان الجمهوريون حينها للشعب السوداني، كتاباً بعنوان ( بنك فيصل الاسلامي) 1938 ورد في الاهداء
(الى الشعب السوداني، خاصته وعامته، مثقفيه وأمييه!!
انت معرض بما سمىّ (بنك فيصل الإسلامي) لأخطر صور
التضليل الديني على الإطلاق!!
التضليل الذي يسوّغ أكل المال الحرام!!
وليس وراء الحرام الاّ فساد العقول والقلوب والأبدان!!
وهذا لعمر الحق أسوأ من كل سوء!! )...
وبالطبع كأصالة الاستاذ محمود محمد طه في المواقف، لم يثنيه أرهاب ( وهابية) الحكم الملكي في السعودية، وعداوة الاخوان المسلمين ، من تعرية باطل تلك البنوك.
وبالفعل اثبتت الأيام صحة تلك المواجهة، وتناولت الصحف فضائح بنك فيصل الاسلامي ، من التمكين وعمليات الفساد والتعيين بالمحسوبية، والاتجار بالعملة ، والكثير الذي أضر باقتصاد هذا البلد، والمثير الذي تناولته الصحف من فضائحه ، بما يغنينا عن رصده الآن.
وعلي الدوام كان وعي السودانين محط اهتمام الاستاذ محمود ( غايتان شريفتان وقفنا ، نحن الجمهوريين ، حياتنا ، حرصا عليهما ، وصونا لهما ، وهما الإسلام والسودان .)...
ففي عام 1979 كان كتاب ( ساووا السودانيين في الفقر حتي يتساووا في الغني)
ورد في متنه ماهو حوجة الشعب السوداني اليوم، لحل ازمة الحكم السياسي المتهالك، وازمة الاقتصاد المنهار :
((إن الأزمة الحاضرة ليست ناشئة، فى حقيقتها، من ضيق مواردنا القومية، ولا هى ناشئة كذلك، من ضيق فى حصيلتنا من المواد التموينية، بقدر ما هى ناشئة من قصور فى أخلاق الأفراد، وضمور فى حسهم الوطنى.. إن أزمتنا هى فى كلمتين: أزمة أخلاق.. وإننا لعلى يقين بأنه لن يستقيم لنا أمر من أمورنا السياسية، ولا الإقتصادية، ما لم نجد العلاج الشافي لهذه الأزمة الأخلاقية.. ولا يظننّ أحد أن أزمة الأخلاق هى أزمة الشعب السودانى وحده، كلاّ!! وإنما هى أزمة عالمية يتداعى من جرائها الموقف العالمي نحو هاوية سحيقة، لا منجاة للإنسانية منها الاّ بثورة فى الفكر، وثورة فى الأخلاق، تضع للناس موازين القيم الصحائح فى مواضعها، وتخط لهم طريق الخلاص..)) انتهي
ظل الاستاذ محمود عصياً علي التركيع والإرهاب فلم تثنيه قوي الهوس الديني، من متابعة كل الأحداث العالمية، وأثرها علي الشعب السوداني في الحاضر والمستقبل، متابعة دقيقة بالرصد والتحليل والنقد والكتابة عنها ومراسلة الزعماء والحكام، ومناقشة الكتاب، وظل في جميع ذلك ملتصقاً بالشعب السوداني ( دينا الناس) ، فكان الرائد الذي لم يكذب اهله.
وكان ذلك المعلم القيادي الذي لاتحجبه المؤسسية الحزبية من تحمل مسئوليته المباشرة، فلقد كان القائد الذي يتحمل مسئولية كل ما يكتب، ويحاضر فيه ، وكان يدخل السجون قبل تلاميذه، ويتقدم قاعات المحاكمات مدافعاً عن فكره وتلاميذه ومقيماً للحجج، وكان تجسيداً للرجل الحر والذي قال في توصيفه ( الرجال عندنا ثلاثة: الرجل الذي لا يقول ، ولا يعمل ، لأنه يخاف من مسئولية قوله ، وعمله ، وهذا هو العبد .. والرجل الذي يحب أن يقول ، وأن يعمل ، ولكنه يحاول أن يهرب تحت الظلام ، فلايواجه مسئولية قوله ، ولا عمله .. وهذا هو الفوضوي .. والرجل الذي يحب أن يفكر ، وأن يقول ، وأن يعمل ، وهو مستعد دائماً لتحمل مسئولية قوله ، وعمله .. وهذا هو الرجل الحر .))
وهكذا تقدم الرجل الحر لحبل المشنقة وهو مبتسم ، وكان
الصقر يعلو وحده متسنما أعلى القم
متفردا عن سربه ويلوذ بالسرب الرخم
(كما وردت الإشارة في ديوان بروفسير عصام البوشي)