إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
يوم رجولة الرجال وعزة الأحرار وصمود أصحاب الأفكار (١-٢)
د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
في ذكرى الأستاذ محمود رقم (٣١)
تمر اليوم، الذكرى 31 لوقفة الأستاذ محمود التاريخية ضد الهوس الديني، وبهذه المناسبة التاريخية سنحاول إلقاء بعض الضوء على كلمته في مواجهة المحكمة (المهزلة)، لكي نتلمس أبعادها الروحية.. وقد بدأت مواجهة الأستاذ محمود سلطة مايو بالفكر واستمرت حتى النهاية بالفكر وحده، في إطار التوعية العامة التي كان الجمهوريون، ولا يزالون، يقومون بها لتصحيح مسار البلاد حتى لا تغرق في الفساد والظلم بوحي من الهوس الديني.. وقد خرجت العديد من الكتب في هذا الاتجاه، مثل: بنك فيصل الإسلامي، التكامل، الهوس الديني يثير الفتنة ليصل إلى السلطة..الخ.. فردت السلطة على هذا النقد الفكري بأن اعتقلت كل من يدير ركن نقاش من الأخوان الجمهوريين في الجامعات أو الشارع العام، حتى بلغ عددهم 62 وكان اعتقال الأستاذ محمود بتاريخ 9 يونيو 1983م وامتد الاعتقال السياسي حتى عصر 19/12/1984م وأفرج عنهم جميعا في ذلك اليوم.. وكان الأستاذ محمود معتقلا على انفراد بمنزل حكومي، وقد حاول أمن مايو إطلاق سراحه لوحده وترك الجمهوريين في معتقل كوبر، ولكنه رفض الخروج وقال فيه: أنا الذي أدخلتهم السجن فمستحيل أخرج وأتركهم ورائي معتقلين!! فاضطُّر قادة الأمن إلى تعديل القرار ليشمل كل الجمهوريين، واستأجروا بصا على حسابهم لترحيل الجمهوريين إلى مكان اعتقال الأستاذ أولا، ليضمنوا خروجه بلا مواجهة جديدة!!
وفي أثناء فترة الاعتقال هذه، ولغت السلطة حتى أخمص قدميها في الهوس الديني، فأصدرت قوانين سبتمبر 83، مدعية بأنها إنما تطبق شرع الله، ولكن الهدف الحقيقي وراء ذلك الإجراء كان هو استغلال العاطفة الدينية من أجل التأييد الشعبي، ومن ثم تأمين السلطة ضد حملة الاحتواء التي كانت تسير على أشدُّها من جماعة د. حسن الترابي تحت لافتة تطبيق شرع الله.. فكأن سلطة مايو، ظنت أنها بسنها لقوانين سبتمبر، قد أفسدت حجة غياب شرع الله هذه، وبالتالي فوتت على الأخوان المسلمين فرصة تفكيكها من الداخل!! فالصراع في حقيقته كان صراعا سياسيا حول السلطة، يستغل فيه الدين أبشع استغلال، ولا علاقة له بالتدين الصادق في أي مستوى من مستوياته..
وما إن وصل الأستاذ محمود إلى منزله حتى صرح لتلاميذه: (نحن ما خرجنا لنرتاح)، ثم واصل في اجتماع أمسية نفس اليوم:
((نحن أخرجنا من المعتقلات لمؤامرة.. نحن خرجنا في وقت يتعرض فيه الشعب للإذلال وللجوع، الجوع بصورة محزنة..
ونحن عبر تاريخنا عرفنا بأننا لا نصمت عن قولة الحق، وكل من يحتاج أن يقال ليهو في نفسه شيء قلناه ليهو!!
ومايو تعرف الأمر دا عننا!!
ولذلك أخرجتنا من المعتقلات لنتكلم، لتسوقنا مرة أخرى ليس لمعتقلات أمن الدولة، وإنما لمحاكم ناس (المكاشفي)!!
لكن نحن ما بنصمت!!
نميري شعر بالسلطة تتزلزل تحت أقدامه فأنشأ هذه المحاكم ليرهب بها الناس ليستمر في الحكم..
وإذا لم تكسر هيبة هذه المحاكم لن يسقط نميري!!
وإذا كسرت هيبتها، سقطت هيبته هو، وعورض وأسقط!!
نحن سنواجه هذه المحاكم ونكسر هيبتها!!
