إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٨)
خالد الحاج عبد المحمود
يناير ٢٠١٥
نماذج من قراءة الواقع:
لقد ذكرنا أن الوجود، يحكمه قانون واحد، هو الإرادة الإلهية المتفردة .. وقلنا إن الوجود كله سائر إلي الله، أو مسير إليه، وفق هذا القانون الواحد .. وهو وجود طبيعته واحدة، ليس فيه اختلاف نوع، وإنما كل اختلاف فيه هو اختلاف درجة .. والحركة في الوجود حركة، تطورية، من الجهل إلى العلم، ومن الباطل إلى الحق، ومن التعدد إلى الوحدة، ومن الكثافة إلى اللطافة.. فكل الذي يفنى في الوجود، هو الوجه الغليظ من الأشياء .. وغاية الوجود، هي تحقيق الإنسان – الخليفة - وهي غاية تتحقق، في مراحل، أو دورات لولبية.. وكل ذلك ذكرناه، وهو مما يعين، إعانة فعالة، على قراءة الواقع ، ومعرفة حكم الوقت .
والمنهج الأساسي، في معرفة حكم الوقت، وفي المعرفة عموماً هو "الكشف" ويجب إلا يكون هنالك غموضاً، في استخدام المصطلحات.. فالكشف ببساطة هو ظهور الحقائق، من العقل الباطن إلى العقل الواعي.. والعقل الباطن، في الدين، هو القلب .. وكل المعرفة، سواء دينية أو غير دينية، هي تقوم على هذا الكشف .. وكل ما هنالك، أن للدين منهاج علمي و عملي لا يتوفر في المجالات الأخرى.. ومنهاج الدين في المعرفة، يقوم علي قوله تعالى: (واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شئ عليم) .. وأهم ما يقوم عليه هذا المنهاج، هو انه لا يفصل الأشياء، عن بعضها البعض – كما تفعل الحضارة الغربية – وإنما هو يعمل على توحيدها.. واهم ما يعمل على توحيده هو الزمن نفسه.. فهو يوحد الزمن كله، في اللحظة الحاضرة، فهي وحدها الزمن الحقيقي، وكل ما عداها هو زمن باعتبار الحكمة .. وخلاصة هذا التوحيد، هي أن الكون كله موجود في كل جزء منه .. والزمن كله موجود في اللحظة الحاضرة .. ولذلك، المستقبل موجود في الحاضر، في صورة جنينية، يستطيع العقل أن يراها، وهذه من أهم جوانب معرفة الواقع.
إن الواقع الذي يعنينا هنا، كما سبق أن ذكرنا، هو الواقع الحضاري، والمستويات الأخرى، بما فيها الواقع الفردي، تتبع، ولذلك سنجعل حديثنا قاصراً عليه
نماذج من قراءة الواقع الحضاري:
نقد الواقع يقتضي التمييز بين ما هو في طور الفناء منه، ولم يعد مما ينفع الناس، وما هو في طور التشكل، وينتظر أن تكون له السيادة، بل وينبغي أن تكون له السيادة، لأنه الحق حسب حكم الوقت الجديد، ولأنه مما ينفع الناس .. بل في بعض الحالات لا يمكن لحياة الناس أن تستقيم من غيره.. وهذا الأخير – الذي لا يمكن لحياة الناس أن تستقيم من غيره – هو الأهم .. ونحن هنا سنورد بعض النماذج لقراءة الأستاذ محمود، للواقع، وهي قراءة تقوم على التوحيد، والمعرفة بحكم الوقت، ثم هي منطقية وواضحة، للعقول المختلفة..
إن أهم مرتكزات، قراءة الأستاذ محمود للواقع الحضاري، يمكن أن تلخص في النقاط التالية:
1/ إن حكم الوقت يقضي على البشرية، على مستوي الكوكب الأرضي أن تتوحد.. وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ، وهو يشكل التحدي الأساسي، لأي فكر أو دين يطرح نفسه، كما هو يشكل التحدي الأساسي للحضارة القائمة .
