إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١٠)
خالد الحاج عبد المحمود
يناير ٢٠١٥
نهاية الحرب:
لقد خدمت الحرب الحضارة البشرية، خدمة جليلة، ما كان يمكن أن تتم من دونها.. أما اليوم فقد استنفدت الحرب حكمة دخولها في حياة البشر، وفارق فيها الرضا الإرادة، وأصبحت عاجزة عن أن تقدم أي شيء ايجابي للبشر.. وقصارى ما يمكن أن تؤديه، هو أن تقود المتحاربين إلى طاولة المفاوضات.. وهذا أمر يمكن أن يصلوا إليه دون الحرب.. ولكن حتى الآن، لم يتم فهم هذه الحقيقة، رغم وضوحها، ورغم أنها ظهرت منذ وقت طويل.. فهي قد ظهرت منذ الحرب العالمية الثانية!! يقول الأستاذ محمود: "هنالك اعتبارات جدت في تجارب البشرية جعلت الحرب غير ذات موضوع، ذلك بأنه قد ظهر جليا أنها لا تحل مشكلة، في عالم اليوم وإنما تعقد المشاكل. ودلت تجربة بريطانيا أن من يكسب الحرب قد يخسر السلام فكأنه حارب لغير هدف".. وقد عبر عن هذا الوضع، عالم الإستراتيجية، الميجر فللر FULLER ، عندما اختار لحديثه عن الحرب العالمية الثانية، عنوان (الهزيمة عبر النصر).. وقد كان ونستون شرشل يرى أن هذا التحول قد بدأ منذ الحرب العالمية الأولى، فهو قد قال: "إن هذا الانتصار الغالي، والعزيز، الذي تحقق، لا يكاد يتميز عن الهزيمة"!! .. ومنذ ذلك التاريخ والى اليوم، لا تزال الحروب دائرة، ولا يزال فشلها في حل المشكلات مستمرا!! ومن أبرز المعالم: حرب فيتنام، وحروب الشرق الأوسط، وحروب السودان الداخلية..الخ.. وقد كان يعتقد أن أمريكا، قد استفادت من تجربة، فيتنام، إلا أنها عادت وكررت التجربة في العراق، ولم تختلف النتيجة كثيرا.. والقاعدة: كل تجربة، لا تورث حكمة، تعيد نفسها، بصورة من الصور، يقول تعالى: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة، أو مرتين، ثم لا يتوبون، ولا هم يذكرون!؟)
ولقد أدرك، هذا التحول الخطير، المؤرخ الكبير آرنولد توينبي، فأعلن نهاية، عهد (المنقذ بالسيف).. فاليوم، لا إنقاذ إلا بالسلام.. ولكن عمليا، الحرب لن تبارح موقعها بصورة تامة، إلا بعد مجيء بديلها.. الحرب أصبحت الباطل الزاهق، والسلام هو صاحب الوقت الجديد، فهو الحق الذي باكتماله، يكتمل، باطل الحرب، فتزهق (جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا).. هذا أمر يفرضه الواقع، ولن يكون عدم الاستجابة له بلا ثمن!! أعتقد أنه أصبح مفهوما، أننا عندما نتحدث، عن الواقع، أنما نتحدث عن الإرادة الإلهية، فالواقع من حيث هو لا يفرض شيئا، ولكن الإرادة الإلهية، من وراءه هي التي تفرض.. ونحب أن نذكر هنا، بموضوع الفاعل المباشر والفاعل الحقيقي!! والله تعالى يسير الحياة إليه، من خلال قانون المعاوضة في الحقيقة، وقانون المعاوضة في الشريعة.. فمن لا يستجيب لقانون المعاوضة في الشريعة، والذي يقوم على مخاطبة الفكر، يحتاج إلى حديث النفس بدلا عن حديث العقل، وحديث النفس يقوم على الألم.. فاللجوء للعنف والحرب في الوقت الحاضر، لا يؤدي إلا للمعاناة، والألم، ثم هو دون طائل، وسيكون الأمر كذلك، إلى أن يتم الفهم، واللجوء للعقل، وللغة الحوار والسلام.. فمن لم يسر إلى الله بلطائف الإحسان (العقل) قيد إليه بسلاسل الامتحان.. فويلات الحرب غير المجدية، هي سلاسل الامتحان، التي تقود إلى لطائف الإحسان.. فمن الخير للبشرية، جمعاء، ولكل فئة من فئات المجتمع البشري، اللجوء مباشرة إلى أساليب الفكر، والحوار الفكري، وأساليب السلام، لحل المشكلات، وإلا فإنهم سيعانون، أشد صنوف المعاناة، دون طائل، ثم لابد لهم من السلام، وقيم السلام.. فكما يقول تعالى، في الحديث القدسي، لسيدنا داؤود: "فإن لم تسلم لما أريد، أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد"!!