فإذا المواطنين البسيطين، زي الواثق صباح الخير، لاقوا من المحاكم دي ما لاقوا فأصحاب القضية أولى !!)) انتهى..
وعلى الفور، كونت لجنة مركزية من عشرة من قيادات الجمهوريين برئاسة الأستاذ سعيد الطيب شايب، لتتولى إدارة المواجهة فأصدرت اللجنة منشور (هذا! أو الطوفان!) في 25/12/1984م.. وما إن بدأ توزيع المنشور في الشارع العام، حتى عادت حملة الاعتقالات من جديد، فاعتقل كل من يحمل المنشور، ثم اعتقل فيما بعد من يحمل الكتب كذلك.. فتحت بلاغات في أول أربعة أخوان تم اعتقالهم وهم: عبد اللطيف عمر حسب الله، محمد سالم بعشر، تاج الدين عبد الرازق الحسين وخالد بابكر حمزة، ونشرت الصحف خبر تقديمهم للمحاكمة، وحدد تاريخ المحاكمة.. وقد قاد الأستاذ محمود مسيرة كبرى قوامها جميع الجمهوريين، بالزي القومي، الجلابية والعمة للرجال والثوب الأبيض للنساء، إلى المحكمة رقم 4 جوار الإذاعة، وانتظرت المسيرة في فناء الموقع بدء المحاكمة لكن أعلن تأجيلها.. وقد كان واضحا أن الهدف من التأجيل هو إضافة الأستاذ محمود، وهكذا ختمت السلطة حملتها باعتقاله يوم 5/1/1985م، وصارت الصحف تكتب بعنوان محاكمة الأستاذ محمود وآخرين..
وفي يومية التحري، قال الأستاذ محمود للمتحري إنه المسئول الأول عن كل ما يدور حول حركة الجمهوريين في داخل السودان وخارجه وفي رد على نقد المنشور لقوانين سبتمبر، وهل هو رفض للشريعة أم لا، قال:
(إذا في إنسان قال قوانين سبتمبر مخالفة للشريعة، لا يتهم بأنه ضد الشريعة وإنما يفهم أنه ضد قوانين معينة، بل هو يدافع عن الشريعة!! ويمكن أن يسأل عن برهانه على مخالفة تلك القوانين للشريعة!!
ولكننا نقول: إن الشريعة الإسلامية، على تمامها وكمالها، حين طبقها المعصوم في القرن السابع، لا تملك حلا لمشاكل المجتمع المعاصر، فالحل في السنة وليس في الشريعة!!) انتهى..
وبهذا التحري، فتح البلاغ ورفعت القضية إلى المحكمة، وكان المستند الوحيد هو المنشور مضافا إليه رد الأستاذ على المتحري..
رفض الأستاذ محمود التعاون مع المحكمة لأسباب أجملها في كلمته أمام المحكمة :
(أنا أعلنت رأيي مرارا في قوانين سبتمبر 83، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام.. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام ونفرت عنه..
يضاف إلى ذلك، أنها وضعت، واستغلت، لإرهاب الشعب وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله.. ثم إنها هددت وحدة البلاد.. هذا من حيث التنظير..
وأما من حيث التطبيق، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية تستعملهم لإضاعة الحقوق، وتشويه الإسلام، وإذلال الشعب، وإهانة الفكر والمفكرين وإذلال المعارضين السياسيين..
ومن أجل ذلك فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب، وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين) .. انتهى..
وحول مخالفة الشريعة وتشويهها، وتشويه الإسلام وتنفير الناس عنه ثم تهديد وحدة البلاد، جاء في المنشور ما يلي:
(فهذه القوانين مخالفة للشريعة، ومخالفة للدين، ومن ذلك أنها أباحت قطع يد السارق من المال العام، مع إنه في الشريعة، يعزر ولا يحد لقيام شبهة مشاركته في هذا المال.. بل إن هذه القوانين الجائرة أضافت إلى الحد عقوبة السجن، وعقوبة الغرامة، مما يخالف حكمة هذه الشريعة ونصوصها.. هذه القوانين قد أذلت هذا الشعب، وأهانته، فلم يجد على يديها سوى السيف، والسوط، وهو شعب حقيق بكل صور الإكرام، والإعزاز.. ثم إن تشاريع الحدود والقصاص لا تقوم إلا على أرضية من التربية الفردية ومن العدالة الاجتماعية، وهي أرضية غير محققة اليوم )..انتهى..