2/ وحدة البشرية، تقتضي، أن يلتقي الناس على ما يجمع بينهم وهو العقل والقلب، أو الفكر والخلق، وان يتجاوزوا تماماً ما يفرق بينهم، وأهم ما يفرق، اعتبارات: العنصر والجنس، والعقيدة، واللون، والتفاوت في الحقوق والواجبات، خصوصاً في السياسة والاقتصاد .
3/ إن جوهر ما تقتضيه الوحدة البشرية هو السلام.. السلام الفردي، والسلام في المجتمع.. والسلام، يقتضي كل ما ذكر في النقطة الثانية، وأكثر!! وهو يقتضي بصوره خاصة زوال جميع أسباب الحرب، والعنف، والعدوان، في النفس البشرية، وفي المجتمع البشري.
4/ الحضارة الغربية، أدت دورها التاريخي.. أدته حتى استنفدته.. ودورها التاريخي، الذي قامت عليه حكمة دخولها الوجود، هو إخصاب الحياة المادية، الحياة الدنيا، وتوفير الوسائل العلمية والتكنولوجية الضرورية، لهذا الأمر.. ثم رفع وعي الأفراد بالصورة التي تجعلهم يتطلعون إلى إشباع حاجاتهم الفكرية والروحية، وتحقيق إنسانيتهم.. وقد فعلت الحضارة الغربية كل ذلك، ولم يعد عندها ما تقدمه، خارج الإطار المادي، والإطار المادي لم يعد وحده كافياً، فلابد من حضارة جديدة، تستجيب لتحديات الواقع الجديد.. ونذكر بالقاعدة الأساسية في التغيير، وهي: كل الذي يفني هو الصور الغليظة للأشياء، وما يبقى هو ما ينفع الناس.. ونعتقد أن الحضارة الغربية بلغت نهاية تطورها، في النصف الثاني من القرن العشرين.. ثم أخذت – بمقياس تحقيق إنسانية الإنسان، وحل مشكلاته - تتدهور وتفشل كل يوم جديد.. بل أخذت تتخلى عن بعض قيمها الايجابية، وبدلاً عن حل المشاكل أخذت تخلق مشاكل جديدة، سواء بالنسبة للفرد البشري، أو للمجتمع البشري.. وهذا كله سنبينه في موضعه..
5/ ما يقال عن الحضارة الغربية، كحضارة مادية، يقال عن الدين، وبصورة أوكد.. فالدين بصورته التاريخية، التقليدية، والتي تقوم على العقيدة والإذعان فقط، لا مجال له في الواقع الجديد، ولا يستجيب للحد الأدنى من تحديات هذا الواقع.. فالدين لا يمكن أن يستجاب له، إلا إذا اقنع العقول الذكية المعاصرة، وإلا إذا قدم حلولا عملية لمشكلات الإنسانية، وهذا يقتضي أن يرتفع من مستوى مجرد العقيدة، إلى العلم.. مع ملاحظة أن الإيمان هو المقدمة الطبيعية، لأي علم، مادي أو روحي، ديني أو دنيوي..
6/ خلاصة قراءة الواقع تقول إن البشرية المعاصرة، وصلت إلى قمة تطورها البشري، وهي قد تهيأت لدخول عهد إنسانيتها.. وهذه هي الغاية الكونية، التي يعمل لها الكون كله، وليس الحياة فقط.. يقول تعالى: (وسخر لكم ما في السموات والأرض، جميعا، منه) ويقول: (ولله جنود السموات والأرض).. فقوى الخير، وقوى الشر جميعها، مسخرة للإنسان، مسخرة له، لتحقيق إنسانيته، وليبرز إلى مقام عزه، كخليفة لله في الأرض.. وقد استعدت الأرض لهذا النبأ العظيم، وليس لها عنه مندوحة فإن الله بالغ أمره..
والآن لنرى، من أقوال الأستاذ محمود ما يؤكد هذه النقاط الخاصة بقراءة الواقع الحضاري، وما تقتضيه هذه القراءة.. أو بعبارة أخرى نقد الواقع..