لغة الأحداث والاستجابات القاصرة:
إن الأحداث التي تجري في الواقع هي خطاب.. خطاب مباشر للعقل، وخطاب للعقل عن طريق النفس، عندما لا يفهم العقل مباشرة.. إن الواقع يفرض على الفكر البشري، وعلى الحياة البشرية تحديا يجعل من المستحيل أن يكون هنالك استقرار، ما لم تكن الاستجابة في مستوى التحدي.. فالاستجابات القاصرة، لا يمكن إلا أن تفشل، وهي لا تضيف للبشر إلا مزيدا من المعاناة، فمن الخير للبشرية أن تفشل سريعا.. ولقد تحدث الأستاذ محمود عن حتمية فشل بعض التجارب القاصرة، مثل الماركسية والقومية العربية والإسلام السلفي، وفي النهاية الحضارة الغربية بشكل عام.. ونحن هنا نورد بعض المقتطفات، في هذا الصدد.. فقد كانت حركة الجمهوريين، تعتبر الشيوعية الدولية هي الخطر الماثل، على السلام العالمي، ولذلك ركزت على كشف هذا الخطر تركيزا شديدا، كما ركزت على محاربة دعوة القومية العربية، كدعوة متخلفة، ولما تقوم به من دور في خدمة الشيوعية الدولية، خصوصا على يدي السيد جمال عبد الناصر في مصر.. وقد تحدث الأستاذ محمود، عن ذهاب عبد الناصر في كتابه مشكلة الشرق الأوسط 1967م، وضمن ما جاء من أقواله: "إن أعمال جمال عبد الناصر الآن، وكتابات محمد حسنين هيكل جميعها، تستهدف تبرير زعامة جمال بإيجاد كباش الفداء الذين يحملون وزر الهزيمة، ثم يمضي جمال زعيما كما كان.. فإن جاز هذا التضليل فإن العرب مقبلون على نكبة رابعة، ما من ذلك بد.. ولكن هذا التضليل لن يتم، ولن يجوز، لأن جمال عبد الناصر قد أنى له أن يذهب.. وهو ذاهب، ما في ذلك ريب، مهما شق هذا الأمر على الشيوعية الدولية، ومهما حاولت هذه الشيوعية أن تضلل الشعوب العربية عن حقيقة قصور زعامة جمال عبد الناصر.. جمال ذاهب لأن حكم الوقت الحاضر يتطلب ذلك.." .. "وجمال عبد الناصر، وهو داعي، ومفلسف للقومية العربية، يقف اليوم كأكبر عقبة في سبيل عودة الإسلام إلى الأمة العربية - ذلك بأن باطل القومية العربية يشبه الحق و لا يسهل كشفه، ولا الاحتراز منه، وجمال بنى مجده، وبطولته، وشعبيته على باطل القومية العربية، ومن أجل ذلك أصبح ذهابه ضرورة تمليها مصلحة العرب خاصة، في المكان الأول، ومصلحة البشرية عامة، في المكان الثاني.. فليذهب، وليبارك الله له وللعرب في ذهابه، وفي عواقب ذهابه.. فقد كان حسن النية، ولكن حسن النية وحده لا يكفي لإسعاد الشعوب، فلا بد من سعة الثقافة، ودقة الفكر، وقوة الخلق."
أما عن تصدع الاتحاد السوفيتي، وانهياره، فقد جاء من كتاب (السادات) الصادر في يناير 1982م ما نصه: "ويعمل السوفيت على التوسع والهيمنة، بدوافع خطيرة!! فهم لن يستطيعوا أن يصمدوا طويلا أمام الحرب الباردة، التي دخلوا فيها مع الغرب، والتي لم تخف وطأتها إلا لفترة الوفاق القصيرة.. وحال السوفيت في العجز عن الصمود إنما هو دائما حال الدكتاتوريات في مواجهة الديمقراطيات، حيث تفتقر الأوليات إلي تماسك جبهتها الداخلية..".."ورد الفعل الطبيعي لتصدع السوفيت الداخلي هو اندفاعهم وبسرعة جنونية للسيطرة على مناطق النفوذ الإستراتيجية في العالم، وذلك مع غياب المسئولية الأخلاقية، عندهم، نحو السلام العالمي.. وذلك مما قد يعجل بالمواجهة المباشرة بينهم وبين الغرب.. غير أنهم مقضي عليهم بالانهيار، سالموا أو حاربوا"!!
أما الفكر الإسلامي السلفي، والغرب الرأسمالي، والحضارة الغربية عموما، فسينصب جل نقدنا عليهما، ولذلك نرجئ الحديث عنهما، إلى حينه..